التنويريسلايدرمنوعات

أثر لغة الجوال على اللغة العربية

(دراسة نقدية)

مقدمة

إن خطورة استعمال اللغة العامية وبكلمات عربية بأحرف لاتينية في التواصل والتحدث التي لا يعيها كثير من الشباب اليوم، تندرج في إطار خطط الغزو الثقافي، والدعوة إلى الكتابة باللهجة العامية، وتغيير شكل حروف اللغة العربية واستبدال اللغة اللاتينية بها ما سيؤدي لاحقاً إلى انحسار الثقافة المجتمعيّة.

ومن الأخطار التي تنشأ نتيجة لذلك أن الأجيال القادمة ستنقطع عن تراثها ولغتها، وسيصبح التواصل الثقافي بين أبناء الأمة الواحدة لا يتم إلا بلغة وسيطة، وعلى الأعم الأغلب ستكون اللغة الإنجليزية، وقد خلص الدكتور عبد النبي اصطيف في دراسة له عن لغة الطفل العربي – وهي لغة دون شك  ستكون متأثرة بلغة (الشات) والمحمول لفظا وكتابة – إلا أن أخطار الضعف اللغوي بين الأجيال ستؤدي إلى:

أ- ضعف الرابطة اللغوية التلقائية بين أفراد البلاد العربية، وهي نتيجة لانقسام اللغة إلى مستوى مكتوب وآخر منطوق بالممارسة، وتفرع كل منها إلى فروع ولهجات، واللهجات كثيراً ما تكون عائقاً يحول دون الفهم بين أبناء القطر الواحد فضلاً عن أبناء الأقطار المختلفة، فلم يعد للأقطار العربية لسان واحد، وإنما اختلف اللسان بينهم باختلاف أوطانهم.

ب – انعدام وسيلة لغوية موحدة تمكن الطفل بمجرد ارتفاع الأمية عنه من التعبير عن آرائه وغاياته شفهي وكتابي ببعد واحد، فعملية الإفصاح تتقاسمها السبل المتراكمة والمتعاظمة.

ج- الشعور بالغربة الناتجة عن تعدد الواجهات اللغوية: فالطفل العربي يحس بوعي صريح أو بوعي غامض بأنه غريب بين لغة رسمية، ولغة تعاملية، ولغة مزاحمة يؤكد أنصارها أن العجز والقصور في اللغة لا في الفهم. (1)

إن لغتنا العربية مهددة بفعل عوامل مختلفة، ولا أظن أن العامية أحد هذه الأسباب، وكما نصرخ بضياع العربية نصرخ بصوت أعلى علينا أن نجدد في العربية، ونجعلها لغة عصرنا لا عصر غيرنا، وندمجها في التقنية الحديثة للأجهزة الإلكترونية ولغتها، فالحرف العربي ضاع في بلدان كثيرة كانت تكتب لغاتها بالحرف العربي، واليوم انتقلت إلى أحرف لغات أجنبية مثل assalamo alaikom   وkeefhalak

ومما ساعد أيضاً على انتشار الكتابة بالعامية في رسائل الجوال، أن نصوص هذه الرسائل ليست للتوثيق، ولا يتم الاحتفاظ بها غالباً، فلا خوف من أن يراها أحد، فيكشف أخطاءنا، فهي رسائل لأصدقائنا وأحبائنا ستنتهي فاعليتها وتزول سريعاً بعد أن أدت غايتها، وسوف تمحى بلحظة، وكأنها لم تكن، هذه الرسائل لا تحمل طابع البقاء الطويل، ومن ثم إعادة قراءتها والنظر فيها، مما يتيح إمكانية خضوعها للنقد، واكتشاف الأخطاء اللغوية والإملائية وخلاف ذلك، إنها نصوص مؤقتة تزول بانتهاء مهمتها. أما في حالة النصوص الورقية، فمن منا لا يحتفظ برسائل كانت تصله من أبنائه أو أصدقائه، وكانت غالباً نصوصاً شعورية جميلة كتبت بالعربية الفصحى. من هنا يأتي تهديد رسائل الجوال للفصحى، فهي مظهر من مظاهر الحكي بالعامية، بينما الكتابة الورقية مظهر من مظاهر الفصحى. وفي الكتابة الورقية تتشارك اليد مع العين في نقل الجملة من حيِّز التفكير إلى الحيِّز المادي (الكتابة) واليد هي التي تتحكم في كتابة الحرف من خلال مهارة الكتابة بالفصحى التي أتقنتُها في مراحل تعليمي المتعاقبة، فجاءت الكتابة بالضغط على مفتاح الجوال أو الحاسب الآلي، فأخذ جزءاً من آلية الكتابة، وعطَّل جانباً مما تعلمته من مهارة الكتابة بالفصحى، وسوف يؤدي إلى ضعفه تدريجياً، وسيصبح الاعتماد أكبر على هذه المفاتيح، وهذا إضرار بالفصحى. إن عملية التنقل بين مفاتيح الجوال، والزمن الذي أستغرقه للوصول إلى الحرف الذي أريده للتعبير بالفصحى، وللعجلة التي أصبحنا نعيش فيها، تجعلني ألجأ لأقرب حرف يعبر عما أريد بسهولة وسرعة، وصحيح أن حروف الجوال عربية، ولكن على المفتاح الواحد يوجد ثلاثة حروف أو أربعة وأحياناً خمسة، وكتابة كلمة (شفتك مبارح) أسهل من كتابة (رأيتك أمس) لأننا نحتاج للتوصل إلى كتابة الهمزة وقتاً يساوي كتابة جميع الحروف الباقية، وذلك وفق الطريقة التي كتب بها تسلسل الهمزات في مفاتيح الجوال. إنها قضية اختصار المساحة، فحجم الجوال لا يتسع لإفراد مفتاح لكل حرف من أبجدية العربية، ونحن بداعي السرعة لا نتلبث حتى نكتب رسائلنا بالطريقة الصحيحة. وإليكم هذه النماذج من رسائل الجوال التي كتبت باللغة المحكية لبلاد الشام:

1 أنا ببيت خالي ورح نام هون لأنو أم خلدون بالشام شو بدك.

2 سلام الجامعة بدن شهادة التاسع الأصلية وصورتين مصدقات.

3 كيفك عم بتتصل علي بكون سايق او بلمحكمة شوفي ما في وليش ماعم بتمسج؟

أين هي العلاقات الإعرابية في هذه الكتابة؟ وأين هي الكتابة اللغوية والإملائية السليمة؟ لقد ذهبت رسائل الجوال المكتوبة باللغة المحكية بكل هذا، مثلما ذهبت بها أشعار دعاة الكتابة باللغة المحكية من قبل.

لقد ساد الضعف اللغوي الكتابي، وضعفت مهارات التعبير الكلامي والتواصل الحواري بالاعتماد أكثر فأكثر على الجوالات والحواسيب الآلية، حيث يعمد الطلاب إلى كتابة أبحاثهم بواسطة الحاسب الآلي، الذي يقوم بتصويب الأخطاء اللغوية والإملائية، فلا يظهر الضعف اللغوي والإملائي إلا عندما يؤدي الطلاب اختباراتهم، وهذه تكون ورقية غالباً، وتكون الكتابة بخط الطالب، فتكشف حجم الضعف اللغوي والقدرة على التعبير الكتابي. بينما كانت كتابة الأبحاث بخط الطالب تتيح تصويب الأخطاء التي يقع فيها، ويتم تحسين كتابته وتعبيره، إن استخدام الحاسب في كتابة أبحاث الطلاب يضلل الطالب والأستاذ معاً ولا يسمح باكتشاف الأخطاء وتصويبها. إن الهواتف الذكية قلصت مساحة الكلام بين الناس في المنزل وأماكن العمل , فأصبح التواصل بين الإنسان وهذه الأداة الذكية، وليس بين الإنسان والإنسان من خلال لغة الكلام والتخاطب باللغة العربية، وإنما عبر لمس الشاشة والضغط على مفاتيحها وأصبح ذلك ظاهرة في المنازل والمكاتب , فتعطلت لغة الكلام العربي، وغازل الجوال أنفس الناس، وسكتت الألسن، ونطقت مفاتيح الأجهزة الذكية، وأصبح الحديث صمتاً بين الذات والذات، أو بالأحرى بين الجوال والذات، والناس في طريقهم إلى الصمت والخرس، عندما يجلسون مع بعضهم، وتم تفعيل لغة الجوال على حساب اللغة العربية المنطوقة والمكتوبة، العامية والفصحى على حد سواء، فتقلص استخدام اللغة العربية المنطوقة، ليس الفصحى فقط، وإنما العامية أيضاً، وهذا التقليص سيكون له آثار سلبية، ليس فقط على مستوى العلاقات والتواصل الاجتماعي، وإنما على المستوى اللغوي. وقد شكت لي إحدى زميلات العمل، أنه نتيجة انشغال الأخوة والأب والأم بهذا الهاتف الذكي، وتراجع تبادل الكلام بينهم، وضعف التواصل اللغوي، بسبب استحواذ الجوال على هذا التواصل، فقد تأخر النطق والكلام عند ابنتها حتى سن الرابعة.

لقد كان القدماء يعتبرون الوقف بالسكون على أواخر الكلمات لحنا، وأنه خطر يتهدد الفصحى، فما الذي نفعله بلغتنا الفصحى الجميلة لغة القرآن الكريم إذا شاع استخدام وأين هي قدوة الجيل عندما يلقي أساتذتهم الدروس بالعامية؟

ولكن لا ننكر ايجابيات  وسائل التكنولوجيا بالنسبة لتدعيم اللغة العربية يتجسد في الحرص على إنطاق كثير من البرامج التسجيلية والعلمية وبرامج الأطفال المنتجة خارج العالم العربي بالعربية الفصيحة وهذا لصالح اللغة العربية ، ولا شك أن التكنولوجيا الحديثة المتمثلة في الهواتف النقالة أسهمت في وجود تغيير معرفي ملحوظ في كل جوانب المعرفة حيث سهلت العديد من الصعاب أمام طلبة العلم فقربت المسافات ويسرت السبل ، وأتاحت العديد من الفرص، غدت آلاف الكتب والأبحاث والمقالات في جميع المجالات في متناول الجميع من خلال الحاسوب والانترنت والهواتف الذكية وبتكلفة زهيدة.(2)

المراجع:

1- فواز أحمد الزغلول، اللغة العربية في لغة الهاتف المحمول قضايا وحلول، المحاضرة الخامسة، الجامعة الأردنية،2008، ص120

2- محمود شاكر سعيد، تأثير الإعلام الرقمي في الكتابة العربية، المواد العلمية لملتقى دور التعليم والإعلام في تحقيق امن اللغة العربية، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، ص 248-249.
____________
*الدكتورة ميادة القاسم أستاذ مناهج وطرائق البحث الاجتماعي قسم علم الاجتماع  – جامعة ماردين- حلب سابقاً.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة