قبل النكسة بيوم.. رواية تستدعي الماضي بآلامه

image_pdf

مثَّلت نكسة 5 يونية 1967 م طعنة لمصر لم تضمّد جراحها بعد، لذا جاءت رواية ( قبل النكسة بيوم ) للدكتور إيمان يحيى الطبيب والروائي القدير، والتي صدرت عن دار الشروق،  لتقدِّم قراءة في السنوات التي سبقت هزيمة يونية 1967 فهذه الحرب لم تكن مجرَّد حرب عابرة بل نتيجة لتداعيات سبقتها. الرواية في ذات الوقت تستدعي أحداث ثورة 25 يناير 2011 م لنرى تواصلا للأجيال؛ الجيل الذي عاصر هزيمة يونية 1976 وأحفاده الذين يشاركونه الأحلام في وطن آمن متقدِّم  في أحداث 2011، إذًا، من أين تنطلق الرواية؟ تنطلق من حلم فتاة من النوبة والدها يعمل بواب في احدى عمارات شارع قصر النيل، تقتنص فرصة التعليم المجاني لتحصل على دبلوم تجارة وتعمل في إحدى الشركات على الآلة الكاتبة، وفي ذات الوقت تلتحق بمعهد الخدمة الاجتماعية لكي تكمل تعليميها، وتصبح مثار إعجاب أسرتها، قادها طموحها للعمل السياسي في منظَّمة الشباب ولدوراتها التدريبية التي تتعرَّف خلالها بالمدرب حمزة النادي الذي يحاضر في معهد التدريب بحلوان، ومن هنا تنطلق في حبها لحمزة النادي ابن الطبقة الوسطى الذي يسكن شبرا، وفي خلال هذه الأحداث تشاهد عن قرب الرئيس جمال عبد الناصر في أثناء الدورة التدريبية، الرواية تقدم فصولا من تاريخ اليسار في مصر وحركة القوميين العرب قد تبدو أنها جزءا من سياق أدبي اقتضته مسيرة الأحداث في الرواية، لكن في حقيقة الأمر الرواية ظل لأحداث حدثت فعلا، كما أن الرواية بهذا تستكمل ما لم يكتبه المؤرخون عن هذه الحقبة حقبة ما قبل هزيمة يونية 1967 وما جرى قبلها، لذا فإن الرواية تعكس صراعات السلطة في مصر قبل الهزيمة، الرئيس والمشير وقلق الرئيس من تصاعد قوة المشير، غرور القوة الذي كان يعتري السلطة في مصر، الأزمات الاقتصادية الطاحنة ومحاولات زكريا محي الدين لمعالجتها وكبح الرئيس له خوفا من خسارته الناس، وهو ما دفعت ثمنه مصر لاحقا أضعافا مضاعفة، حرب اليمن وتداعياتها على مصر اقتصاديا وسياسيا، سوق المجندين لمعركة بالجلاليب ودون تدريب، مانشيتات الصحف التي ترى النصر قريبا، لكن الأهم في الرواية هو أن نظام الرئيس عبد الناصر كان يأكل نفسه من الداخل عبر اعتقال وتعذيب أنصار الرئيس في عصره وبعلمه، حتى فقد حمزة النادي بطل الرواية الذي كان يؤمن بالعروبه الأمل فنراه يقول: ( لا أشعر بالحرية، حرية إيه يا كريمة أخرجت من سجن صغير إلى سجن كبير ) وحين قامت ثورة 2011 كان هاجر إلى الولايات المتحدة نراه أمام شاشة التليفزيون يتذكر الأحداث على النحو التالي: ( عندما أتذكر كيف التحقت بشركة ماكنزي للاستشارات المالية والادارية أزداد يقينا بأن هذا العالم صغير جدا، أصغر مما كنت أتصور،بعد مغادرتي القاهرة عقب وفاة جمال عبد الناصر ذهبت إلى الكويت للعمل في مكتب محاسبة قانونية، دفعتني معاناة الهزيمة المرة في السابع والستين، والفترة التي قضيتها في المعتقل قبلها وبعدها، إلى التفكير في الهجرة إلى عالم غير مهزوم، وغير مريض بهواجس كاذبة،تحطم حبي الأول على صخرة الاعتقال والتقاليد، لم يعد هناك أي شيء يربطني بالبلد، مشروع سياسي آمنت به، فظهر سرابا خادعا، كان الخروج هو الحل ).

الرواية إذن، تقدِّم انهيار جيل عاصر هزيمة يونية 1967 هذه الهزيمة التي بدأت قبل أن تحدث، ففي بلد يفقد الإنسان حريته ويدخل السجن دون جريمة تصبح الهزيمة هزيمة لكرامة الإنسان وثقته في بلده، وهو ما حدث لبطل الرواية، على الرغم من أن زكي الزوج تزوج كريمة حبيبة حمزة النادي والذي كان مجندا في حرب اليمن ثم في حرب يونية 1967 نراه يقول ما يلي: ( أنا خدمت في حرب 67 وشفت الهزيمة بعيني، لكن ما ساتسلمناش، واتغلبنا على صدمتنا ).

لخص الراوي مصر وما يجري بها عبر أحداث الرواية في مقتطفات في الرواية من مقالات ثلاثة نشرها صلاح عيسى في مجلة ( الحرية البيروتية ) تحت عنوان ( الثورة بين المسير والمصير ) فنرى صلاح عيسى يتحدَّث عن الغرور الثوري على النحو التالي: (… يضعون الإنجازات التي حققتها ثورة يولية، في موضع المقارنة مع الأوضاع القائمة قبل الثورة في مصر، وفي الأمة العربية، وكان حصاد المقارنة تلالا من الأرقام يكفي تأملها للشعور بالرضا الذي ينقلب مع التحليل إلى ثقة متزايدة بالذات، تتعدى حدود الثقة الدافعة إلى العمل، إلى الثقة التي لا تحسن تقدير ظروفها…..، وتلك بعض أعراض الغرور الثوري الذي يتغذى على الإحباط المتكرِّر الذي التهم الثورة العربية تجربة بعد تجربة… ).

الرواية قدَّمت طوابير الجمعيات للحصول على السلع، والفساد الذي صاحب هذا من قبل موظفي الجمعيات، بل نرى الرواية تقدم التحايل للحصول على الرزق عبر أم محمد التي تحصل على كوبونات القماش التي يحصل عليها الموظفين كجزء من الدعم، لتقوم ببيعها لآخرين، لنرى حيرة البطلة كريمة في كيفية توصيف أم محمد هل هي من أعداء الثورة أم من ضحاياها،لنرى هذا الوضع المضطرب تعبر عنه الرواية في مواقف متتالية لنرى الرواي يستعين بمقال لصلاح عيسى يلخص صلب موضوع الرواية كما يلي: ( فعلى المستوي السياسي مثلا تعثرت الخطوات الأولى لبناء التنظيم السياسي نتيجة لعدم وضوح المرحلة الجديدة، وافتقادها للمضمون الطبقي، وبذلك تسللت الطبقات المعادية للاشتراكية إليه.. وفي المستوي الاقتصادي أدى تبني الميثاق للمنهج البورجوازي الصرف في علاج المسألة الاقتصادية إلى قلة كفاءة القطاع الزراعي إنتاجيا، وخلق صعوبات كان في الامكان تجاوزها… وعلى المستوي الفكري تزايد العداء للاشتراكية العلمية، ولم يعد مقصورا على المراكز اليمنية الواضحة، بل تسلل بالفعل إلى بعض مراكز التنظيم السياسي ومنظماته…. وعلى المستوى الاجتماعي فإنَّ سقوط الإقطاع والبرجوازية الكبيرة، لم يفتح الباب أمام العمَّال والفلاحين – باعتبارهم أغلبيَّة المجتمع لتولي السلطة الحقيقيَّة داخله ).

هنا نرى صلاح عيسى يخلص إلى أنَّ: ( هذه الظواهر هي النتيجة الحتمية للاعتماد على البنية الفوقية، وللتصور بأن في استطاعتها وحدها حسم كل القضايا ).

الأحداث بالرواية وكثافتها جعلت هناك شخصيات حقيقية تتقاطع بسيرتها الذاتية مع الرواية، لذا فهي رواية لا تستدعي التاريخ بل تقدمه في قالب تفسيري للأحداث، ومن هذه الشخصيات: جمال الغيطاني، طارق البشري، سيد حجاب، صلاح عيسى، فضلا عن قيادات التنظيم الطليعي في مصر في سيتينيات القرن العشرين والقيادات السياسية، بطل الرواية حمزة النادي يقيم من مكتبه في الولايات المتحدة الوضع في مصر وهو يتابع ثورة 2011 كما يلي: ( ذهبت حكايتي في طي النسيان. كانت تجربة فاشلة واكبت مشروعا محبطا. حلم ليلة صيف،  جاء الشتاء بأمطاره فمحاه. كابوس الديكتاتورية أطاح به، فأصبح البلد في ذيل العالم. هذه قناعاتي بعد هذا العمر الطويل، لا أمل ولا تقدم سوى بتغيير طريقة التفكير. سيظلون هناك يفكرون، ويسيرون في الطريق المعاكس لحركة الحضارة الإنسانية…. ).

الرواية ممتعه في سردها للأحداث، وبنيتها التي تحمل بعدا تحليليا، وفي عمقها، إذ أن تعاقب الأجيال من 1967 إلى 2011 تطلب تربيطا للتقدم في الزمن والرجوع في الزمن، مع بعث الأمل وخفوته نقرأ قلق الأسر على أبنائها من ممارستهم السياسة في ظل عواقب وخيمة لهذه الممارسة.

___________
*دكتور خالد عزب.

جديدنا