لحسن يوسف تاوشيخت يقدِّم “عمران سجلماسة، دراسة تاريخيَّة وأثريَّة”
صدر في الدار البيضاء كتاب ( عمران سجلماسة، دراسة تاريخيَّة أثريَّة ) من تأليف الدكتور لحسن تاوشيخت الأستاذ في المعهد الوطني للأثار والتراث في الرباط، وهو الكتاب الأبرز الذي يتحدَّث عن هذه المدينة المهمَّة وتراثها والتي مرَّ على إنشائها 1300 سنة، ولم يحتفِ العرب كما يجب بهذه المناسبة غير أنَّ كتاب الدكتور تاوشيخت أعطانا وجبة دسمة وثريَّةعنها في مجلدين صدرا عن دار النجاح في الدار البيضاء، في هذا الكتاب إماطة اللثام عن مجموعة من الجوانب الدفينة حول أولى الحواضر الإسلاميَّة بالمغرب الأقصى “سجلماسة”، سواء من حيث دلالة اسمها ومجالها الجغرافي ومؤهلاتها الاقتصاديَّة ومكوناتها البشريَّة، أو من حيث ظروف تأسيسها والتطورات التاريخيَّة التي شهدتها، أو من حيث نمطها العمراني بناء وزخرفة وتصميما ومرافقا وكيف انتقلت من حاضرة مجمعة إلى قصور متفرقة، أو من حيث كونها منطلق معظم الدول التي تعاقبت على حكم المغرب الأقصى، أو من حيث نبوغها العلمي وعطائها الحرفي ومدى تأثيرها على حواضر بلاد السودان الغربي.
وقد تمَّت معالجة كل هذه القضايا وفق مقاربة منهجيَّة توفق بين عدة تخصُّصات كالتاريخ والأركيولوجيا والجغرافيَّة بشكل خاص، وتعتمد على نتائج التحريات الميدانيَّة وعلى المصادر المكتوبة والرواية الشفويَّة. فكانت الحصيلة عبارة عن رحلة جمعت أحيانا بين فك الألغاز وحل المتناقضات وفهم الروايات وربط المتكاملات، في سبيل استجلاء العديد من الجوانب الحضاريَّة السجلماسيَّة، والكشف عن عدد من المعطيات الجديدة وتصويب الكثير من الأحكام السابقة، والحسم في بعض الافتراضات ودعم بعضها.
استقطبت منطقة سجلماسة عبر تاريخها أعدادا هائلة ومختلفة من العناصر البشريَّة. فقد استقر بها الإنسان منذ عهود غابرة (العصر الحجري القديم) وعرفت فيما بعد توافد مجموعات عرقيَّة متباينة في الأصول واللغة والمعيشة والعادات. كما كانت سجلماسة مركز استقطاب لرجالات العلم والمعرفة وكذا لأرباب المال والتجارة، فأضحت بفضل ساكنتها المتنوعة وبفضل تفتحها على جميع التيارات الفكريَّة والمذهبيَّة، قبلة لتبـادل الرأي ولحريَّة الاعتقـاد وللتسامح الديني حيث تواجدت بها مختلف المعتقدات من الخوارج والسنة والشيعة والمتصوفة، إضافة إلى أهل الذمة. وإذا كان سكان سجلماسة متجمعين داخل أسوار المدينة كأسر وعائلات لها منازلها الخاصة ولها أيضا حقولها ونشاطها التجاري أو الحرفي، فإنهم مع اندثار هذه المدينة في أواخر القرن 8 الهجري/14 الميلادي، تفرقوا عبر الواحة فبنوا قصورا محصنة للحمايَّة والاستقرار. اتخذت هذه القصور شكل تجمع سكاني داخل بناية موحدة تحاط بسور ضخم وعال تتخلله عدة أبراج، وله مدخل رئيسي واحد. وبداخل القصر يوجد المسجد، والساحة العموميَّة والدور السكنيَّة الموزعة عبر الأزقة.
تأثرت سجلماسة سلبا وإيجابيا بالظروف السياسيَّة غير المستقرة، فتأرجحت وضعيتها بين الاستقلال والتبعيَّة. فقد شيدت مدينة سجلماسة من طرف خوارج مكناسة الصفريَّة بزعامة أبي القاسم سمكو بن واسول، وكانت منذ تأسيسها حوالي سنة 140 ه/ 757 م وإلى غايَّة سنة 447 ه/1054 م عبارة عن إمارة مستقلة تعاقب على حكمها كل من المدراريين والمغراويين. واستطاعت سجلماسة خلال هذه الفترة الحفاظ على استقلالها، بالرغم من بعض النزاعات الداخليَّة ومن التدخلات الخارجيَّة: الفاطميين بإفريقيَّة والأمويين بالأندلس. وابتداء من سنة 447 هجريَّة / 1054 ميلاديَّة وإلى غايَّة نهايَّة القرن 8 الهجري/14 الميلادي، دخلت سجلماسة بصفة نهائيَّة تحت سيطرة الحكم المركزي وتحولت بالتالي إلى ولايَّة من ولايات الدولة المرابطيَّة ثم الموحديَّة من بعدها وأخيرا المرينيَّة. وأصبحت المدينـة الممول الرئيسي لخزينة الدولة المركزيَّة، وقد جعلها ذلك هدفا لكل حركة تطمح في السيطرة على المغرب الأقصى أو الغرب الإسلامي ككل أو على الأقل تهدف إلى التحكم في تجارة القوافل. وشهدت تبعا لذلك تطورا حضاريا كبيرا، وبالمقابل كانت مسرحا لعدة صراعات، فقدت المدينة على إثرها الكثير من بريقها، بل وأصبحت وضعيتها السياسيَّة غامضة في نهايَّة الفترة المرينيَّة، انتهت بتخريبها. ومع بدايَّة الدولة العلويَّة (حوالي سنة 1037 هجريَّة/1630 ميلاديَّة) استعادت منطقـة سجلماسة بعض أهميتها. فكانت محـط عـنايَّة من لدن معظم السلاطين العلويين، إذ قاموا بزيارتها وحاولوا إحياء بعض أمجادها. وقد عـرفت المنطقة تنميَّة اقتصاديَّة ومنجزات عمرانيَّة كبيرة، ما زالت معالمها بارزة إلى اليوم مثل القصبة السجلماسيَّة، وقصبة الفيضة، وقصبة آبار وغيرها.
ارتبط النمط المعماري السجلماسي بشكل أو بآخر بالمتغيرات الاقتصاديَّة، والسياسيَّة والدينيَّة والاجتماعيَّة التي عرفتها المدينة مع تعاقب العصور. وتميزت المكونات المعماريَّة للمدينة وفق انتمائها إلى مجال عمومي أو مجال خاص، وإلى ما هو مؤسسة ذات طابع ديني أو سياسي، وإلى ما هو مرفق سكني أو مركز اقتصادي. وقد مكنت التحريات الجيوفيزيائيَّة والصور الجويَّة وصور الأقمار الاصطناعيَّة من رسم خريطة مدققة عن المجال وعن التخطيط المعماري والتوسع العمراني بالمنطقة. كما قدمت الأبحاث الأركيولوجيَّة بموقع سجلماسة عدة نتائج وكشفت عن معطيات معماريَّة مهمة لم ترد في المؤلفات المكتوبة بتفصيل. من أهمها ذكرا لا حصرا المسجد الجامع والتطورات البنائيَّة التي عرفها منذ فترة المرابطين وإلى غايَّة العصر العلوي الأول، ثم السور الخارجي من حيث مواد بنائه، ومن حيث امتداده ومكوناته. كما قدمت معلومات عن نمط السكن السجلماسي من حيث التصميم ومواد البناء والمرافق، وأيضا عن المنشآت الإنتاجيَّة مثل الصناعة الخزفيَّة من حيث تمركز معاملها وتطورها ومنتجاتها والأدوات المستعملة. كما كشفت التحريات الأثريَّة أيضا عن بعض التجهيزات المائيَّة كالسدود والقنوات والأحواض وغيرها.
اعتبارا للدور السياسي البارز الذي لعبته سجلماسة أولا كعاصمة إمارة في عصر بني مدرار وبني مغراوة، ثم كعاصمة أهم إقليم على عهد المرابطين والموحدين والمرينيين، فإنها اشتملت على عدة مرافق عمرانيَّة مهمة مثل المسجد الجامع، ودار الإمارة، والحصن أو العسكر، والأسواق، والمعامل الصناعيَّة، والمنازل، والحمامات، والبساتين، والعرصات… إضافة إلى الشوارع والأزقة المتشعبة. كما أن المدينة كانت محصنة بسور عال ومتين يتوفر على أبواب قويَّة وأبراج محصنة من أجل الدفاع وصيانة الأمن الداخلي للسكان. أما التقنيَّة المعتمدة في بناء سجلماسة فيمكن حصرها خصوصا في الطابيَّة التي تعتمد في تشييد الأسوار، والطوب والآجر في بناء الأعمدة والدعائم والشرفات، والأحجار في إقامة الأسس السفلى للجدران قصد اتقاء الفيضانات والرطوبة، والخشب في تركيب الأبواب والسقوف والزخرفة، والخزف في تزيين الأرضيات والواجهات، والجبس والجص في التبليط والنقش.
صفوة القول، إن هذا الكتاب يحاول إضافة لبنة جديدة إلى الدراسات المنجزة حول سجلماسة، وفي المقابل يفتح المجال لتساؤلات جديدة، تنتظر المزيد من الجهد للكشف عن غموضها من خلال تفعيل التقاط الصور الجويَّة، وصور الأقمار الاصطناعيَّة، وتكثيف التنقيبات الأثريَّة، والبحث عن باقي المصادر الغميسة. وهي تساؤلات وإشكاليات في حاجة إلى أجوبة تراكميَّة كاملة وإلى تحريات ميدانيَّة دقيقة وشاملة بإمكانها أن تسد الخلل وتحد من الافتراضات والخيال حول مدينة لم ترد البوح بكل حقائقها وتفضل دوما الحفاظ على أسرارها.
_____
*الدكتور خالد عزب.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.