اجتماعالتنويريسلايدر

النظريَّة البنائيَّة الوظيفيَّة ودراسات الأسرة والزواج

(رؤيَّة تحليليَّة)

أولاً: النظريَّة الوظيفيَّة:

تعدّ النظريَّة الوظيفيَّة من أقوى النظريات الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع في الوقت الحاضر، تتميَّز هذه النظريَّة بعدم اهتمامها بالماضي أو بتاريخ النظم الاجتماعيَّة، وإنما ينصب اهتمامها على الكشف عن وظائف هذه النظم. وقد ركَّز الاتّجاه البنائي الوظيفي على دراسة الثقافات كل على حدة في واقعها وزمانها الحالي، فالوظيفة إذ ليست دراسة متزامنة، وإنما هي دراسة آنيَّة.

تعتبر النظريَّة البنائيَّة الوظيفيَّة The Stuctural Functional Theory أحد الاتجاهات الرئيسيَّة في علم الاجتماع المعاصر. وعندما تستخدم كإطار لفهم موضوعات الأسرة، فإنها تواجه متطلّبات عديدة نظراً لتعدّد الاهتمامات والموضوعات المتاحة داخل نطاق الأسرة مثل العلاقات بين الزوج والزوجة والأبناء، وكذلك التأثيرات المنبعثة من الأنساق الأخرى في المجتمع الكبير كالتعليم والاقتصاد والسياسة والدين والمهن على الحياة الأسريَّة وبالتالي تأثير هذه الحياة على تلك الأنساق.

وقد استمدَّت النظريَّة البنائيَّة الوظيفيَّة أصولها من الاتجاه الوظيفي في علم النفس وخاصَّة النظريَّة الجشطلتيَّة، ومن الوظيفة الأنثروبولوجيَّة كما تبدو في أعمال مالينوفسكي وراد كليف بروان ومن التيارات الوظيفيَّة القديمة والمحدثة في علم الاجتماع عند تالكوت بارسونز.

وينظر معظم أصحاب تلك النظريَّة إلى المجتمعات الإنسانيَّة على أنها نسق اجتماعي تعتمد أجزاؤها بعضها على بعض ويدخل كل جزء منها في عدد من العلاقات الضروريَّة للوصول إلى القوانين التي تنظم الحياة الاجتماعيَّة والمقصود بوصف المجتمع الإنساني بأنه نسق أي إن الحياة الاجتماعيَّة يسودها نوع من الترتيب والتماسك والاستمرار، لا يتيسر للفرد بدونه أن يشبع أبسط حاجاته الأوليَّة والثانويَّة ويرجع هذا الترتيب إلى تجمع العلاقات الاجتماعيَّة إلى مجموعات، تتخذ كل مجموعة صورة نظام اجتماعي”(1).

بناءً عليه سنسعى لتناول تصور النظريَّة الوظيفيَّة في تفسير مسألة الزواج وتكوين الأسرة وإلقاء الضوء على بعض مشكلات الشباب في هذه المسائل من خلال التصور المنهجي للنظريَّة البنائيَّة الوظيفيَّة.

ثانياً: بعض أعلام النظريَّة البنائيَّة الوظيفيَّة:

يرجع الفضل للعلامة البريطاني “هربرت سبنسر” Herbert Spencer والعلامة الفرنسي أميل دوركهايم Emil Durkeim في توجيه انتباه الأنثروبولوجيون نحو التحليل الوظيفي، فقد لاحظ سبنسر أن هناك تشابهاً بين المجتمع والجسم الحي ولكنه تشابه غير كامل. إذ يستمد كل منهما كيانه ووحدته وتماسكه من عوامل خاصة به. فالعوامل التي تؤدي إلى وحدة الجسم هي عوامل ماديَّة داخل الجسم أما المجتمع فيستمد وحدته من عوامل خارج جسم الأفراد، مثل العادات والتقاليد والعرف، وقد أطلق على تلك العوامل الاجتماعيَّة اصطلاح ما فوق العضوي، وقد لاحظ “سبنسر” أن الجماعات الإنسانيَّة تميل دائماً إلى النمو، فيكبر حجمها ويزداد فيها التنظيم والتكامل وكلما ازداد التباين البنائي ازداد تساند أجزاء الكائن الاجتماعي واعتمد بعضه على بعض. (2)

حيث أن الاتجاه البنائي الوظيفي في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة والثقافيَّة قد تأثر بالاتجاه الوظيفي في علم الأحياء أي أن علم الأحياء منقسم حول فكرة أن كل عضو يقوم بوظيفة أو وظائف ضروريَّة لحياة الكائن الحي ويؤكد على مبدأ الاعتماد المتبادل للأعضاء وبصفة مماثلة يتكون المجتمع من أعضاء وكل عضو يقوم بوظيفة أو وظائف تسهم في بقاء النظام الاجتماعي واستمراريته على أساس الترابط والتأثير المتبادل. (3)

ويرى العالم راد كليف بروان Rad Cliffe Brown أن وظيفة أي نظام اجتماعي يكمن في الدور الذي يلعبه في البناء الاجتماعي الذي يتألف من أفراد يرتبطون بعضهم ببعض في كلٍ واحد متماسك عن طريق علاقات اجتماعيَّة محدَّدة، ويتحقق استمرار هذا البناء بعمليَّة الحياة الاجتماعيَّة ذاتها. بمعنى أن الحياة الاجتماعيَّة في أي مجتمع هي التي تخلق ذلك البناء وتحافظ على كيانه، وتبعاً لهذا التصور يكون للنسق الاجتماعي وحده كيان وظيفي، فليس هو مجرد تجمع أو حشد وإنما هو كلٌ متكامل. (4)

يرى بارسونز أن البنى الاجتماعيَّة تشتمل على أنظمة من القيم والمعايير الاجتماعيَّة الشرعيَّة المتأصِّلة في مؤسَّسات المجتمع وهو بذلك يستخلص هذه الأنظمة المعياريَّة من العلاقات والسلوكيات الاجتماعيَّة التي يمكن ملاحظتها ويتعامل معها كبناء فرعي يشكل الحياة الاجتماعيَّة داخل النظام الكلي وهذه القيم والمعايير المؤسسيَّة هي في رأيه التي تنظم سلوك أعضاء المجتمع وتحافظ على النظام بينهم. ولم يكن بارسونز مهتماً بالنظام الاجتماعي في حد ذاته فقط وإنما كان مهتماً أيضاً بعلاقته بأنظمة الفعل الأخرى وخاصة نظامي الشخصيَّة والثقافة.

نظر بارسونز إلى المجتمع على أنه شبكة واسعة من الأجزاء المترابطة كل جزء منها يساعد في المحافظة على النظام ككل. ويزعم المدخل الوظيفي أنه إذا لم يسهم جانب ما من جوانب الحياة الاجتماعيَّة في استقرار المجتمع أو بقائه أي إذا لم يقم بوظيفة مفيدة محددة أو يعزِّز من الإجماع القيمي بين أعضاء المجتمع فلن ينتقل هذا الجانب من جيل إلى الجيل الذي يليه (5)

يعتمد المنظور الوظيفي على افتراض أساسي يدور حول فكرة تكامل الأجزاء في كلٍ واحد والاعتماد المتبادل بين العناصر المختلفة للمجتمع، ويرى هذا المنظور أن المجتمع نسق يتألف من عدد من الأجزاء المترابطة ويهتم بدراسة العلاقة بين مختلف هذه الأجزاء وبين المجتمع ككل. (6)

يرى أصحاب المنظور الوظيفي أن النظام الاجتماعي يقوم على مبدأ الاعتماد المتبادل بين هذه الأجزاء. وإن أي تغير يحدث في أي جزء من أجزاء المجتمع يصاحبه بالضرورة تغير مماثل في الأجزاء.. في النظم الأخرى وفي المجتمع ككل على أن أجزاء النسق الاجتماعي تعد كلها مترابطة بعضها مع بعض.

“وإذا كان المجتمع نسق يتألف من أنساق فرعيَّة، فقد يكون لكل مستوى مشكلاته الاجتماعيَّة الأساسيَّة بحيث يصعب تفسير المشكلات التي تحدث في مستوى النسق ككل في ضوء المشكلات التي تحدث في أنساقه الفرعيَّة أي أننا كلما تحركنا من الأنساق الأصغر إلى الأنساق الأكبر قد نجد مشكلات اجتماعيَّة جديدة تميز كل مستوى من مستويات التحليل السوسيولوجي ومن ثم فإن تفسير مشكلات كل مستوى يجب أن يكون نابعاً منه ومعبراً عنه. (7)

ويؤكد ذلك ما يذهب إليه بارسونز في نظريته عن النسق الاجتماعي حيث ذهب أن لكل مستوى من مستويات الأنساق الاجتماعيَّة مشكلاته النوعيَّة التي تميزه عن غيره من الأنساق، فعندما تحدث بارسونز عن طريقة عمل النسق الاجتماعي، ذكر بأن كل نسق لابد أن يجد حلاً لعدد من المشكلات أو أن يواجه على الأقل أربع مشكلات أو شروط أساسيَّة لكي يستمر في البقاء.

وقد أطلق بارسونز على هذه المشكلات أو الشروط اسم الملزمات الوظيفيَّة Functional Imperativer وهي:

1- التكيف Adaptation.

2- تحقيق الهدف Goal Attainment.

3- التكامل Integration.

4- المحافظة على بقاء النمط وإدارة التوتر Pattern Maintenance & Tension Management.

ويتطلب التكيف مع البيئة أن يقوم النسق الاجتماعي بتأمين التسهيلات والوسائل الاقتصاديَّة الضروريَّة لحياة المجتمع. وتوزيعها من خلال النسق ويشير تحقيق الهدف إلى مشكلة تحديد أولويات بين أهداف المجتمع. (8) والاستخدام الأمثل لموارد النسق من أجل تحقيق هذه الأهداف. ويعنى التكامل ضرورة التنسيق بين أجزاء النسق الاجتماعي والمحافظة على العلاقات الداخليَّة بين هذه الأجزاء.

أمَّا مشكلة المحافظة على النمط وإدارة التوتر، فتشير إلى ضرورة أن يتأكد المجتمع من أن أعضائه تتوافر فيهم الخصائص المناسبة. لتحقيق الالتزام الضروري بالقيم الاجتماعيَّة، كما تشير هذه المشكلة إلى ضرورة التعامل مع التوترات الداخليَّة والضغوط أي أن يكون أعضاء المجتمع قادرين على خفض التوتر وإدارة التوترات الانفعاليَّة التي يمكن أن تظهر بين الأعضاء خلال التفاعلات الاجتماعيَّة اليوميَّة.

ونجد أن الملزمات أو المتطلبات الوظيفيَّة هذه وهي التكيف وتحقيق الهدف – والتكامل والمحافظة على بقاء النمط وإدارة التوتر هي من وجهة نظر التحليل الوظيفي تعد أساسيَّة وعالميَّة في جميع الأنساق الاجتماعيَّة ذلك لأن الفشل في إنجاز هذه الملزمات يؤدي إلى تعرض النسق الاجتماعي إلى الانهيار وتشكل المتطلبات الوظيفيَّة مشاكل محددة يتعين على الأنساق الاجتماعيَّة حلها من أجل المحافظة على بقاء المجتمع”(9).

وبتطبيق وتفسير المتطلبات الوظيفيَّة على نسق الأسرة والزواج حسب بارسونز:

حيث يشير التكيف إلى ضرورة تكيف الأسرة أو تلاؤمها مع البيئة الاجتماعيَّة والطبيعيَّة التي تعيش فيها. فالتبادل بين الأسرة والاقتصاد يكون عن طريق التحاق فرداً أو أكثر من أفراد الأسرة بالعمل في مقابل الحصول على أجر ومعنى هذا أن الأسرة تواجه مشكلة التكيف لمقابلة ظروف الاقتصاد عن طريق العمل واكتساب المهارات والتدريب المتخصص هذا من ناحيَّة، ومن ناحيَّة أخرى يواجه الاقتصاد مشكلة التكيف لمقابلة احتياجات ومتطلبات الأسرة عن طريق: حد أدنى للأجور وتوفير ظروف عمل صحيَّة، والإجازات المرضيَّة في حالة الوضع، والمكافآت في حالات الوفاة والكوارث…”

أمَّا بالنسبة لـ تحقيق الهدف، فيشير إلى الفهم الأساسي والموافقة العامة على أهداف الأسرة ككل فجميع الأنساق الاجتماعيَّة بما فيها الأسرة في حاجة إلى سبب للبقاء أو للوجود وهذا يعني وجود أهداف فرديَّة وجمعيَّة يتعين بلوغها مع إيجاد الوسائل الملائمة لتحقيقها وهذه هي المتطلبات الأساسيَّة التي تشترك فيها الأسرة مع أنساق المجتمع المختلفة ويهتم “التكامل على العكس من التكيف وتحقيق الهدف بموضوعات داخل النسق. فهو يشير بصفة مبدئيَّة إلى العلاقة بين الوحدات أو الأجزاء داخل النسق ومن هذه الزاويَّة ينظر إلى المجتمع المحلي باعتباره نسقاً فرعياً من المجتمع الكبير، كما أن التأثير المتبادل بين الأسرة النواة والمجتمع المحلي يبدو في مشاركة الأسرة في الأنشطة الصناعيَّة أو الاجتماعيَّة أو الدينيَّة في الوقت الذي يمنح المجتمع المحلي الأسرة هويتها وكيانها. ويمد لها يد العون والمساعدة وخاصة في أوقات الأزمات، وفي الظروف العاديَّة يقوي المجتمع المحلي روابط التماسك داخل الأسرة النواة ومع ذلك ففي أوقات أخرى، يمكن أن يتسبب المجتمع المحلي في عدم تركيز الأسرة على عملياتها الداخليَّة. (10)

“هذا ويتركز اهتمام المطلب الأخير هو المحافظة على بقاء النمط على الموقف الداخلي في النسق الاجتماعي (الأسرة)، فهو يهتم بالأفراد (الفاعلين) وتوقعاتهم وأيديولوجيتهم وقيمهم. فقد يعاني الفرد من صراع الدور أو اللامعياريَّة. وتكون الأسرة في هذه الحالة هي المسؤول الأول عن مواجهة هذه المتطلبات، حيث تمتص التوتر وتعطي الوقت وتمنح الاهتمام من داخل عمليَّة التنشئة الاجتماعيَّة لأعضائها بحيث تطبعهم تبعاً للإيديولوجيات والقيم الخاصة بالنسق. وعلى ذلك تصبح الأسرة أصغر وحدة اجتماعيَّة مسؤولة عن المحافظة على نسق القيم، الذي يتحدد عن طريق الدين والأنساق التربويَّة، فيتحكَّم في تحديد أنماط السلوك المرغوبة أو المطلوبة أو الشرعيَّة. ولما كان الأطفال يتعلمون هذه القيم داخل محيط الأسرة فإن أحد واجباتها الأساسيَّة أن تعمل على تماثل أعضائها وامتصاص توتراتهم. وبدون إنجاز هذه المتطلبات لا يمكن للنسق الأسري أو الزواجي أن يوجد وكذلك المجتمع. وبالتالي لا يستطيع الشباب أن يكونوا أسرة.

لذلك فإن المتطلبات الأربعة السابقة تعد أساسيَّة لجميع الأنساق الاجتماعيَّة وعلى رأسها الأسرة، ذلك لأن الفشل في إنجاز هذه المتطلبات يؤدي إلى تعرض نسق الأسرة بل المجتمع بأسره إلى الانهيار”(11).

حيث أن الأسرة تعتبر نسق اجتماعي من ضمن النسق الاجتماعي الكلي وهو المجتمع، وبما أنها الوحدة الاجتماعيَّة الصغرى في المجتمع فإن أي تغير يحدث في النظم الاجتماعيَّة مثل النظام الاقتصادي أو التربوي أو الديني فإنه يؤثر وينعكس عليها حتماً: ولعل التغيرات والتحولات التي حدثت في القيم وأشكال السلوك والتقاليد والعادات والمعتقدات والنظم الاجتماعيَّة والبناء الاجتماعي.

” فالزواج نظام اجتماعي تتمثل فيه بنيَّة الجماعة، وتتجلى فيه طبائعها وخصائصها، وهو يخضع في نشوئه لتقاليد وأعراف ترتبط بعقيدة الجماعة وسلوكها الاجتماعي والأخلاقي، ولأن الزواج حجر الأساس في بناء الأسرة كانت عنايَّة المولى سبحانه وتعالى به فنزلت الآيات الكريمة في أكثر من موضع بالقرآن الكريم بأحكام الزواج، ويرجع هذا الاهتمام بأمر الزواج أن الأسرة هي أساس المجتمع وإذا صلحت صلح المجتمع وإذا انهارت انهار المجتمع ومن ثم جاءت آيات الكتاب الكريم والسنة النبويَّة بالدعوة لبناء الأسرة وإرساء قواعدها على أسس متينة لسعادة الإنسانيَّة ومقاومة الفساد وفوضى الاختلاط ولخلق جيل صالح سعيد عن المتع الجسمانيَّة وعن الحياة الماديَّة الفاسدة حتى تسمو الحياة الزوجيَّة وتسود الأسرة جميعها فينعكس هذا على المجتمع فيرقى ويتقدم وينمو ويزدهر.(12)

فالنسق الاجتماعي هو محور اهتمام الاتجاه البنائي الوظيفي بما يتضمنه ذلك النسق من عمليات تجري بين مكوناته أو وحداته وما ينتج عن تلك العمليات أو التفاعلات من آثار أو إسهامات وظيفيَّة ضروريَّة لبقائه ككل.

والنظريَّة الوظيفيَّة في تناولها للزواج تسعى إلى توضيح وجود الأسرة عن طريق إبراز وظائفها الاجتماعيَّة. فإن التركيز ينصب على الأجزاء التي يتكون منها النسق الزواجي مع الاهتمام بكل جزء وعنصر في النسق باعتباره مؤدياً لوظيفة معينة في النسق الكلي أو معوقاً له كذلك الاهتمام بالعلاقات التي تربط بين النسق الزواجي والأنساق الخارجيَّة.

ينظر الاتِّجاه البنائي الوظيفي إلى الزواج على أنه جانب من النسق الاجتماعي يساعد على المحافظة على البناء الاجتماعي ككل، وتوازنه وذلك لأن الفرد عندما يقدم على الزواج يبعده عن الفساد ويوفر له الاستقرار وبذلك يمنح الاتزان للأنساق الاجتماعيَّة الأخرى في المجتمع، لذا فتأخر سن الزواج يؤثر على البنيان الاجتماعي كله يحدث فيه خلل نتيجة لحدوث تغيرات في الأنساق الفرعيَّة المؤثرة في النسق الزواجي (النسق الديني، النسق الاقتصادي، النسق الثقافي التعليمي….)

ويدور المحور الرئيسي للمدخل البنائي الوظيفي حالياً على الأقل حول تفسير وتحليل كل جزء (بناء) في المجتمع، وإبراز الطريقة التي تترابط عن طريقها الأجزاء بعضها البعض، ولهذا يكون عمل التحليل الوظيفي هو تفسير هذه الأجزاء والعلاقات بينها. فضلاً عن العلاقة بين الأجزاء والكل، وفي الوقت الذي توجه فيه عنايَّة خاصة إلى الوظائف التي تكون محصلة لهذه العلاقة. (13)

ويتبين أن اهتمام النظريَّة الوظيفيَّة يتركز حول بقاء نسق الأسرة وتفترض ظاهرة بقاء النسق System Maintenance عموماً أن كل جزء في النسق يلعب دوراً في أداء وظيفة الوحدة الكليَّة، ولهذا يدرس السلوك الزواجي أو الأسري في محيط إسهاماته في بقاء النسق الزواجي أو الأسري.

ويشير البناء الاجتماعي للأسرة إلى الطريقة التي تنتظم بها الوحدات الاجتماعيَّة والعلاقات المتبادلة بين الأجزاء، كما يشير إلى أنماط التنظيم التي تختلف بصورة واضحة في أنحاء العالم إلا أن الأسرة على الرغم من هذا الاختلاف فإنها تكشف عن نمط معين من التنظيم كما أنها تؤدي إلى نتائج متكررة محددة، فاتخاذ زوجة أو زوجات، أو تأسيس منزل مستقل، أو مشاركة الزوج والزوجة في اتِّخاذ القرارات أو تركيز الميراث في الابن الأكبر، كل هذا يبين أن نفس الأشياء يمكن أن تشارك فيها مجتمعات عديدة. (14)

لما كان علم الاجتماع مهتماً أولاً وقبل أي شيء بالظواهر الاجتماعيَّة ولما كانت الأسرة جماعة بالتأكيد، ترتب على ذلك أن أصبحت الإطارات النظريَّة الرئيسيَّة لتحليل الأسرة والزواج ذات طبيعة سوسيولوجيَّة. هذا يعني أن الأسرة تدخل بشكل أوضح في بؤرة اهتمام علم الاجتماع حيث تكشف الدراسات الأسريَّة المعاصرة عن موضوعات جديدة مثل الزواج والتغير في البناء والوظيفة..

يحتلّ موضوع الأسرة واقعها، ووظائفها وقيمها ومشكلاتها وأنساقها وأصولها وتكوينها مكاناً مهماً في الدراسات الاجتماعيَّة والتربويَّة. ولتشكيل الأسرة لابد من الزواج فنظام الزواج هو العلاقة المشروعة بين الرجل والمرأة ويتم وفق أوضاع يقرها المجتمع وفي حدود يرسمها ويعينها ويفرض على الأفراد الالتزام بها ويعد الزواج الدعامة والركيزة الأولى لتأسيس الأسرة في تحقيق الأمومة والأبوة وصناعة الأجيال وفي الوقت نفسه هو سكن نفسي وجسدي يتجلى بالأمن الانفعالي والعاطفي والحياة الوجدانيَّة

فالزواج نظام يحقق أهداف اجتماعيَّة وثقافيَّة واقتصاديَّة وتربويَّة فضلاً عن الأهداف الخاصة أو الشخصيَّة كذلك يعد سبباً من أسباب بقاء النوع البشري واستمراره لذلك أولته المجتمعات اهتماماً خاصاً في نظمها وأنساقها وقيمها واختلفت أشكاله وأنواعه ووسائله وشروطه ومجرياته وأحداثه تبعاً لكل مجتمع وعليه فإن الأسرة المصريَّة قد تعرضت. بشكل واضح إلى تغيرات واضحة بين فئات الأسر المختلفة أدت إلى تغيرات في القيمة المتعلقة بالزواج، مثل التأخر في سن الزواج وزيادة أو نقصان في معدلات الزواج والطلاق واختيار الزوجة. وهذا يؤيد ما ذهبت إليه من أن طبيعة أنماط الأسرة في المجتمعات المختلفة تكشف عن مفارقات تعكس مبلغ التغير الذي بلغه كل نمط، والنتائج على هذا التغير وخاصة فيما يتعلق بقيم الزواج ويبدو واضحاً في التغيرات التي تعرضت لها أدوار الجنسين في الوقت الحاضر نتيجة للتغيرات المجتمعيَّة، والمهنيَّة والتعليميَّة والتي أثرت بالتالي في الزواج وفي حياة الأسرة. (15)

وتعتبر دراسة الأسرة والزواج في علم الاجتماع من أكثر الموضوعات التي نالت اهتمام أغلب الباحثين فيه، وقد عبر كثيرون عن المكان الهام الذي تشغله الأسرة في المجتمع بطرق متعددة، حيث أن الأسرة لا تكون إلا بالزواج على اعتبار أن الزواج شرطاً أولياً لقيام الأسرة واعتباره نتاجاً للتفاعل الزواجي.

حيث نجد أن للزواج وظائف عديدة منها الاستقلال والاستقرار وتأسيس أسرة خاصة والإنجاب وتحقيق السعادة والحب والاعتماد على النفس والأمن الاقتصادي والعلاقة الجنسيَّة المشروعة وتبادل العواطف واستبعاد مشاعر الوحدة. لكن الأسرة بدأت تميل بسرعة للتغير لذلك لابد من تحليل مسائلها ولاسيما مسألة تأخر سن الزواج وما يترتب عليه من منعكسات، مرتكزاً على نوع خاص من التفكير يتصور أن الأسرة جزءاً متكاملاً من مجتمع يتغير بسرعة.

ومن أبرز الاتجاهات الحديثة الآن ذلك الاتجاه الذي يهتم بدراسة كل التفاصيل التي تكشف عن الحياة اليوميَّة للأسرة في محاولة لفهم علاقة الأسرة كنسق اجتماعي بالأنساق الأخرى في المجتمع من الناحيتين البنائيَّة الوظيفيَّة، وكما أن الاهتمام بالأفراد في الأسرة يعتبر من العلاقات المميزة لهذا الاتجاه.

كما أن دراسة الأسرة والزواج قد مر بعدة تطورات كانت تعكس ظروف العصر وطابع الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وأصبحت الأسرة تواجه عدداً من المشاكل من فقر وهجرة.

“ويرى بارسونز T. Parsons أن أبرز ممثلي النظريَّة البنيويَّة والوظيفيَّة أن التوازن بمثابة الطبيعة المركزيَّة للأسرة، فالأسرة تعمل على ترسيخ وضع متوازن ومنسجم كتعويض عن التأثيرات والتوترات الخارجيَّة، بمعنى آخر أن بارسونز يرى أن الاستقرار في بنيَّة الأسرة هو المهمة الرئيسيَّة للزوج الأب والزوجة الأم، هذه المهمة تحددها طبيعة الذكور والإناث من البشر وذرائعيَّة دور الذكر، وتعبيريَّة دور الأنثى هذه المهام، رسمت خطاً تقسيمياً ثابتاً داخل الأسرة، وأيضاً في البنيان الاجتماعي الكبير.

أما بالنسبة لوظائف الأسرة فإن استقرارها في هذا الشأن فيؤكد كذلك الحال بالنسبة للتكيف الاجتماعي، فالأسرة تعمل على نقل القيم والقواعد المقبولة وأنماط السلوك القائمة للأسرة، كما وتتضمن تكيف الفرد لمطالب المجتمع والتآلف داخل الأسرة، ويُعّد الأفراد لأن يعملوا على الحفاظ على الأسرة في المجتمع.

فالأسرة بالنسبة لبارسونز هي بمثابة نظام تندمج فيه نظم فرعيَّة لا يتسنى فهمها دون الرجوع إلى النظام الشامل، فالأسرة باعتبارها نظاماً فرعياً معرضة لضغوط من ناحيَّة التغيرات التي تطرأ على المجتمع الكبير، فالتأثيرات التي تحدث في الأسرة وردود الأفعال هي انعكاسات للظروف الجديدة والقيم الثقافيَّة الجديدة، ولعل أهم إسهام للنظريَّة الوظيفيَّة، هو تأكيدها على أن فهم السلوك الإنساني” (16)

ويمكن أن نقول إن تحليل دور المعايير والقيم في الأفعال، وهذا يساعد بطريقة أو بأخرى على فهم صراع القيم والمعايير إبان التغيرات الاجتماعيَّة الكبرى، ففي هذه الفترات يكون الناس تحت ضغط القيم الجديدة، فالتغيرات الأسريَّة مرجعها الأساسي للعوامل الثقافيَّة حيث تفكير الشباب الجديد الذي يعكس القيم الجديدة المكتسبة حيث التحرر، رفض التقاليد، القلق، عدم الاستقرار المهني، هذه الأيديولوجيَّة الثقافيَّة الجديدة وهي المفسر الحقيقي وراء ثورة الشباب على النظم المتوارثة بما في ذلك الأسرة والزواج. ومدى أهميَّة فئة الشباب في المجتمع وضرورة حل مشكلاته.

المراجع:

. 1- وسام العثمان، المدخل إلى الانثروبولوجيا، الأهالي، دمشق، ط1، 2002، ص 49-50

. 2- المرجع السابق نفسه، ص 49-50

3- أحمد سالم الأحمر، علم اجتماع الأسرة بين التنظير والواقع المتغير، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط1، 2004، ص 39، 40

4- وسام العثمان، مرجع سابق، ص 49، 50

5- مصطفى خلف عبد الجواد، نظريَّة علم الاجتماع المعاصرة، دار المسيرة، عمان، ط1، ص2009، ص 278

6- طلعت إبراهيم لطفي، كمال عبد الحميد الزيات، النظريَّة المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، بدون تاريخ، ص .68،69

7- المرجع السابق نفسه، ص 727

8- المرجع السابق نفسه، ص 72 -73

9- المرجع السابق نفسه، ص 73-74

10- سناء الخولي، الأسرة والحياة العائليَّة، دار النهضة العربيَّة، بيروت، 1998، ص 148-149

11- المرجع السابق نفسه، ص 150

12- دعاء فتحي جمعة، العوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة للزواج العرفي والآثار المترتبة عليه، رسالة ماجستير، جامعة الإسكندريَّة، كليَّة الآداب، 2004.ص 33

13- سناء الخولي، الأسرة والحياة العائليَّة، مرجع سبق ذكره، ص 143

14- المرجع السابق نفسه، ص 143، 145

15- المرجع السابق نفسه، ص 329

16- محمد أحمد بيومي، عفافِ عبد العليم ناصر، علم الاجتماع العائلي دراسة التغير في الأسرة العربيَّة، دار المعرفة الجامعيَّة، القاهرة،2005.، ص 70-71

_______
* الدكتورة ميادة القاسم أستاذ علم الاجتماع جامعة ماردين تركيا – جامعة حلب سابقاً سوريا.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة