محمد عارف مشة قاص جيد وصديق عزيز، وحين أهداني مجموعته القصصية “شبابيك”التي صنفها أنها قصص قصيرة جدا شكرته، وكان قد أرسل لي سابقا نسخة إلكترونية لكتابه السابق عصافير المساء وهذا ما أعاق أن أقرأها بسبب بعض المشاكل الصحية بالعين، لكن حين أصبحت المجموعة الورقية بين يدي كنت أضعها على برنامجي للقراءة، فقد كنت أقرأ له بعض القصص المنشورة وتلفت نظري، والمجموعة صدرت عن دار الآن في عمَّان من 143 صفحة من القطع المتوسط وبتصميم جميل للغلاف الأول أبدعه الشاعر والفنان التشكيلي محمد خضير، فتناسب الغلاف المكون من مبنى قديم تظهر به الشبابيك بين مغلقة ومفتوحة معبرا عن عنوان الكتاب ومحتواه، فمن يقرأ الكتاب يجد أن القاص كان يفتح الشبابيك التي بلغت 130 نصا على مسائل عديدة ولا يتركها حبيسة المكان، بينما حفل الغلاف الاخير برأيين للكُتاب والنقاد العرب بنجلون من المغرب وهاني أبو انعيم من الأردن بالمجموعة القصصية القصيرة جدا، وقد زين المجموعة بإهداء غامض بالقول: إليك.. مع التحية” فلم توضع الفتحة على الكاف أو الكسرة تحتها، فكان الغموض إن قصد الإهداء لذكر أو لأنثى.
منذ البداية بالقراءة للمجموعة نجد أن محمد مشة لجأ في العديد من النصوص إلى الرمزية المغرقة برمزيتها وهذه نقطة ليست لصالح الكتاب، فمن مزايا القصة القصيرة جدا انها مكثفة اللغة وتحمل هدفا ووضوحا بالفكرة والنص وسهولة وصول القارئ للفكرة، فالقاص دوره أن يسلط الضوء على المشكلات المختلفة تاركا للقارئ التفكير بالحلول، ونلاحظ الرمزية التي أراها خطأ طباعي أيضا بالنص الاول وحوار بين سيدة ورجل في نص “في المطعم” فهو يخاطبها بكلمة سيدة بالقول: “لماذا يخفق قلبي كلما رأيت سيدة تشبهك؟” بينما تأتي العبارة بعدها: “ابتسمت الطفلة خجلة وكادت أن تقول” والحوار بين شخصين ناضجين، فكيف أصبحت السيدة طفلة فجأة؟ لو كانت العبارة “ابتسمت كما طفلة” لدخلت في باب التشبيه والرمزية، لكن هنا المسألة خرجت عن التشبيه والرمزية، وسنرى هذه الرمزية المغرقة في نصوص أخرى مثل: “اللوحة”، “وجه”، “رؤيا”، “انتظار”، “السمكة”، “زواج”، “وغد”، “ثرثرة”.
في نصوص أخرى كان القص واضحا بالفكرة والأسلوب مثل الصدق في نصي “بائعة الورد” و”اعتراف” والغياب غير المبرر في “ذات لقاء”، وبراءة الأطفال في “سميحة وأنا” وفي “طفلة” وفي “البحر الميت” و”كرابيج حلب” و”موت دافئ” و”باب”، وجرأة الطفلة في “مدارات” فهي الوحيدة التي لم تتمكن من الصمت بين الحضور، بينما في نصه “قصيدة” قارن بين حلم شاعر يسهر على قصيدة وطفل يسهر وهو يصنع قنبلة “المولوتوف” ويستشهد في مواجهة الاحتلال، والوطن لم يفارق نصوص الكتاب فتكرر في أكثر من نص لدى الأطفال وهذا ما نراه بحلم طفل بالوطن في نص “في المدرسة”، وغير الأطفال حيث نرى الوطن لدى الجندي في نص “رعب” وفي نص “شهادة” حيث أن كل مواطن تحت الاحتلال مشروع شهيد، وتطرق القاص إلى معاناة المواطنين من الاحتلال في “الحاجز” ومعاناة الأطفال وأهاليهم من الفقر في “البقجة” وفي “ثياب العيد” وفي “الملح الأسود” و”شعر البنات” و”الأرجوحة” و “الأب” و”بلا عنوان” و”الراتب”، والجوع المفجع في “القطة” ويتحدث عن الحنان والعطف والألم في قصة “قطة” ونص “إشتياق” و”الديك” وعن حب متطرف واحد لم يكتمل في “هي” وفي “المجنون” وعن نهاية حب في “حب وانتهى” وحب يسكن الذاكرة في “الحافلة” وفي “طيف” و “إمرأة” و”أشياء” و”دبوس” و”إمرأة في عز الظهر”، و”ظلان” التي رسمها بحروفه كما لوحة، وفي نص “قرف” أيضا، وأيضا الحب الجميل في نص “النادل” وفي نص “حب عتيق” وفي “فاطمة”، وعن الراحة من الفوضى في “المشاهد” وعن حالة اجتماعية يتعرض لها الأطفال حين يشاهدوا العلاقة الخاصة بين الأب والأم فيظنوها عراك يترك أثره عليهم نفسيا في نص “الثقب” وفي نص “فحولة”، والوهم في “الممثل” و”القصيدة” وفي نص “شبابيك” الذي منح الكتاب الاسم الذي صور المرأة الجميلة تحتسي القهوة تحت ضوء القمر على الشرفة وتمارس الدلال ومص شفاهها ويظهر بياض ساقيها وشعرها المنسدل، فـ “ينخلع قلب الولد” فتنفخ الدخان نحوه فيغمض عينيه وينام، والخوف في “الكتكوت” والواقع الاجتماعي في “حنين” وفي “البحث جارٍ”، وفي “صورة” و”أرق” حيث البحث عن الذات، وفي “صرصار” عن خوف النساء من الحشرات، وعن مشاكسات النساء في “صاحب الصافرة” ومساومة النساء على أجسادهن كما في نص “يحدث في المدينة” واضطهاد المرأة في “الزوجة” وفي نص “طفلة” وفي نص “عيد الأم” ولم يغفل مريضة السرطان التي سقط شعرها في نص “الباروكة”.
لم يغفل القاص مشاهد اجتماعية كثيرة في نصوصه، فيتحدث عن الصائم الذي يغض بصره وهو ذاهب للصلاة ولكن طيف تلك العابرة رافقه في صلاته، وعن تردي العلاقات الزوجية في ظل سيطرة العالم الافتراضي في نص “فنجان قهوة” مما عكس نفسه على الحياة العامة كما في نص “هروب”، وفي نص “صحوة” وفي نص “ليتني” و “ظل يرتديني” و”هوس” و”من قتل أبي” والألم في نص “أم” وعن الخوف في نص “ذعر فأر” وعن تأثير الحروب في نص “حرب” وعن الايمان في نص “ثقة” وعن الرفض في نص “الخروج” واللص الشريف في “اللص”، ومن يرون أنفسهم أكبر من الآخرين وهو يجلسون في القمة كما نص “الضفدع” وكذلك من يخرجون عن طبيعتهم فيتلقون العقاب كما في نص “العصفور”، والإشتهاء في نص “عبق الحياة” والزيف في “جنون”.
نلاحظ في “شبابيك” محمد مشة لجوءه لاستخدام الحيوانات والحشرات في نصوصه مثل القطط والكتكوت والصرصار والديك والدجاجات والفأر والضفدع، وأيضا التركيز على الأطفال إضافة إلى استخدام الجماد مثل اللوحات والبراويز كما في نص “برواز”، ونرى انه يتنقل من شباك لشباك في قضايا مختلفة غالبيتها ذات عمق اجتماعي وعاطفي، وقضايا يعاني منها الفقراء وخاصة الجوع الذي يدفع للتسول كما في نص “انها هي”، ومن الجدير بالإشارة أن المجموعة القصصية امتلكت في غالبية النصوص وحدة الفكرة حيث كان الهم الانساني محور غالبية النصوص، كما نلاحظ أن القاص لجأ إلى اللغة المبسطة والسهلة في كافة النصوص لكن كان يجدر به الابتعاد عن بعض الكلمات الغير عربية مثل: “سيجارة” وهي انجليزية الأصل ومقابلها بالعربية لفافة تبغ، وكلمة “برواز” فهي فارسية الأصل ومقابلها بالعربية “إطار” وكلمات أخرى، علما أن القصة القصيرة جدا تحتاج الى قوة أكثر باللغة حتى ينجح القاص بتكثيف القصة في عدة كلمات، فهناك العديد من النصوص كان يمكن للكاتب تكثيفها بشكل أكبر فلا يعطيها طابع سردي مطول، فلذا من يقرأ المجموعة سيلاحظ أن الأسلوب كان السهل والتقنيات مبسطة لغويا، كما سنلاحظ أن محمد مشة أعطى المكان عموميته وابتعد عن التخصيص، فكان الوطن هو المسرح الرئيس والعام والزمان هو الواقع الراهن، كما نلاحظ أن كافة الشخوص يربطها رابط واحد هو المعاناة بأشكالها المختلفة، والصراع في المجموعة كان له ثلاثة أشكال، الصراع مع الواقع والمجتمع، الصراع مع العدو، الصراع مع الذات، وهذا ما يجعل القارئ يقرأ بانسجام ومتعة من خلال علاقة فرضها الكاتب بينه وبين المتلقي.
السرد القصصي وخاصة في القصة القصيرة جدا هو أسلوب جديد رغم وجود جذوره في الأدب العربي من خلال الطرائف والحكم والأمثال، ولكن يبقى الاختلاف بين قاص وآخر في طريقة السرد للنصوص وطريقة استخدامه للتقنيات السردية ووسائل التعبير واستخدام الرمز، ونلاحظ أن الكاتب مشة يلجأ للرمز في نصوصه وكما أشرت أعلاه نجده أحيانا يستخدم الرمزية المغرقة وهذا أسلوب يشتت القارئ عن العلاقة بينه وبين الكاتب من خلال النصوص، وخاصة أن القصة القصيرة جدا ما زالت تشق طريقها في فضاء الأجناس الأدبية ولم تأخذ مقعدها الثابت حتى الآن كما الشعر والرواية والقصة، وإن تميزت عن غيرها من الأصناف الأدبية بقدرتها على اثارة الدهشة لدى القارئ من خلال التكثيف والإيجاز والاختزال وقدرة القاص، وهذا ما يجعل بعض الكُتاب يخلطون بين القصة القصيرة جدا وبين المثل والحكمة والومضة والشذرة، فليس كل من كتبوا هذا الفن الجديد امتلكوا القدرة الفنية وخاصة تكثيف اللغة وقوة التراكيب والايماء في النص وانصهاره مع العنوان.
وهكذا نرى القاص محمد مشة يتأرجح في نصوصه بين مميزات وخصائص القصة القصيرة جدا، وبين الانحراف عنها في أحيان أخرى، لكنه بلا شك إمتلك الفضاء الموحد ووحدة الفكرة في نصوصه في هذا الكتاب بغض النظر عن الملاحظات الأخرى، وإن كنت قرأت الكتاب باستمتاع مرتين لكن أعتقد أن الكاتب كان يحتاج إلى التركيز على تكثيف النص وقوة اللغة حتى يختزل مساحة العديد من النصوص من ناحية، وأن لا يقع في فخ التكرار والرتابة في بعض النصوص من جهة أخرى كما في نص “مرايا” حيث الفكرة مكررة وقرأتها في السابق.
وفي نهاية قراءتي للكتاب وتجوالي في شبابيك محمد مشة التي ظل يفتح الشبابيك المغلقة فيها حتى نهاية الكتاب، رأيت أن بعض النصوص تمكنت من اختزال القصص في غالبية النصوص وليس جميعها وإثارة الدهشة في العديد من النصوص ومنها النص الأخير في الكتاب الذي حمل عنوان “شهقة” حين قال في النص: “حلق العصفور ذات شهقة، وقف على حافة الحلم، نتف ريشه المبتل، ثم نام”، فهل يتنبأ القاص بالمرحلة القادمة بعد أن استعرض معظم المشكلات المجتمعية والوطنية من خلال شبابيكه سواء المغلقة أو المفتوحة كما عبرت عنها لوحة الغلاف؟ سؤال يحتاج لجواب في مرحلة أراها تقترب بعد أن وصلنا عمق الوادي اجتماعيا وإنسانيا ووطنيا وحان موعد الصعود.
__________
*الأستاذ زياد جيوسي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.