آية (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ).. سندًا للمرأة والأمة
مقدمة
يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (الأحزاب/ 32-34)
حينما نعتقد بوجوب مكوث المرأة في البيت وحصر قدراتها الإنسانية في المهام المنزلية وتربية الأولاد امتثالاً لتفسير الآية الكريمة (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، فنحن نُحجّم من قدراتها الرامية إلى تحقيق دورها الإنساني، ولقد أثبتت العديد من التجارب الإنسانية أنَّ تحقيق أي تغيير إيجابي في المجتمع لا بد وأن تسبقه معرفة وانخراط في المجتمع، فلم تكن الريادات النسائية على مرّ التاريخ بمنأى عن مجتمعاتهنَّ وأبرز تحدياتها، بل ولم يصلن إلى درجة الريادة المجتمعية إلا حينما ساهمنّ بفعالية في تجاوز تلك التحديات ومعالجتها.
كما نجد المخالفة الصريحة لما ذهب اليه تفسير (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) مع ما نصت عليه الكثير من الآيات القرآنية حيث عبّر “القرآن الكريم” عن جوهر حفظ حقوق المرأة، وحقٌّ لنُصوصهِ أن يُستهدى بها وبروحها ليُشيّد على أساسها نظامُ عدالةٍ عالميٍّ واسع يزيل أيّ ظلم وتحيّز واضطهاد ضدّها، ومجرّد استعراض سريع لعيّنة مصغّرة من الآيات الشريفة والتأمّل في دلالة طيّاتها لتثوير مخزونها الحقوقيّ.. نستطيع تلمّس الآتي:
-ضمن لها بارئها إعطاءها حقّها وأجرها كاملاً، بينما لا يساوي المجتمع بينها وبين الرجل في الأجر فيبخسها عملها، وعادة تكون للذكَر الأولوية عليها وإن كانت الأكفأ منه ..
(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195)
-كفل حقها في المشاركة السياسة والوعي بالهمّ العام والبيعة والانتخاب والتأييد والمعارضة..الخ، مما يستلزم في الكثير من الأحيان خروجها من البيت.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:12)
-القرآن الكريم يرى أنّ بيت الزوجية ملكٌ لها، بينما اعتبرها المجتمع في المرتبة الثانية، فزوجها الذي يملك البيت وهي تعيش معه فيه.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)(الطلاق:1)
-حقّها في التقاضي ورفع الشكاوي والاعتراض مضمون في ثقافة القرآن وقضاء العدل الإلهيّ
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1)
-كفل لها حقّها في الصحة الجسميّة والإنجابيّة وعدم مضارّتها وظيفيّاً جرّاء حملها وولادتها..
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) (البقرة:233)
-حفظ لها القرآن كرامتها وأكّد على معاقبة التشهير والتحرّش بسمعتها وعرضها، بينما لا يواجه المعتدون على كرامة المرأة في مجتمعاتنا عقوبات صارمة تردعهم عن ممارسة الأذى النفسي والجسمي ضدّها..
(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)
-أما العدالة والمساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص والكرامة.. فقد تجلّت في هذه الآية الكريمة:
(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ، وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب:35).
اذن، كيف وبعد كل ما مُنحت إياه من هذه الحقوق الإنسانية يطالبها بلزوم بيتها، وبحصر ما مُنحت من قدرات في إدارة بيتها فقط، لاسيما أن الكثير من أعمال النساء في زمن النزول كانت خارج البيت من أعمال الطبابة والمشاركة في الحروب والعمل في التجارة كما فعلت السيدة خديجة عليها السلام وهي زوجة النبي (ص)، بل عندما قرّر أبو طالب الدخول مع المسلمين وبني هاشم في الشِعب حمايةً للنبيّ (ص) من الاغتيال، التحقت بهم معلنةً موقفها السياسي المؤازر للدعوة وجماعتها، فالسيدة خديجة لم يفرضوا عليها الحصار بل طلبوا منها أن تسكن بيتها! إلا إنها تركت بيتها ودخلت الشعب كعملٍ تطوّعيّ رأته واجبها الإنسانيّ أسوةً بالمحرومين، ولم تخرج منه إلا بعد إفشاله، وصبرت -مع ثرائها ورغدها وشرف مكانتها- على الجوع الاختياريّ وشظف العيش وجشوبته في الشعب وماتت بعد فترة وجيزة من انتهاء الحصار بسبب المرض والنحول والإجهاد.
وَقَرْنَ ..بحسب رأي التفاسير:
قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33)
قالوا: (معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي (ص) فقد دخل غيرهنَّ فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهنَّ، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة)
(ذكر الثعلبي وغيره: أن عائشة – رضي الله عنها – كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها، قال ابن عطية: بكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل، وذكر أن سودة (زوجة النبي(ص)) قيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. رضوان الله عليها.
قال ابن العربي: لقد دخلت نيفًا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالاً ولا أعفَّ نساء من نساء نابلس، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارًا إلا يوم الجمعة فإذا قضيت الصلاة لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى. وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه.
وَقَرْنَ…في اللغة:
هكذا روج المفسرون والفقهاء للمعنى السابق رغم أنه مخالف للعربية، وخالفهم فيه علماء العربية، فإذا كان الفعل (قرن) من القرار ولزوم المكان، فإن فعله الثلاثي هو قرّ، ثلاثي مضاعف، مثل ظلّ، مرّ، وقواعد العربية في الفعل الثلاثي المضعّف تقول: (اذا أسند الى ضمير ساكن وجب فيه الإدغام ، نحو ” مدا، ومدّوا، ومدّى ” واذا أسند الى ضمير متحرك – وهو نون النسوة – وجب فيه الفك، نحو ” امددن ” وإذا أسند إلى الضمير المستتر جاز فيه الأمران: الإدغام، والفك، تقول: ” مدّ ، وظلّ، وخفّ ” وتقول : ” امدد ، واظلل ، واخفف ” والفك أكثر استعمالا وهو لغة أهل الحجاز، قال الله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]. والفعل هنا اتصل بضمير متحرك وهو نون النسوة فيجب فيه الفك، أي أن تقول (اقررن).
لأجل هذا دارت بين النحويين والمفسرين جولات لمعالجة الأمر، فمن أبقاها على قراءة المصحف عالجها بطريقة النحاة، وآخرون غيرّوا قراءتها إلى الكسر (وقِرْنَ) وأجروا لها معالجات أخرى، وآخر قال إنها (واقررن) خروجًا من كل هذا الجدل وعودة باللفظ إلى مقتضى اللغة.
واقتضى منهم ذلك الاختلاف في مقاصد الآية بين الاستقرار، وقرة العين، والقرار[1] والاجتماع، والوقار، وأكثرهم هروبًا من المقتضى غير الواقعي الذي ذهب إليه المفسرون، من وجوب بقاء المرأة في بيتها لا تخرج منه إلا لضرورة.
فبعضهم خففه فجعل (الحاجة) شرطًا لجواز الخروج وليس (الضرورة)، وبضعهم ذهب للوقار وغيره من المعاني غير ذات معنى في مثل هذا السياق، فما هو وجه الحكمة في أمر النساء بالوقار في بيوتهن؟ فعلى رأي المفسرين لم يلتزم أحد من المؤمنين بمقتضى الآية، فطوال التاريخ والنساء يخرجن للأسواق والأعمال، والتنزه، والزيارات، بل والجهاد وغير ذلك، لم ينكر عليهم منكر إلا من ظنوا أن تكليفهن البقاء في بيوتهن {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] وكأنهن من مرتكبات الفاحشة.
وَقَرْنَ…وفق كلمة الله:
-القرِنُ: هو المثيل في الشدة والشجاعة والعلم والصفات، الخ، وقولهم قرن بين القول والعمل: جمع بينهما، قارن الشيء بالشيء وازن بينهما، قابل بينهما، سوى بينهما،
-ويقال: قرين سوء، {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38] {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].
-قال تفسير شبر: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ بالكسر من قَرَنَ يقرِن، وقرئ بالفتح وهو لغة فيه)، والأصل فيه هو فعل الأمر (اقْرِنَّ)، أي (واقْرِنَّ في بيوتكن)، أو (واقْرَنَّ في بيوتكن)، حذف الألف والتضعيف للتخفيف فصارت وقرن في بيوتكن، وأما قوله سبحانه: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ): فالخطاب لهن وهو ألا يطعن أزواجهن بمعصية الله ورسوله، فالاقتران بالزوج سيتطلب من الزوجة والزوج التخلي عن شيء من الذاتية بما تتطلبه حياة الشراكة الجديدة، خصوصًا النساء لأنهن الحلقة الأضعف، فهنا تنبيه لهن بأن التنازلات بغرض توثيق الروابط الأسرية يجب ألا تتضمن مخالفة الله والرسول وعصيانهما.
ولكن هل من خصوصية للبيت الزوجي في الأمر الإلهي للنساء (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)؟
البيت هو الجزء المكمّل لما هو خارج البيت، ففي خارج البيت، هناك أدوار متعددة للأفراد، ومع الإقرار بالمساواة في الإنسانية بينهم جميعا، إلا أن للأدوار الاجتماعية تراتبية وسلطة تتسع وتضيق على حسب التراتبية الاجتماعية. فالطبيب والمريض ليسا قرناء، وكذلك الشرطة والناس، والحاكم والمحكومين، .. الخ. فهناك تفاوت يحصل بطبيعة الدور الاجتماعي للأفراد خارج البيت.
أما داخل البيت، فالتراتبية تسقط بين الشركاء، فالعلاقة بين الزوجين لا تخضع لهذه التراتبية، سواء كان نبيا أو غيره من سائر الناس، ومهما كانت أدوار الرجال الاجتماعية في زمن التنزيل أو في يومنا هذا، باعتبارهم هم المقاتلون وهم التجّار وهم الصيادون والعمال المهرة والأيدي القوية للعمل والإنتاج، إلا أن هذه الأدوار والسلطة الناتجة بسببها يجب أن لا تنتقل إلى داخل البيت، فالبيت الزوجي دار سلام لا يتحقق الاستقرار فيه الا بزوجين قرناء لبعضهم البعض دون أن يعلو طرف على الآخر، فكل أزمات العلاقات الزوجية ما هي إلا نتاج استعلاء طرف على الآخر.
آية (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) هي خطاب لنساء النبي (ص) بشكل خاص ولعموم النساء بشكل عام، لأن تكون الزوجة كفؤة في بيتها تتحمل المسؤولية، فالنساء شقائق الرجال، والبعض أخذ بظاهر النص وأنه خطاب مخصوص لنساء النبي، والحق معه فيما يخص نساء النبي وحدهنَّ، وهي مضاعفة العقاب على من تأتي الفاحشة منهنَّ، ومضاعفة الثواب لمن تقنت لله وتطيع الرسول منهن، وذلك راجع لخصوصيتهن وأنهن لسن كأحد من نساء المؤمنين.
وأما عدم التخضع كما ورد في الآية (32) من سورة الأحزاب(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) فقد نُهيت نساء النبي(ص) عن التخضّع عند مخاطبة الرجال، وذلك بالانسياق وراء العواطف والتأثّر بها. ومن أسباب هذا النهي أن بعض رجال المسلمين كانوا يقصدون بيوت النبي (ص) طمعاً لقضاء بعض شؤونهم (الحياتية)، والبعض الآخر(ممّن في قلوبهم مرض) كانت لديهم مآرب خبيثة لاختراق بيوت النبي والتعدّي عليها،
فيطلبوا من زوجات النبي(ص) القيام ب(التوسّط/ الشفاعة) لهم عند النبي(ص) لتحقيق أغراضهم والحصول على موافقته، فيلحّون في طلبهم وشكواهم ويتوسلون بهنّ ويظهرون سوء حالهم، وهذا ابتزاز عاطفي، وقد يتأثرنّ (أمهات المؤمنين) بكلامهم فتغلب عليهنّ العاطفة والشفقة (فيخضعن بالقول) لتوسلاتهم، ويشفعنّ لهم عند النبي (ص). وهذا لا يليق بنساء النبي القائدات المربيات، إذ أن أدوارهن القيادية والتربوية تستدعي أن يتحكمنّ في عواطفهنّ وينصتن لصوت العقل والحكمة ويقلنّ قولاً (معروفاً) أي القول السديد المتعقّل الصادر عن وعيٍ وحكمةٍ. وهذا التوجيه (عدم الخضوع بالقول) هو أيضاً لعامّة النساء، فهو أدب للمرأة بما هي امرأة، حتى لغير المؤمنة، فيجب أن تتصرف في الحياة كامرأة لا كأنثى، فما بالك بالمؤمنات، وما بالك بزوجات الأنبياء!
وكذلك في عدم التبرج الجاهلي، كما كانت تفعل النساء زمن الجاهلية، من التهتك في اللباس واتخاذ الأخدان وغير ذلك. فالتبرّج من برج وهو البروز والظهور وبالتالي، هو المعنى المعاكس للقرن والاقتران والمقارنة. فالتبرّج هو خروج عن حالة القِران، أي تجاوز الزوج وإحكام السيطرة الفردية على البيت، وهذا تحذير لعدم التجاوز كما حصل سابقا حين منع الرسول (ص) ضرب النساء، فذأرن، فنزلت آية الضرب، فهذا التبرج هو من أعمال الجاهلية، كما يمكن فهمها على أنها إشارة الى النظام الأمومي قديماً قبل تأسيس نظام الزواج حين كانت السيادة للمرأة، فالآية كما أنها تعيد تنظيم الأدوار وتعزّز مكانة المرأة في بيتها لتكون قرينةً لزوجها بعد ما أهانتها الجاهلية السابقة على الإسلام، تحذّرها من تجاوز الحد وإرجاع النظام الأمومي (عشتار).
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)..معان أخرى:
اللغة العربية لغة ثرّية بكلماتها ومفرداتها وغنية بالمعاني المتعددة المشتقّة من “جذر الكلمة” سواءً كانت اسماً أو فعلاً. وقد نزل القرآن بالعربية، ومن تميّزه وفرادته أن وُصف بأنّ ” كل كلمةٍ في القرآن تحمل معنى، وتومئ إلى معنى، وتستتبع معنى”.
ومن شواهد هذا التفرّد في المضمون والتعدد في المعاني هو الآية الكريمة التي نحن بصددها (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ).
فعلاوة على ما ذُكر أعلاه من معانٍ متعددة لكلمة (وقِرن)، نضيف معاني أخرى مشتقة من جذر فعل الأمر (قرن) كما جاء في معاجم اللغة العربية، ومنها:
1-القَرَارُ، بمعنى: (الاستقرار)، فأَهْلُ القَرَارِ هم أَهْلُ الْحَضَرِ، الْمُسْتَقِرُّونَ. ودَارُ القَرَارِ هي الآخَرِةُ [2]
2-القرار: بمعنى ما قُرِّر وثبَت عليه الرَّأْي، أي ما صمَّم عليه الإِنسان بعد التَّفكير ومضَى فيه بثَبات. ويُقال هُوَ مِنْ أَهْلِ القَرار أي مِنْ أَهْلِ السُّلْطَةِ وَالرَّأْي. وعكس ذلك من (لا قرار له): أي غير ثابت، ومن لا يستقر على رأي.
3-قرّت الأعين: السرور الحاصل في النفس؛ لمقابلتها ما يسّرها، مع تحقُّق الرضا التامّ، وعدم النظر إلى ما سواها. وقرّة العَيْن: ما يلقى المرء به سرورًا فلا تطمح العين إلى ما سواه/ ويقال: هو قرَّة عين أمّه: سرورها وسكونها[3].
وجميع تلك المعاني نجد مصاديقها في بيت الزوجية، وفي العلاقة بين الزوجين.
*ففي المعنى الأول، القَرَارُ بمعنى(الاستقرار)، نجد أنه عندما تستقر المرأة في بيتها فإن ذلك يساعد على استقرار الحياة في بيت الزوجية. فبيت الرجل هو المكان الذي يذهب إليه ليجد الاحترام والطمأنينة وبقيّة حاجاته، وبما أنّ أحد احتياجات الزوج هو (دعم البيت)، فاستقرار المرأة في بيتها ودعم زوجها سيكون هذا البيت هو مكانه الذي يفضّل التواجد فيه طالما ظلّت المرأة هي حصنه عن التيه وعن رفاق السوء وأخلاق السوء.
ومع أنّ الكثير من النساء يعملن خارج البيت، ولكن الحقيقة التي تبقى ثابتة هي أنّ أغلب النساء إنْ لم يكن كلّهنّ هنّ الأكثر ارتباطًا بالبيت طلبًا للاستقرار من الرجال، وهو الوضع المثالي بالنسبة للنساء.
وقوله تعالى (.. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ..) لا تعني قرين البيت أي حبيسه، (وهذا ما ليس له مصداقٌ في الواقع كله)، وإنما هو الثبات والاستقرار، لتكون الزوجة قوّةً محصّنةً لزوجها. فالبيت هو المكان الذي تقرّ وتستقرّ فيه قوّة المرأة وطاقتها وسلطتها.
*والمعنى الثاني: وهو القرار أي (ما قُرِّر وثبَت عليه الرَّأْي) فيعني أنّ على الزوجة أن تكون في بيتها صاحبة قرار، ولها رأياً مساويًا لرأي زوجها، فهي ليست تابعة له أو منساقة لكل ما يفرضه أو يقترحه الزوج، لأنّ لها الحق في إبداء رأيها شأنها شأن زوجها، وهذا ما يحقق مبدأ (الشراكة) بين الزوجين. فكلاهما مسؤول عن اتخاذ القرارات المتعلقة بأمور الأسرة وتربية الأبناء، وكيفية معالجة المشاكل ومواجهة التحديات، والتخطيط لمستقبل الأسرة..الخ. وهذه هي الشراكة الحقيقية والسبيل لتحقيق أسرة آمنة، ينعم أفرادها بالمحبة والسكينة والاستقرار.
*أمّا المعنى الثالث وهو قرّ أو قرّت كما نقول (قرّت الأعين) فهو ما يلقى المرء به سرورًا فلا تطمح العين إلى ما سواه،
ومصداق ذلك الزوجة الصالحة التي تقّر عينها بزوجها حين يحترمها ويقدّرها ويُحسن معاملتها، فلا تتطلّع إلى غيره ولا تمدّ عينيها لما تتمتع به بعض النساء الأخريات من مال وثراء وإمكانيات مادية ومعنوية، بل هي راضية بزوجها تبادله المودة والاحترام وتبذل كل ما بوسعها للحفاظ على كيان أسرتها … “فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ”.
*المعنى الرابع: (وقرن) وهو البقاء أو المكوث في البيت، ولكن هذا لا يعني أن النساء يجب أن يمكثن في بيوتهن على الدوام ولا يخرجن منها، لأن هذا خلاف الواقع والوضع الذي نعيشه في عصرنا الحالي، فبقائهن في البيت أمر غير منطقي ولا يتناسب مع الأدوار المجتمعية والربانية المناطة بهن، فهنّ مسؤولات عن نهضة الأمّة وتطوير المجتمع والقيام بمسؤولياتهن تجاه أسرهنّ ومجتمعهنّ، وتحمّل أمانة الاستخلاف وإعمار الأرض.
أمّا ما جاء في الأمر الإلهي (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) لزوجات النبي (ص) بالمكوث في بيوتهن وعدم الخروج منها فقد كان هذا النهي نتيجة ظرفٍ استثنائي واجهنه آنذاك، نذكر تفاصيله فيما يلي:
كانت نساء النبي (ص) يقمن بدورٍ تعليمي وتربوي وإرشادي كبير، ويطُفن ببيوت نساء المسلمين من المهاجرين والأنصار لتعليمهن آيات الله وتوضيح أمور دينهنّ ودنياهنّ، فاستغلّ المنافقون هذه الفرصة فتربصوا لهنّ ليمنعونهن من القيام بدورهن التوعوي والتعليمي الهام، وقاموا بمضايقتهن في الطريق وأثناء وجودهن في بيوت المسلمين، فنزلت آياته الكريمة التي تأمر زوجات الرسول (ص) بالبقاء في بيوتهن (وقرنّ في بيوتكنّ) مع الاستمرار بالقيام بدورهن التعليمي في بيوتهن. فأفشل الله بذلك مآرب المنافقين الخبيثة للنيل من الرسول (ص) وزوجاته.
فتلك كانت مناسبة نزول الآية وذاك كان غايتها، فقد خاطبت نساء النبي (ص) بالخصوص وتوجّهت لمعالجة حالةٍ خاصة وفي ظرفٍ خاص، فاستجابت نساء النبي لهذه الآية وعملن بها دون أن يتخلّين عن أدوارهنّ كمعلّمات وأمهات ومرشدات للمؤمنين. فحقّقن المراد منهنّ في زمن النبي (ص) بعلمه ومباركته، ومن ثمّ بعد وفاته ساهمت الرائدات منهنّ بالعمل المجتمعي والمشاركة في قضايا الشأن العام إلى نهاية حياتهن كعائشة وأم سلمة رضي الله عنهما.
وبالرجوع للآيات الكريمة: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) سنجد أن الآيات ذاتها تناقض ما يذكره البعض من وجوب بقاء نساء النبي وعموم النساء في البيت، فعلى سبيل المثال:
وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ: كيف يُقمن “الصلات” مع الناس والمجتمع وهنّ عاكفات في المنازل؟
وَآتِينَ الزَّكَاةَ: وكيف يقمن بالتزكية وإرشاد النساء المسلمات وحركتهنّ مقيدة؟
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ: وكيف ينقلن لبقية النساء ما تعلمّنه من آيات الله والمعرفة والحكمة التي أخذوها عن النبي (ص)؟
فكل هذه شواهد على بطلان آراء من يقول بلزوم بقاء النساء في البيت على الدوام، وهذا يتعارض مع الأمر الإلهي الذي يحثّهن على القيام بمسؤولياتهنّ وممارسة أدوارهن المجتمعية.
ومع ذلك، فإن المتربصين والمغرضين من زمن الرسول (ص) وإلى يومنا هذا وظّفوا الآية الكريمة لخدمة أغراضهم لإبقاء المرأة في بيتها وحرمانها من حقّها في أداء أدوارها الاجتماعية لكي تبقى في خدمتهم وإمتاعهم عِوضاً عن الإسهام ولو بالقليل في خدمة المجتمع والناس. وقد بالغوا في التأكيد على بقاء أو “حبس” المرأة في بيتها واعتبروا ذلك من أكبر فضائلها! واستندوا في ذلك على بعض الروايات الزائفة التي تنصّ على أن أفضل النساء من لم تخرج من بيتها إلا مرتين: مرّة عند انتقالها من بيت أبيها إلى بيت زوجها، ومرّة حين خروجها محمولة إلى قبرها!
وهكذا أحكموا الخناق حول المرأة وأغلقوا أبواب الحياة والمجتمع دونها، فما أن تتفوّه بحقٍ من حقوقها أو أن تُبدي رغبتها بالعمل والمشاركة الاجتماعية، سارعوا بإشهار هذه الآية في وجهها لمنعها من ذلك، فماذا كانت نتيجة ذلك؟
النتيجة أن وُسمت النساء بأنهنّ ناقصات عقلٍ ودين.
إلا أن الشواهد التاريخية تدحض هذه المقولة حيث أن النساء في عصر الرسالة قمن بأدوار ووظائف مهمة ومتخصصة، فمنهن السيدة عائشة التي كانت تجلس مجلس القضاء، والسيدة فاطمة الزهراء التي ألقت خطبتها المشهورة في المسجد النبوي على الملأ من الرجال والنساء بعد وفاة أبيها، كما أن الصحابية ( سمراء الأسدية) تولت الحسبة في مكة أيام الرسول (ص)، والحسبة فرع من فروع القضاء، وأن عمر بن الخطاب قد ولّى الشفاء بنت أبي سليمان سوق المدينة، وأعطيت المرأة حق إجارة من استجار بها، واحترام إجارتها، كما فعلت أم هاني بنت أبي طالب يوم فتح مكة.
فقد قامت النساء بتلك الأدوار وغيرها وهي حديثة عهدٍ بالإسلام وللتو خرجت من ظلمات الجهل والعبودية في زمن الجاهلية، فما بال المرأة اليوم وقد مضى على إسلامنا الحنيف أربعة عشر قرناً ونيف! وكم من التغيرات حدثت وكم من الميادين ولجت وكم من المناصب تبوّأت؟ ومع ذلك يصرّ بعض رجال الدين على آرائهم وأن الآية الكريمة صرّحت بلزوم النساء بيوتهن وعدم الخروج منها إلا لحاجةٍ ملّحة. ومن يرجع لأقوال الرجال والمفسرين سيجد عجباً من تحقير المرأة وامتهان كرامتها واعتبارها جزءًا من متاع البيت أو سلعة، وغير ذلك الكثير.
ختام الآيات تعلن المساواة بين الجنسين:
ثم تختم الآيات بإعلان المساواة بين الجنسين أمام الله وفي الدين، وتكافؤهما في المنزلة والرتب:
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وذلك لقطع أي محاولة امتهان للنساء يتم اسقاطها على معاني الآيات، وما تقديم الضمائر المذكرة على المؤنثة في الآية (زيادة على ما فيه من جمال السبك) إلا للفت نظر النساء بأنهن قرينات مكافئات، مطالبات بنفس المطالب والمراتب، لا فرق، مخافة ألا يعلمن ذلك لسبب ظروف الجهاد وما للرجال من تقدم فيه عليهن لطبيعة المهمة، خصوصًا والكلام نزل في وقت غزوة الأحزاب وسورة الأحزاب.
الخلاصة:
-آية ” وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ” بدلاً من أن تكون سندًا للمرأة والأمة أصبحت عاهة للمرأة المسلمة والأمة بفضل التجهيل وتجاوز الحقائق والوقائع.
-كلمة: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ): لا تعني عدم الخروج كما ذهب المفسرون إليه، وإنما أن تكون قرينة زوجها، كفوًا له، المرأة صنو الرجل (أي: النظير والمثيل)، لذا قال الله يصف نفسه منزّهًا ذاته من القرين: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] فعقد القِران هو عقد كفء بين رجل وامرأة.
-اللغة العربية لغة ثرّية بكلماتها ومفرداتها وغنية بالمعاني المتعددة المشتقّة من “جذر الكلمة” سواءً كانت اسماً أو فعلاً. وقد نزل القرآن بالعربية، ومن تميّزه وفرادته أن وُصف بأنّ ” كل كلمةٍ في القرآن تحمل معنى، وتومئ إلى معنى، وتستتبع معنى”، ومن شواهد هذا التفرّد في المضمون والتعدّد في المعاني هو الآية الكريمة (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، فمن جذر فعل الأمر (قرن) تتفرع معان أخرى، منها: الاستقرار، القرار أي (ما قُرِّر وثبَت عليه الرَّأْي)، قرّ أو قرّت كما نقول (قرّت الأعين) فهو ما يلقى المرء به سرورًا فلا تطمح العين إلى ما سواه، وجميع تلك المعاني نجد مصاديقها في بيت الزوجية، وفي العلاقة بين الزوجين. أما ما ذهب اليه المفسرون من معنى (وقرن) بوجوب مكوث زوجات النبي في البيوت وعدم الخروج، فقد كان هذا النهي نتيجة ظرفٍ استثنائي، لمعالجة حالةٍ خاصة وفي ظرفٍ خاص.
-سياق الآيات يفضي لترسيخ المساواة بين الجنسين أمام الله وفي الدين، وتكافؤهما في المنزلة والرتب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وما تقديم الضمائر المذكرة على المؤنثة في الآية (زيادة على ما فيه من جمال السبك) إلا للفت نظر النساء بأنهن قرينات مكافئات، مطالبات بنفس المطالب والمراتب.
-التضليل والظلم والضرر الذي لحق بالمرأة المسلمة بشكل خاص وبالإسلام عمومًا، بلغ حد ألغى وجودها وكيانها وقرارها في ظل الهيمنة، فالآية خطاب يسند المرأة التي كرّمها الإسلام وليس خطابا لإذلالها وامتهانها. وبالتالي التفاسير والتشريعات في هذا الاتجاه لا تنهض منطقيًا ولا مستقبل لها عقائديًا حتى بالقوة والهيمنة والجبروت، لأنها ببساطة لا مصداقية لها توافق الحق وكرامة المرأة والحقيقة.
[1] سنتطرق إلى هذه المعاني لاحقاً.
[2] ” وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ” (غافر/ 39)
[3] فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ“(مريم/ 26)
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.