يظن معظم الغربيين أن القارة الأفريقية هي عيارة عن صحراء مترامية الأطراف، يقطنها شعب واحد يشترك بصفات سواد البشرة وبياض الأسنان.
لقد ارتبطت صورة أفريقيا والإنسان الأفريقي في ذهنية الإنسان الغربي بتراثه القديم الممتلئ بثقافة التعالي والعنصرية، والإيمان بتفوق العرق الأبيض على سواه من الأعراق.
ساهم بعض الكتاب الغربيين في ترسيخ هذه الصورة المتخيلة عن أفريقيا في عقل الغربي، ويمكن هنا أن نورد كتاب ” من قلب الظلمة ” للكاتب الروائي البولوني ” جوزف كونراد ” وكذلك الكاتب الألماني ” كاي ماي ” الذي كتب سلسلة من كتب المغامرات اعتمدت على الوصف الخيالي لأفريقيا، وذكر الكاتب فيها مغامرات حصلت في السودان ووصفها وصفاً دقيقاً، في حين كان هو يقبع في السجن، دون أن تتاح له فرصة زيارة أفريقيا. واللافت أن هذه الكتب ما زالت تحقق مبيعات مرتفعة في الدول الغربية.
صراع نفوذ
إن التنافس بين الدول الكبرى على المناطق الإستراتيجية والغنية، انتقل من مرحلة الصراع المسلح إلى صراع فكري وإستراتيجي حول بسط الهيمنة، وزيادة التبعية والنفوذ بأدوات العصر الحديث في توجيه الرأي العام الدولي والمحلي، ولذلك نجد كل وسيلة إعلامية ذات تمويل حكومي وتوجه دعائي لها اهتمام خاص بها، وإستراتيجية إعلامية نحو القارة الأفريقية.
نحن اليوم أمام غزو للقارة الأفريقية لا يقل في قوته وعنفوانه عن غزو الجيوش والاحتلال والسيطرة.
إن الهيمنة الإعلامية على أفريقيا هي استمرار لتاريخ طويل من المشاريع الإعلامية، التي أطلقتها محطات إذاعية وتلفزيونية دولية، وحتى منصات إلكترونية لتوفير مواد إعلامية تستهدف المواطن الأفريقي والتأثير في جمهور وسلطات بلاده.
يتمثل الاعلام الغربي بمنظومة المحطات الفضائية التي تجعل من العنف، والجوع، والتخلف مادتها الإعلامية التي يتم نقلها عبر شبكة مراسليها في القارة الأفريقية، إضافة الى إنتاج العديد من الأفلام التي يظهر فيها الأفريقي على أنه شخص تابع ومقلد للرجل الأبيض.
إن شركات الإنتاج السينمائي الكبرى مثل هوليود وغيرها تعودت أن تقدم الرجل الأفريقي على أنه الطرف الضعيف والعاجز في أعمالها الفنية، فضلا عن الصحافة المقروءة الذي كانت ـ وما زالت تتعاطى مع القارة الأفريقية من ذات المنطلق الذي تتعاطى معه شبكة الإعلام المرئي.
أفريقيا الحقيقية
لكن أفريقيا الحقيقية أكثر تعقيداً كثيراً من الصور التي نراها بانتظام في وسائل الإعلام الغربية، التي دائما ما تصور الجانب السلبي من القارة. فيما يحاول الإعلام الأفريقي الرد من خلال إظهار صور أكثر إيجابية وواقعية، على أمل أن يتعرف العالم على أفريقيا الحقيقة التي لا يعرفها الغرب أو يحاول تشويهها.
لطالما تعودت وسائل الإعلام الغربية على النمطية في نقل أخبارها والحديث عن القارة، ومن هنا يمارس أصحابها مهنتهم على تلك الأسس، تبعا لأهداف قد تكون معلنة، والعكس صحيح، إلا أنها – أي الأهداف- تتمحور حول إبراز صورة الغربي بأحسن حال من صورة الأفريقي.
في معظم وسائل الإعلام الغربية، نرى في التقارير الإخبارية أن الرجل الأبيض هو الذي يقوم بتغذية الرجل الأسود، ومساعدته وتقديم العلاج له، ولن ترى في التقارير أن الأفارقة يساعدون أنفسهم أو يساعد بعضهم البعض.
أخبار الحرب الأهلية في الصومال، وكذلك الإرهاب نيجيريا الذي يستنزف مقدراتها في مواجهات عسكرية مع تنظيم بوكو حرام، ومرض إيبولا المميت يمزق سيراليون، كلها عناوين كانت تنشرها وسائل الإعلام الغربية عن أفريقيا للعالم.
لكن ما أسباب الحرب في الصومال ومن الذي أوقدها؟ من الذين وراء جماعة بوكو حرام، ومن يمولهم؟ ما حقيقة إيبولا وكم من الدول مصابة به؟ لن تسمع أي شيء من هذا القبيل، وذلك لسبب بسيط أن كل هذه الأحداث تجري في أفريقيا.
إعلام غير حيادي
إن كون الإعلام الغربي يوفر مساحة للحرية وسقفا مرموقا لذكر الحقائق أو بعضها، ويضفي بعض الحيادية والموضوعية في طرح المواضيع لا يعني استقلاليته، فهذه الحرية تعدم تماما حين يتعلق الأمر بالتأثير على الرأي العام في نقاط ساخنة تتصل مباشرة بالسياسة الخارجية، خاصة التي تمس مصالح الدول الغربية في أفريقيا أو غيرها من القارات، ولهذا تتمتع الشعوب الغربية ببعض تلك المصداقية في الشؤون الداخلية، بينما تنعكس الصورة تماماً في الشؤون الخارجية.
الحكومات الغربية تحرص على سياسة الانفتاح والفضفضة والنقد المفتوح في إعلامها الذي يتناول القضايا الداخلية والخاصة بشعوبها، ولكن حين يتعلق الأمر بأفريقيا والسياسات الخارجية فلابد من تسييس الخبر، وتكميم الأفواه، وحجز المعلومات، ووضع أجندة خاصة.
وكذلك فإن هذه الصحافة الغربية لا تتردد في استخدام الأسلوب الاستخباري للترويج لموقفها السياسي، وللابتزاز السياسي في آن. وقد تكرر هذا كثيرا أكثر من موضع في أفريقيا حيث جرى ابتزاز عدد من رجال السياسة إن كان في الدول الغربية نفسها، أو الضغط الذي تمارسه هذه الوسائل على صناع القرار خارج الغرب لتأمين مصالحها ومصالح من تمثلهم.
بظني أن ما يستحق النقد هو غياب الرؤية الموضوعية، وانعدام التحليل العلمي البحثي للكثير من الظواهر في القارة الأفريقية، وعدم تناولها في سياقها التاريخي والجدلي من قبل وسائل الإعلام الغربية، وتحليلها في الواقع الأفريقي ذاته.
تجارة المعلومات
إن العديد من وسائل الإعلام الغربية هدفها الأساسي ليس البحث عن الحقائق ونشرها، وإنما التجارة في المعلومات والمعطيات والخبر والصورة، لذلك هي تقوم بتقديم ما يطلبه المشاهد والقارئ، ولا تهتم كثيراً إن كانت السلعة جيدة ومفيدة، أو كانت فاسدة ومتعطنة.
ليس هذا فحسب، بل أن وسائل الإعلام نفسها في الدول الغربية سلعة مثل غيرها من السلع، يتنافس على امتلاكها تجار كبار لفرض مصالحهم السياسية أو الاقتصادية.
بل أن العديد من الديكتاتوريين في الدول النامية يشترون وسائل إعلامية في الدول الغربية، من أقنية تلفزيونية أو صحف ومجلات أو محطات إذاعية، ويقومون بتوظيف عدة مشاهير إعلاميين غربيين فيها، وذلك بهدف تلميع صورتهم الشخصية أو صورة بلادهم في أعين المشاهد والقارئ الغربي.
خلال السنوات الأخيرة أقدم عدد من تجار الدم والحروب ومن الأثرياء الجدد خاصة من دول أوروبا الشرقية، على شراء صحف ومحطات تلفزيونية عريقة، لأهداف متعددة مثل تبييض الأموال، وحماية مصالحهم، وللتأثير على مجريات الحياة السياسية والاجتماعية.
مرادف للفقر؟
إن الصورة النمطية لإفريقيا في العقل الغربي لم تتغير كثيراً حتى الآن، فما زالت وسائل الإعلام الغربية تقدم إفريقيا في إطار لا يخرج عن ثوابتها المتوارثة وهي الفساد والتخلف والكوارث الطبيعية والفقر والجوع والأمراض، وكثير من المحطات التلفزيونية مازالت تقدم برامج بقصد الإثارة والربحية، عن عادات شرب الدم وأكل لحم البشر أو القرود لدى بعض الإثنيات الإفريقية، وإن أردا الإعلام الغربي التنوع في تناول الموضوع الإفريقي يتحدث عن انخفاض وكي ثدي القاصرات الإفريقيات، أو عن تعدد الزوجات.
إن الطريقة التي تنتجها وسائل الإعلام عن أفريقيا تدور حول صورة الأحياء الفقيرة والمرض والفساد والبطالة، صورة ضارة لقارة هي بخلاف ذلك. تُسهم القصص والحكايات الإخبارية عن أفريقيا ـ التي تغذيها معلومات أساسية صغيرة غير مكتملة ـ في تشكل حالة سلبية تعزز الصور النمطية حول “أفريقيا الفقيرة”.
الإعلام الغربي غالباً ما يقدم أفريقيا وشعبها ليس أكثر من أرقام في عناوين الصحف ونشرات الأخبار اليومية، ويظهرون الأوروبيون كأناس تشعر بالتعاطف الحقيقي مع ذاك العالم. لكن هل يهتمون حقا؟ هل يرون شعب أفريقيا أناس لهم حقوق، أو يستخدمون عبارة “الأطفال الفقراء في أفريقيا” كذريعة تشعرهم بالامتنان لما لديهم من رفاهية؟ أو يشعرون بالراحة عندما يشاهدون مساهمة المنظمات الإنسانية في دولهم التي تحارب الفقر والجوع؟
أفريقيا لا نراها
الحقيقة هي أن إفريقيا هي موطن لثلاثة من أهم عشرة اقتصادات نموا في العالم. شيء ليس غريباً للغاية بالنظر إلى أن أفريقيا تمتلك الكثير من الموارد الطبيعية، ونسبة عالية من الشباب بين السكان، ومع انحسار الأوبئة والأمراض، وتراجع مستويات الفقر والجوع والبطالة، واستثمار مالي متزايد باستمرار في السوق الأفريقية، فإن إفريقيا لديها القدرة على أن تصبح قوة عظمى جديدة.
من خلال تمثيل أنفسهم في خطة إعلامية، يمكن لأفريقيا أن ترسم صورتها الإخبارية الخاصة بها وإظهار الفروق الدقيقة الثقافية، والأحداث المهمة في جميع أنحاء القارة. هذا يمكن أن يجعل أفريقيا أكثر من مرادف للفقر في عيون وآذان الغرب.
إن المجتمعات الغربية بالرغم من أنها مجتمعات متحضرة متطورة، إلا أنها مجتمعات تسود فيها العزلة، والفردية، والاغتراب الاجتماعي والروحي، لذلك نجد من السهولة بمكان أن تلعب وسائل الإعلام بهذه المجتمعات دوراً بالغ الخطورة في التأثير المباشر على المتلقي، وبذلك يكون لهذه الوسائل الأدوات التي تحدد نوعية ومسار واتجاهات الوعي الجمعي لهذه الشعوب، وتعمل على إنتاج وإعادة إنتاج وعي الناس، مما يجعل من مهمة تغيير الصور النمطية عن أفريقيا أمراً غير يسير.
_______
*حسن العاصي/ باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.