تنطوي كلمة ثقافة Culture، مثلها مثل كلمة جماعة Community، على مجموعة من المعاني المتعدِّدة المتنازعة، وفي معناها الأصلي تشيد هذه الكلمة الإنجليزية إلى أمرين مترابطين: الأول هو فن ممارسة الزراعة Cultivation، والثاني هو الوسط Medium الذي تنمو فيه الأشياء؛ حيث يمكن تغذيتها ورعايتها، وتعني كلمة Cultivation تهيئة الظروف التي تمكِّن الأشياء من النمو، وبذر هاتين الكلمتين هو الكلمة اللاتينية Cultus التي تعني الرعية، وبالتالي فإنَّ Cultivation هو رعاية الأشياء والاهتمام بها. والثقافة Culture هي إذن بهذا المعنى، التعبير عن ذاك الذي نهتم به ونرعاه، وهكذا دخلت هذه الكلمة إلى اللغة الإنجليزية في القرن الخامس عشر، لكن معناها توسَّع وتغيَّر تغيُّرًا هائلاً منذ ذلك الحين.
فاليوم نحن نستعمل كلمة Culture للدلالة على أنظمة المعنى وأنماط الحياة التي تتمخَّض عن ممارسات الحياة وتعكس أولوياتهم وتوقّعاتهم.
هذا يقودنا إلى تحليل المجتمع الذي تنتج عنه ممارسات الحياة، فلكل مجتمع (قبيلة-مدينة-دولة-أمة-حضارة) من يحترف فيه الفكر والثقافة والكتابة أو يمكن أن نطلق عليه من يحترف القول الثقافي، الأسطوري أو المقدس، وتقوم وظيفة هؤلاء على إنتاج الخطابات الضامنة لهوية الجماعة والقيم المركزية السائدة فيها في الزمان والمكان. فالصين عرفت طبقة الموظفين Shi، والهند عرفت أصحاب الرؤى والحكماء أو العلماء، واليونان الفلاسفة، وفي الحضارة الإسلامية الفقهاء أو أهل الرأي والعلم. وهؤلاء خطاباتهم أو حتى رواياتهم تشكل الوعي العام ويرسخون عبر رؤاهم هوية المجتمع، فصاغوا عبر الأساطير أو الحكايات أو الرؤى الثقافية للمجتمع والعالم رؤية مجتمعاتهم لذاتها وللآخر.
لكننا في عصر أصبحنا فيه في حاجة ماسَّة إلى من يتيحون الخطابات التي تصيغ هوية الجماعة وقيمها وبثها في الزمان والمكان… إذ أنَّ تذبذب هوية المجتمعات وتعزِّز ثقتها في ذواتها أدَّى إلى صعود خطابات العنصرية أو الانكفاء على الذات الوطنية، بل حتى الشعور بالقلق من الأقليات المهاجرة، وبث الصورة التي تعكس طبيعة المجتمع ووعيه بذاته بصورة مقنعة بات مشكلة كبرى، إذ في عصر الإنترنت صار هناك قذف مستمر عبر هذه الشبكة التي يتلقف المتفاعلين معها آلاف المعلومات والرسائل والإشاعات بل والمضامين يوميا، فكيف يتم تشكيل الوعي الوطني والذات الثقافية في ظل هذا القذف اليومي؟، فادراك المجتمع لذاته بات متذبذبا إذ يتقوقع أفراده داخل الشبكة الرقمية سواء عبر الأجهزة اللوحية أو على شاشات الهاتف المحمول.
إن هذا يقودنا إلى المقولات السياسية التي تصيغ خطاب ترسيخ الهوية الوطنية، هذه المقولات تحتاج بصورة مستمرَّة إلى التأكيد وإعادة تقديمها في قوالب تتناسب مع كل جيل، فنحن في عصر تتهدَّد فيه الهويات الوطنية، فعلى سبيل المثال يمكن استعادة الموروث الشعبي الوطني الذي يعبِّر عادة عن عمق ثقافي ليؤكِّد للأجيال تمثيلات مثل من نكون؟
السرديات الوطنية تولد حالة من الترابط وصور ذهنية مشتركة تؤكِّد أن الفرد جزء من مجتمع أكبر، وفي هذا السياق تلعب أفلام السينما وبرامج التلفاز والمواقع الرقمية والألعاب الرقمية ومسلسلات الكرتون أدواراً هامة حتى الحملات الإعلانية في تقديم روح الهوية الوطنية بطريقة تجعلنا نشعر بالانتماء بالفخر والاعتزاز بالوطن، من هنا نرى اللحمة الوطنية، نجحت الإمارات العربية المتحدة في ذلك من كل عام في 3 من نوفمبر تحتفل بيوم العلم فهذا حدث فجَّر طاقة التأكيد على الهوية الإماراتية بطرق ومستويات متعدِّدة.
إن كوننا جزءاً من مجتمع أكبر، نكون في حاجة إلى صور ذهنية ومقولات تترسخ في داخلنا لتؤكد لنا من نحن ومن أين نحن وإلى أين نحن ذاهبون؟ ومن دون ذلك يصبح لدينا اهتزاز في شخصيتنا، بل وعدم قناعة بالوطن الذي نعيش فيه.
إن فقر الخيال في إعادة إنتاج السرديات الموروثة المعزّزة للهوية، بل أحياناً يضاف لذلك فقر خيال من يقومون على إعادة إنتاج الهوية الوطنية، خطر غير مشاهد وغير منتقد على الأصعدة الوطنية العربية وفي العديد من دول العالم.
هناك يقودنا الحديث إلى الجدل العميق على الساحة الدولية حول مستقبل الثقافة، ففي كل دولة يبدأ الحوار من دور المثقفين إلى هل هم فئة مهمة إلى دور الثقافة في بناء خصوصية المجتمع والدولة، ومن هنا فان المثقف له دور كبير في ذلك، وهو من يعمل في أي مجال من مجالات إنتاج المعرفة أو نشرها. كان المثقف عند العرب: هو من يختزن في ذاكرته كمية كبيرة من المعلومات ليرتبها ويستعرضها أمام جمهوره أو في مقالاته أو كتبه، لكن هذا كان في الماضي، الآن عليه أن يقدم رؤاه في صورة مركزة مقنعة تحمل تحليلاً ونقاشًا.
وفي عصر الإنترنت ومع انفجار المعلومات بات إنتاج المعرفة والعاملون عليها هم الأهم فالمقولة الشهيرة “المعرفة قوة” تدل على إنتاج المعرفة وليس فقط حيازة المعلومات.
في عصر بات فيه العالم مفتوح على شبكة الإنترنت لفرض الذات، من هنا ظهر مصطلح الفجوة الرقمية، كما فرضت بعض الدول رقابة تفاوتت من دولة لأخرى، وصلت إلى حد الحجب لبعض المواقع على شبكة الإنترنت إلى الرقابة الصارمة إلى الرقابة عن بعد، لكن الدول التي تملك البرمجيات والشركات المالكة لهذه البرمجيات تحجبها عن الآخرين بغرض اشتراكات أو رسوم شراء مبالغ فيها، على نحو ما يحدث في البرمجيات العلمية المتخصصة خاصة الدوريات التي تنشر أحدث نتائج العلم في مجال ما، هذا ما يؤشر على منع المعرفة عن غير القادرين ماديًا، وهو ما يعني ضمنا احتكار هذه المعرفة، هنا من لا يملك لا يملك المعرفة.
على جانب آخر فإن الفضاء الرقمي صار فضاءً تمارس من خلاله الدول وجودها في خدمة المجتمع، فاختزلت الدولة في تعاملات عبر شبكة الإنترنت، فصارت الحكومات غير مرئية، لكن هذا النوع من الحكومات أصبح أكثر فاعلية، أكثر شفافية وضد البيروقراطية، هنا تبدو المعرفة قوة فعالة وصناعة المعرفة هنا أداة في خدمة المجتمع، ويتنوع صناع المعرفة ما بين المبدعين، مؤسسات الدولة، الشركات والمجتمع المدني.
_________
* الدكتور خالد عزب.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.