(دراسة سوسيولوجية)
المقدمة:
إن التفكك الأسري يعدّ مشكلة من أخطر المشاكل التي تواجه الأسرة حاليا، حيث يعود إلى فشل العلاقات الأسرية وانحلالها ويبدو ذلك واضحا في اضطراب العلاقة بين الزوجين واختلاف ثقافة وفكر وميول كل منهما على الآخر، وتباين المستوى التعليمي بينهما وأصبح التفكك الأسري من العلامات البارزة في الواقع الاجتماعي المعاش والذي يشهد فجوة بين القيم الإسلامية والضوابط الشرعية وما أراده الله تعالي لجو الأسرة وبين واقعها الراهن الذي يشهد أمثله كثيرة على تصدع الأسر وغياب جو المودة والرحمة والدفء الاجتماعي ويظهر التفكك الأسري في اضطراب العلاقة بين الوالدين والأبناء لسبب أو لآخر وعدم فهم الأدوار وصراعها كذلك.
تعد الأسرة اللبنة الأولى لتشكيل شخصية الطفل وتلقينه المبادئ الأولية في التنشئة الاجتماعية ففيها تنمو قدراته من خلال التفاعل مع غيره من الأفراد ولا يمكن لهذا التفاعل أن يتحقق ما لم يتوفر الحوار والتواصل داخل الأسرة الذي يحقق التوازن النفسي والاجتماعي للطفل.
كما تعتبر الأسرة نظام اجتماعي متكامل ومتساند وظيفيا مع باقي أنظمة المجتمع الأخرى التعليمية والاقتصادية، كما أنها الوسط الاجتماعي الذي ينشأ فيه الطفل ويتلقى المبادئ والقيم الاجتماعية التي توجه سلوكه في المجتمع “فهي مصدر الأخلاق والدعامة الأولى والإطار الذي يتلقى فيه الإنسان أولا دروس الحياة الاجتماعية” ولكن الملاحظ اليوم هو أن معظم الأسر وبصفة عامة أصبحت تعرف العديد من المشاكل نتيجة للتطور والتغير الاجتماعي الحاصل في المجتمعات، إذ يعتبر التفكك الأسري أحد أهم المشاكل التي تعاني منها جميع المجتمعات.
ومع التطور التكنولوجي الذي أفرز عدة تحولات التي مست جميع بنيات المجتمع والذي انعكست أثاره على الأسرة و بالتالي على وظائفها و مهامها كمؤسسة اجتماعية ، تؤثر وتتأثر بالمحيط الذي تتواجد فيه خاصة مع تغير وضع المرأة الاجتماعي و الثقافي المتمثل في خروج المرأة ميدان العمل الذي أدى إلى تغير دورها و مكانتها في المجتمع فقضاء وقتا طويلا في مجال العمل بعيدا عن البيت يؤثر على توازن الطفل إضافة إلى الصراع في الأدوار بين الرجل و المرأة الذي خلق نوع من التنافس بينهما و بالتالي فتعدد مسؤولياتها ومهامها أدى إلى عدم التوفيق بين واجباتها في تربية الأطفال و بين عملها كامرأة عاملة، الأمر الذي تسبب في تقليص دور الأسرة وتحلل العلاقات التي تربط بين أفرادها فانعكس ذلك على تنشئة الطفل ومستقبله وتحولت مهام التنشئة الاجتماعية إلى مؤسسات أخرى.
إن ما نشهده من متغيرات اجتماعية والنقلة الحضارية والتكنولوجية السريعة وسوء استخدامها وتداعيات الفوضى السياسية أخذت تعصف بالكيان والترابط الأسري حتى وصل بنا الحال بأن الأخ لا يكلم أخاه أو أباه، هذا الابن مع هذا التوجه والابن الآخر مع توجه آخر مما زاد الصراع والتشنج الاجتماعي وتهتك النسيج الأسرى وتماسكه.
لقد غاب الدور التوجيهي والرقابي للوالدين وضعف قيامهم بواجباتهم ومهامهم في تربية ومتابعة الأبناء، كما غاب الحوار والمناقشة والتواصل في الأسرة، وزاد البعد عن الدين وقيم المجتمع والعادات الاجتماعية، مما ساعد ذلك في زيادة معدل الانحراف والضياع والتفكك الأسرى وقطيعة الصلة بين الأرحام. فأين الأسرة في توادها وتراحمها، وأين الأسرة في إكساب الأبناء السمات والخصائص والسلوكيات الحميدة.
إن دخول تكنولوجيا الاتصالات المنازل وعدم ترشيد استخدامها من أهم أسباب التفكك الأسرى حيث أصبح الأبناء مدمنين في استخدامها وقضاء اغلب الوقت بالتعامل والتواصل معها مما أثر ذلك سلباً على التواصل بين أفراد الأسرة وقضاء الوقت معهم في الحديث وتبادل الآراء والأطروحات والاستماع إلى المشكلات فيما بينهم والعمل على حلها.
كما أثر سوء الاستخدام لشبكة التواصل على دراسة الأبناء وتفوقهم بسبب سهر الليالي ومتابعة الأحداث من هنا وهناك، ناهيك عن المواد المعروضة في القنوات الفضائية فأصبحت الدراسة غير مهمة.
إن التقدم الحضاري والتطور الزمني قد انعكس على الأسرة، فلم تعد كما كانت من التماسك، بل أصبح تفككها أحد الظواهر التي لا نستطيع أن نغفل عنها، إذ أن أي خلل في البناء الأسري لن تنعكس آثاره السيئة على فرد واحد من الأسرة، بل على كل الأطراف المعنية التي تضمها مظلة العلاقات الأسرية، فيلاحظ أنه في بعض الأحيان تتعرض الأسرة لبعض العوائق التي تمنع نمو علاقاتها السوية، وتعطل نمو أفرادها نمواً سليماً، وتؤثر في صحة أفرادها النفسية، مثل كثير من ضغوط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والنفسية، وأساليب معاملة الوالدين الخاطئة والأفكار والمفاهيم الخاطئة عن نموذج التفاعل بين الزوجين بعضهما البعض، وبينهما وبين الأبناء مما يؤدى إلى تحولها إلى أسرة مضطربة وإلى حدوث تفكك أسري.
– آثار التفكك الأسري:
إن التفكك الأسرى من أخطر الأمراض الاجتماعية التي تعصف بالمجتمع وتؤثر في تنميته وتحقيق أهدافه بل قد يؤدي إلى تفكيك المجتمع وهلاكه. فلا بد من الإشارة إلى أهم آثاره:
1-آثار التفكك الأسري على الطفل:
– تنشأ لدى الطفل صراعات داخلية نتيجة لانهيار الحياة الأسرية فيحمل هذا الطفل دوافع عدوانية تجاه الأبوين وباقي أفراد المجتمع.
– في كثير من الحالات ينتقل الطفل من مقر الأسرة المتفككة ليعيش غريبا مع أبيه أو أمه فيواجه بذلك صعوبات كبيرة في التكيف مع زوج الأم أو زوجة الأب، وقد يقوم الطفل بعقد عدّة مقارنات بين والديه وبين الوالدين الجدد ممّا يجعله في حالة اضطراب نفسي مستمر.
– يتحتم على الطفل وفقا لهذا الوضع الجديد أن يتكيف مع بيئات منزلية مختلفة في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والمستوى الثقافي ممّا يؤثر على شخصية الطفل بدرجة كبيرة فيخلق منها شخصية مهزوزة غير مستقرة ومتأرجحة.
– يتحمل الطفل كالآباء تماما عبء التفكير الدائم في مشكلة الانفصال.
– يعقد الطفل مقارنات مستمّرة بين أسرته المتفككة والحياة الأسرية التي يعيشها كباقي الأطفال ممّا يوّلد لديه الشعور بالإحباط، أو قد يكسبه اتجاها عدوانيا تجاه الجميع وبالأخص أطفال الأسر السليمة.
– يتعرض الطفل للاضطراب والقلق نتيجة عدم إدراكه للأهداف الكامنة وراء الصراع بين الوالدين أو أسباب محاولة استخدامه – من قبل الوالدين- في شن الهجوم على بعضها البعض واستخدامه كأداة لتحقيق النصر على الطرف الآخر.
– يؤدي هذا الاضطراب في مرحلة الطفولة إلى اضطراب النمو الانفعالي والعقلي للطفل فيبرز للمجتمع فرد بشخصية مهزوزة يعود بالضرر على المجتمع بأكمله.
– خيبة أمل الطفل في مصدر السلطة وهو الأب ومظهر العطف وهي الأم يدفعه إلى الانتماء العصابات التي يجد بينها الإشباع العاطفي الذي يفقده في أسرته وهذا يعرضه وخاصة في فترة المراهقة إلى حالات خطيرة من الانحلال الخلقي بسبب اهتزاز المثل العليا والقيم الأخلاقية في محيط أسرته.
– يتولد لدى الطفل شعور بالقلق والحيرة والحرمان من جراء الضغوط في الأسرة ويتعذر عليه إقامة علاقة عاطفية مع والديه وبالتالي يتعذر عليه إقامة علاقات اجتماعية مع الغير من أفراد المجتمع.
2- آثار التفكك على قيم وثقافة المجتمع:
إن التفكك الأسرى من أخطر الأمراض الاجتماعية التي تعصف بالمجتمع وتؤثر في تنميته وتحقيق أهدافه بل قد يؤدي إلى تفكيك المجتمع وهلاكه.
يسبب التفكك الأسري اختلالا في كثير من القيم التي يسعى المجتمع لترسيخها في أذهان وسلوكيات أفراده، مثل الترابط والتراحم والتعاون والمسامحة، وغيرها من القيم الإيجابية المهمة في تماسك المجتمع واستمراره.
“إن التماسك الأسري مطلب مهم للحفاظ على تماسك المجتمع والإبقاء على القيم السليمة ولهذا فان التفكك الأسري يعوق تحقيق الأسرة لرسالتها المجتمعية ويسهم في تصدع وحدة وقوة المجتمع والأسرة مفوضة لنقل ثقافة المجتمع إلى النشء وتبرز خطورة دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية يعكس ذلك مدى تأثير المشكلات الأسرية على المجتمع.
3- آثار التفكك على الزوجين:
إن انتشار النزاعات بين الزوجين تؤدي إلى اضطراب العلاقات بينهما والتعاسة الزوجية مما يهدد استقرار الجو الأسري والصحة النفسية لكل فرد من أفراد المجتمع وعدم وضوح دور كل واحد منهم وتفكك شبكة العلاقات مما يؤدي إلى شعور الزوجين بخيبة الأمل والإحباط والغضب والفشل.
4- آثار التفكك على نشر الانحراف:
يؤدي التفكك الأسري في بعض الأحيان إلى تهيئة الظروف لانحراف أفراد الأسرة، فعندما تتفكك الأسرة ويتشتت شملها، ينتج عن ذلك شعور لدى أفرادها بعدم الأمان الاجتماعي، وضعف القدرة لدى الفرد على مواجهة المشكلات، وتحوله للبحث عن أيسر الطرق وأسرعها لتحقيق المراد دون النظر لشرعية الوسيلة المستخدمة في الوصول للهدف. وبذلك يغيب الضمير ويؤدي إلى عدم الالتزام بالمعايير والنظم الاجتماعية السائدة التي توجه سلوك الأفراد نحو الطرق المقبولة لتحقيق الأهداف بصورة مشروعة.
– حلول ومقترحات حول مشكلة التفكك الأسري:
إن التفكك الأسري يترك كثيرًا من الآثار السلبية على الفرد والعائلة بشكل خاص، والمجتمع بشكل عام، يتطلب من جميع مكونات المجتمع التدخل وتضافر الجهود والتعاون من أجل إنقاذ الأسر من كل أشكال التصدع والتفكك والضياع وحفظ المجتمع من عدم الاستقرار والأمن والعنف والعدوان. نذكر بعض الحلول والمقترحات في هذا الموضوع:
– واجب على كل فرد في الأسرة أن يحافظ عليها ويرعى حقوقها ويتوخى تحقيق السعادة لها، ويبتعد عن كل ما يهدمها، أو يسيء إليها ويسعى للمحافظة على كيانها وتوفير الأمن لها، فعلى الزوجة أن تقوم بالدور المطلوب منها أمام زوجها، وعلى الزوج أن يقوم بالدور المطلوب منه أمام زوجته.
– السعي إلى حل المشكلات عن طريق التفاهم والحوار بين الزوج والزوجة أو الوالدين والأبناء، والابتعاد عن العنف لأنه لا يعالج المشاكل بل على العكس يزيد من حجمها.
– غرس المعنى الحقيقي للأسرة في نفوس أفراد المجتمع والشباب لتفادي الكثير من المشكلات والعقبات الأسرية
– أن يكون للأبناء دور فعال في تدارك العواقب الوخيمة لهذا التفكك فيجدر بالشباب أن يتواجد بشكل متوازن مع أسرته
– ضرورة ترابط العلاقة بين الأم والأب. حل المشاكل التي تحدث بين الزوجين بعيداً عن الأطفال.
– الاستماع إلى الأبناء والتحدث معهم في مشاكلهم وخصوصياتهم، وذلك لإيجاد الحلول لها.
– تحفيز الأبناء على أن يكونوا قدوة حسنة. تعليم الأبناء أهمية الأسرة، وأهمية التعاون والتعاطف فيها. محاسبة الأبناء عند حدوث خطأ، مع الابتعاد عن الضرب.
– توجيه ونصح الأبناء بضرورة اختيار الأصدقاء الصالحين، والابتعاد عن الأصدقاء السيئين. تعليم الأبناء ضرورة صلة الرحم. غرس الإيمان والقيم الأخلاقية في نفوس الأبناء. تعليم الأبناء على ضرورة التمسك بالعادات الحميدة.
– الابتعاد عن استخدام العنف والتسلط عند تربية الأبناء، لأن ذلك يؤثر على نفسيتهم. عدم تدليل الأبناء بشكلٍ زائد، بل يجب تعليمهم كيفية الاعتماد على أنفسهم.
– تعليم الأبناء على ضرورة استخدام التكنولوجيا بشكلٍ صحيح، والابتعاد عن المواد المخلة للأخلاق والآداب.
_______
* الدكتورة ميادة القاسم أستاذ علم الاجتماع جامعة ماردين تركيا – جامعة حلب سابقاً سوريا.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.