سيميائيات الخطاب الاجتماعي
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب لعبد المجيد نوسي، بعنوان: سيميائيات الخطاب الاجتماعي: دراسة نظرية وتحليلية، يتكون من 423 صفحة.
يحاول هذا الكتاب إغناء الأنموذج السيميائي وتوسعته من خلال تحليل الخطاب الاجتماعي الذي يقدم معرفة اجتماعية ويستحضر الإنسان موضوعًا له، فعلى الرغم من أن الخطاب الاجتماعي حظي باهتمام نظريات تحليل الخطاب التي ازدهرت في ستينيات القرن الماضى وسبعينياته، خصوصًا منها الدراسات المعجمية والآلية والمعجمية الإحصائية، حيث تم تحليله في ضوء الحقول المعجمية والتواردات المعجمية ونسبة الترددات، فإن الرؤية الشمولية للخطاب لم تحضر في هذه المقاربات. إننا نهدف، بخلاف هذا التصور، إلى الاهتمام بالاشتغال الشمولي للخطاب وليس بمكوّن خطابي واحد مثل المعجم. إن الخطاب من هذا المنظور لا يُعدّ ناقلًا لإرسالية فحسب، لكنه يصبح فضاء للتفاعل بين الذوات الفردية والجماعية (السلطة/ المعارضة)، قائمًا على دينامية العلاقات والقيم (التحديث، التنوير)، مستندًا إلى استراتيجيات داخل حقل السلطة (الإقناع/ التسخير)، ليست السلطة كأيديولوجيا لكن الشكل الذي تتوارى خلفه الأيديولوجيا.
ويمثّل محاولة للإجابة الكيفية عن الأسئلة المحورية الآتية: كيف سنحقق هذا المسعى المنهجي والتحليلي؟ وكيف سنستند إلى السيميائيات السردية في اتجاه إغناء سيميائيات الخطاب الاجتماعي؟ وكيف سنحلل الاشتغال الشمولي للخطاب بهدف استنتاج “المعنى الاجتماعي”؟ وما الآليات والأدوات المنهجية التي تشيد هذا البناء النظري والمنهجي؟
مفاهيم وبناء تنظيري
سار العمل في الكتاب في اتجاهين: نظري وتحليلي. يقف الأول عند مفهوم الخطاب بصفته كلًا دالًا، مشكَّلًا من مكونات عاملية وخطابية، منجزًا في علاقته بالتلفظ والخطاب الاجتماعي الذي يمثل المنجز بخصائص خطابية تُنمْذج الخطاب السياسي والاجتماعي والبيداغوجي والقانوني والتاريخي وغيرها من أجناس الخطاب الاجتماعي.
أما الاتجاه الثاني، فسيكون تحليليًّا باستثمار المفاهيم النظرية والإجرائية للوقوف عند الاشتغال الشمولي لمكونات الخطاب بهدف توليد الدلالة، فالخطاب الاجتماعي يتمظهر من خلال الأفعال والوقائع، وكل فعل يعدّ دالًا يحمل آثار المعنى، ومن ثم مشروعية التفكير السيميائي في الخطابات الاجتماعية.
في هذا الإطار، يتطور هذا العمل من خلال قسمين كبيرين: القسم الأول نظري، وقف فيه الباحث عند مفهوم رئيس في الدراسة هو مفهوم الخطاب، وعرض فيه مفهوم الخطاب في الاتجاه البنيوي، حيث أشار إلى التحديدات التي أقامت تطابقًا بين المفهوم ومفاهيم الكلام عند دو سوسير قبل أن يدمج داخل نظرية التلفظ. ووقف كذلك عند خاصية التعدد المنهجي التي ميزت نظرية التحليل، حيث تعددت بين مناهج الإحصاء المعجمي والمناهج الآلية والمعجمية في وصف الخطاب.
اعتبر الباحث أنّ هذه التصورات، على الرغم من أهميتها المنهجية في علاقتها بالسياق الذي تبلورت فيه، قد حللت الخطاب من خلال مكونات جزئية، مثل الوحدة المعجمية والتكرار والتواردات المعجمية والحقول المعجمية، وبذلك أغفلت النظر إلى الخطاب في شموليته.
لذلك، استند المؤلف في التأسيس المنهجي لمفهوم الخطاب إلى منظورين: يتمثل الأول في التوجه النظري الذي بلورته السيميائيات السردية، حيث نظرت للخطاب بصفته كلًا دالًا يتحقق من تعالق المكونات الخطابية والتركيبية والدلالية، وشيدت بذلك أنموذجًا تمثّل في المسار التوليدي الذي يعدّ هندسة للمكونات؛ ويتجسد الثاني في مفهوم الخطاب الاجتماعي عند مارك أنجينو Marc Angenot الذي استند إلى مفاهيم كبرى تجد مرجعية لها في النقد الشكلاني وجماليات الرواية كما وصفها ميخائيل باختين Mikhael Bakhtine والدراسات التناصية الغربية والفلسفة الماركسية لصوغ تصور يدرس “الخطابات اللحظية” التي أنجزت داخل “حالة مجتمع”. لذلك، يُعتبر الخطاب الاجتماعي كل ما ينجز داخل الفضاء العمومي، بناءً على التزام الذات المنتجة للخطاب، وعلى علاقات التفاعل بين الذوات المؤسسة للخطاب.
سيميائيات الخطاب الاجتماعي والسياسي والقانوني
ووقف المؤلف، أيضًا، في هذا القسم عند النماذج التي قاربت الخطاب الاجتماعي في تفريعاته المختلفة بحسب الخصائص التيبولوجية والخطابية. وحاول، إضافةً إلى اعتماد الأمانة العلمية في العرض، أن يصوغ إشكاليًّا الأسئلة التي تهم العلائق بين النماذج النظرية من حيث الأصول واللغة المفاهيمية.
في هذا السياق، تعرّض المؤلف لأنموذج إريك لاندوفسكي Eric Landowski الذي تتحول عنده سيرورة الحياة السياسية إلى “فرجة” تشيد على أساس مجموعة ترهينات وسائطية، مثل الرأي العام ولسان حال الرأي العام والصيرورات السيميائية، وتصوُّر خوان ألونسو ألداما Juan Alonso-Aldama، الذي قدّم أنموذجًا لدراسة كليات الخطاب السياسي، مثل الهوية والشعبوية، وأنموذج السيميائيات التوترية لجاك فونتاني Jacques Fontanille، وأنموذج برنار لاميزيه Bernard Lamizet الذي يعتبر أنّ لحظية العلامة أو النص أو الملفوظ داخل الفضاء العمومي تتضمن حضور الذوات المتلفظة والأفعال داخل الفضاء العمومي ببعديه الزماني والمكاني، وأنموذج دنيس برتران Denis Bertrand الذي اقترح أنموذجًا لدراسة آلية العقد، وآليات سيرورة بناء الثقة بين أطراف التبادل والتواصل في الخطاب الاجتماعي.
ستمثّل الأدوات النظرية التي تقوم عليها هذه النماذج آليات لوصف واستكشاف بناء الخطاب واشتغال مكوناته في القسم التحليلي الذي سيحلل فيه الكاتب الخطابات الاجتماعية.
ثم خلص في نهاية الفصل إلى تحديد تصوره الذي يزاوج منهجيًّا بين مفهوم الخطاب في السيميائيات بصفته هندسة كلية من المكونات، والخطاب الاجتماعي بصفته تلفظًا داخل “حالة مجتمع”، أما التحليل فسلك منهاج التحليل الشمولي الذي يصف اشتغال مكونات الخطاب من أجل توليد المعنى الاجتماعي.
من التنظير إلى التحليل
يأتي القسم الثاني تحليليًّا، يضع المفاهيم النظرية والإجرائية التي قدّمها الكاتب من منظور إشكالي على محك التحليل، بالوقوف عند الاشتغال الشمولي للخطاب. وتكمن طبيعة هذه المقاربة في تحليل مكونات الخطاب واشتغالها بهدف توليد الدلالة وتبلورها. وحلّل المؤلف في هذا القسم مكونات المتن التي تم تحديدها، حيثتناول بالدراسة الخطاب السياسي والخطاب البيداغوجي والخطاب القانوني والخطاب المعرفي – الاجتماعي والخطاب التاريخي ثم خطاب التنوير.
وجّه التصور الشمولي هذا القسم، حيث انصب التحليل على مكونات الخطاب، لذلك تم تحليل العناصر الأساسية في إنتاج الخطاب:
- تحليل موقع منتج الخطاب من خلال التلفظ وموقع المتلفظ وطبيعة الملفوظ وهي العناصر التي سمحت بإبراز الاستراتيجيات التي يستند إليها كل خطاب في توليد المعنى الاجتماعي الذي تجسد في مقولات التحرر في الخطاب السياسي أو التغيير في الخطاب المعرفي – الاجتماعي أو ترسيخ منظومة القيم في الخطاب البيداغوجي أو مقولة الإصلاح في الخطاب التاريخي أو التمدين في الخطاب التنويري.
- على المستوى العاملي، تم تحليل الذات الفاعلة في علاقتها بالعوامل الأخرى من خلال جدلية العلاقات التي تتأسس على التقابل والمواجهة بين الذوات الفاعلة في الخطابات المختلفة، مثل جدلية المواجهة بين الذات الفلسطينية والعامل المحتل في الخطاب السياسي وجدلية التعارض بين الذات ونسق النظام السياسي في الخطاب المعرفي – الاجتماعي، أو بين الذات والذوات المناهضة للإصلاح في الخطاب التاريخي.
- كما رصد التحليل التنظيم التصويري للخطاب لتحليل الأبعاد التصويرية للزمن والمكان و”البرمجة المكانية” التي تحدد العلاقة بين الذات الفاعلة وفعلها داخل الفضاء.
إنّ تحليل هذه المكونات من حيث صيغة تحققها واشتغالها داخل الخطاب هو الذي يسهم في إبراز سيرورة التدليل على مستوى الخطاب وتوليد المعنى الاجتماعي.
تسمح هذه الهندسة بتقديم تصور شامل عن اشتغال السيميائيات السردية، بصفتها نظرية للتحليل في مجال الخطاب الاجتماعي. وإذ تسهم هذه المقاربة في الإغناء المفهومي للسيميائيات، فإنها تبرز أيضًا الفاعلية الإجرائية وإمكانات التطور لهذا الاتجاه في التحليل.
- عبد المجيد نوسي
حاصل على دكتوراه الدولة في السيميائيات من جامعة محمد الخامس بالرباط (1994)، ودكتوراه السلك الثالث في الآداب من جامعة السوربون الجديدة بفرنسا (1985). أستاذ السيميائيات والأدب الحديث بالجامعة المغربية (جامعة شعيب الدكالي)، ومدير مختبر “التاريخ والعلم والمجتمع”. له دراسات نظرية وتطبيقية في عدد من الدوريات العربية المحكمة. من أبرز أعماله: التحليل السيميائي للخطاب الروائي (2002). ومن ترجماته: سيمياء الكون ليوري لوتمان (2011)، وسيميائيات السرد لألجيرداس جوليان غريماس (2018).
________
*المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.