التنويريسلايدرفكر وفلسفة

الحريَّة والإبداع في الفكر الإسلامي

من أكثر المباحث جدليَّة في الفكر الإسلامي المعاصر بحث الحريَّة، وأوجه وجودها، وأشكال تجسّدها، وتنوّع ظهورها في الفكر الإسلامي التراثي والمعاصر، فبعض التوجّهات الفلسفيَّة قديما وحديثا، ترى أن الإيمان يقوم على التقليد والخوف والتسليم، ولا يقوم على الحريَّة والعقل والتفكير، وإلا لم يكن إيمانا في نظرهم، فالصفة المميّزة للتديُّن في نظر الفلاسفة أنه ضدّ الحريَّة، ولا يقوم على القناعة العقليَّة، ولا يخضع للنقد العقلي، بینما ترى مدارس العقلانيَّة في التاريخ الإسلامي قديما وحديثاً أيضاً أنَّ الإيمان يقوم على الحريَّة والإرادة، وعلى المقدّمات المعرفيَّة والعقليَّة والعلميَّة.

 واشتهر في التاريخ الإسلامي مصطلح « إغلاق باب الاجتهاد »، وهو في حقيقته ضعف عن ممارسة الحريَّة أو منع عنها، ونقول منع عنها، لأن الإنسان بطبيعته لا يمتنع عمَّا هو خير له، وقد حفظ لنا التاريخ اللغوي والفكري أن كلمة الاختيار التي تعبر عن معنى الحريَّة في الكثير من الميادين الفكريَّة الإسلاميَّة، مشتقَّة من كلمة الخير، فالساعي الى الخبر بحريَّة هو الإنسان المالك لحقِّ الاختيار.

وحقّ الاختيار لا يتوقَّف على الموقف الإيماني العقدي فقط، بل الإنسان مختار في الاجتهاد الفقهي والسياسي، وهو ما تمثَّل في التراث الإسلامي الحر، بتعدُّد المدارس العقديَّة والمذاهب الفقهيَّة والفرق السياسيَّة في القرون الثلاثة الأولى التي توصف بخيرة القرون، فالخيرة للأمَّة بمجموعها تمثّل في خيرة القرون في ظهور كل المدارس العقلانيَّة المؤسّسة للفكر الإسلامي كلّه في القرون الثلاثة الأولى، وهذا دليل على أنَّ ما تميَّزت به خبرة القرون هو الحريَّة الفكريَّة، من الثبات الفكري، والحريَّة الفكريَّة هي التي ولدت الحريَّة الفكريَّة، وتنوّع المدارس العقديَّة، وتعدّد المذاهب الفقهيَّة التي كانت كلها تنتمي الى الدائرة الإسلاميَّة العامَّة  قبل أن تسير الأمَّة أو تدفع نحو الضعف والجمود بقرون قليلة.

ما يلفت، أنَّ الضعف الذي أصيبت به الأمَّة في العصور الوسطى  لم يكن خاصًّا في المجال الفكري، على الرغم من أن الجمود الفكري كان مظهره الأبرز، أو العنوان المعلن، فقد كان الضعف عامّاً، ولم يكن في المجال الفكري فقط، وكان الأحرى أن ينظر إلى أسباب الضعف العامَّة وعلاقتها مع الحريَّة الفكريَّة، أي وهي تتزامن مع توقّف نشوء مدارس العقلانيَّة الإسلاميَّة وحصرها في ثلاثة قرون أو أربعة فقط، وحرمان القرون التالية من حقّها في إبداع مدارس عقلانيَّة جديدة لمدة عشرة قرون، حتى مجيء حركات الإصلاح في بدايات القرن الرابع عشر الهجري، ولكن بعد فوات الأوان أو وفاته، فقد أصبحت المسافة الحضاريَّة والمدنيَّة والتكنولوجيَّة بين الأمَّة الإسلاميَّة وآخرها المنافس طويلة ومستعصية، وقد تحتاج إلى قرون من الزمان لإحداث التقارب الحضاري على الأقل. لكن، وحتى التقارب الحضاري لن يتمّ له النجاح ما لم تتوافر له شروطه الأوروبيَّة الأولى وليس شروطه الإسلاميَّة الأولى فقط. والفارق بينهما أنَّ الحركة الإسلاميَّة الأولى واجهت جاهليَّة، وهي متسلِّحة بالنبوة والوحي المـدد، وهو غير الواقع العربي والإسلامي اليوم، بينما الشروط الأوروبيَّة للنهضة واجهت استبداد الملوك واستيداد الكنائس، أي استبداد أصحاب المصالح السياسيَّة وأصحاب المصالح الدينيَّة، وهو ما يشبه واقع المسلمين اليوم، ولو بدرجات متفاوتة من بلدٍ إلى آخر.

وكانت حركات الإصلاح الإسلامي في بدايات القرن الرابع عشر موفَّقة أيضا، لأنها توجَّهت إلى الإصلاح الديني قبل غيره، في حركة الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده وغيرهم، ولكن سرعان ما هدأت الثورة المعرفيَّة العقلانيَّة التجديديَّة لمصلحة الثورات العسكريَّة في حروب التحرير من الاحتلال، ومقاومة الاستعمار، وطلب الاستقلال المجتزأ، من دون أن تقوم بعدها حركات إصلاحيَّة وعقلانيَّة وتنويريَّة وحداثيَّة حقيقيَّة، وإنما وهي ترتسم على الاستعمار الأوروبي الغربي في الأشكال والمظاهر والعناوين، وليس خطى الوعي الأوروبي الغربي، فقامت في البلاد الإسلاميَّة دول وجمهوريات علمانيَّة کرَّرت أخطاء الدول والجمهوريات الأوروبيَّة في صناعة حضارة ومدنيَّة جافة وجامدة وقاسيَّة، بل وأقل تقدّماً ممَّا قام في أوروبا، ما دفع الشعوب المسلمة للبحث من جديد عن هويّتها الإسلاميَّة، التي طلبت منها في ثورات عسكريَّة لم يكتمل وعيها الحضاري على سنة الله في الكون والحياة والتغيير، ولم يكتمل وعيها بحاجة الناس إلى الدين مثل حاجتهم إلى العدل والمساواة.

إنَّ معركة الحريَّة في معركة الشعوب، وبقدر ما كانت الأمَّة تشعر بالحاجة إلى النهضة والتجديد وكانت تتمتَّع بالحريَّة، فإنها تقوم بواجباتها التاريخيَّة بصورة متكاملة وبنجاحٍ سريع، وبالقدر الذي لا تشعر بحاجتها إلى النهضة أو لا تتمتَّع بالحريَّة، فإنها ستسير طويلاً في طريق الاحتلال أو الاستبداد، أن الأجيال المعاصرة أمام تحدِّي الشعور بالحاجة إلى النهضة والتجديد، وأمام تحدِّي امتلاك الحريَّة، وعدم الاستسلام للاحتلال الخارجي أو الخضوع أو التعايش مع الاستبداد الداخلي.

_______
*الراصد التنويري/ العدد السابع/ شتاء 2010.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة