إن وسائل الإعلام الجديد أصبحت السلطة الأولى في عصرنا الحاضر بعد ما كانت السلطة الرابعة وهي تقوم اليوم بدور أساسي في تأجيج الحروب أو تحقيق السلام والدور الأول لوسائل الإعلام ليس بث ثقافة ما أو إيديولوجية ما وإنما تغطية الأحداث، ولكن يمكن أن تساهم في تعزيز ثقافة السلام أو النزاعات، والسلم والحرب مرتبطين بالخطاب الإعلامي المسيطر وتستطيع وسائل الإعلام الجديد أن تجعل مفهوم ثقافة التعايش السلمي سائداً وحاضراً أو ضعيفاً وغائباً في المجتمع.
في ظل ما نعيشه الآن من أحداث عنيفة ومتلاحقة وظهور ممارسات اجتماعية تمييزية نلاحظها على سلوك الأفراد، وميل دائم إلى الانحيازات العنيفة والهجوم المستمر على كل آخر وعدم التسامح معه، لا يخفى على أحد كيفية تطور سلوك الناس نحو العنف والحدة بشكل كبير وواضح وغير مقبول، وبناءً على ذلك نلقي الضوء على هذا الموضوع حول دور وسائل الإعلام الجديد في تعزيز وتطور ثقافة التعايش السلمي. ومما لا شك فيه أن الخطاب الإعلامي من أهم وسائل نشر ثقافة التعايش في العصر الحالي، خاصةً بعد أن تطورت أدوات ووسائل هذا الخطاب في المجتمعات الحديثة تطوراً مذهلاً، فأصبحت قادرة على أن تنقل الرسائل والمعلومات بدرجة هائلة من الدقة والواقعية، حيث يلعب الإعلام دوراً أساسياً في إيصال المعلومات والتفاعل مع المواطنين من خلال الأحداث المثيرة التي تعرضها وخاصةً الوسائل الإعلامية التي تستعملها والتي تكون أكثر إثارة لتجذب أكثر المشاهدين ليتابع ما تعرضه باستمرار وقد عملت وسائل الإعلام من إحداث تغييرات كثيرة وساهمت بشكل أو بآخر في التأثير على مجرى الأحداث وتحريكها بالطريقة التي تشاء وفق مصالحها ومن هنا يكون لهذا البحث من أهمية في نشر قيم التعايش السلمي من خلال دور وسائل الإعلام لما له دوراً في درء الأخطار المحيطة من خلال التعامل مع الحدث بمصداقية وعدم تضخيمه،” ولأن هذه الوسائل الإعلامية لها مساحات واسعة في النشر فإن ما ينشر فيها من موضوعات ورسومات ومجالات متعددة له صدى لدى الأفراد في المجتمع ومن تلك الموضوعات ما يتعلق بالقيم الأخلاقية وبعض المبادئ وثقافات متنوعة منها ما يدعو إلى الكراهية والتعصب وعلى العكس من ذلك نحن بأمس الحاجة إلى ثقافة أخرى هي ثقافة التعايش السلمي التي هي هدف كل المجتمعات المحبة للخير والسلام”(1). بل إننا في وقت وفي مرحلة تحتاج إلى مثل هذا التعايش والتسامح ونشره وتعزيزه بين أوساط المجتمعات. وكذلك تبني هذه الثقافة كخطوة مبدئية للتوعية بضرورة نبذ العنف والكراهية كمدخل رئيسي لمجتمع أفضل وأكثر أماناً واستقراراً.
“ومع انتشار وسائل الإعلام الجديد وشيوع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي التي غدت هوية العصر وعنوانه الاتصالي فإن شرائح المجتمع في كل مكان اتجهت للمشاركة الفاعلة في هذه الشبكات والانخراط فيها بشكل غير مسبوق وخصوصاً منذ العقد الثاني من الألفية الثالثة وشدة تأثيرها في مختلف شرائح المجتمع، فأصبح من الضرورة أن تولي وسائل الإعلام الاهتمام بالوضع الداخلي من خلال تسليط الضوء على تعزيز ونشر ثقافة التعايش السلمي وغرس ثقافة قبول الآخر فيما بينهم عبر وسائل الإعلام الجديدة، مع ضرورة تبني وتشجيع ظاهرات التعايش والتسامح ونبذ ظاهرات التطرف والعنف” (2). فإن تراجع بعض أفراد المجتمع عن مفهوم الثقة والأمان، فلا مسؤولية ولا احترام ولا ديمقراطية يرجع إلى البعد عن قيم التعايش السلمي بما تحمله من التقدير العطاء والاحترام فكل هذا بحاجة إلى نشر وتوعية بين أفراد المجتمع والعمل عل تطوير وتعزيز قيم التعايش السلمي.
لقد مرت المجتمعات بجملة من التحولات والأزمات على مر التاريخ، وما تمخضت عنه هذه الأزمات من أحداث وتداعيات هزت كيان المجتمع بأسره، وأحد هذه التداعيات هو ظهور سلوكيات غريبة لم يشهدها المجتمع من ذي قبل وجملة من مظاهر العنف نتيجة الصراعات والتبدلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإيديولوجية والديمقراطية والثقافية، وفي ظل تلك الأوضاع يعيش أفراد المجتمع حالة من التطور السريع والذي يلقي بضلاله في أغلب الأحيان على أفكارهم ومعتقداتهم وعلى طريقة الحوار لديهم والتي تولد لدى الأفراد نوعاً من العداوة والكراهية، هذه السلوكيات أصبحت لغزاً للعديد من الباحثين والمهتمين بهذا الشأن من أجل التعرف على ماهيتها، وهنا يأتي دور وسائل الإعلام في نشر ثقافة التسامح و التعايش السلمي بين أفراد المجتمع ونبذ العنف. وثقافة التعايش باتت من الضروريات الملحة التي يفرضه الواقع الراهن لمواجهة العنف المجتمعي، مما يُوجب الحرص على ترسيخ القيم الإنسانية وتعزيز قيم المواطنة، فالتعايش والتسامح من الصفات التي تحبها النفوس وتنجذب إليها القلوب. (3).
وفي هذا السياق لا بد من غرس ثقافة قبول الآخر فيما بين الأفراد عبر وسائل الإعلام الجديدة، وفي الترويج لهذا النمط الثقافي والبحث في دور منصات الإعلام الجديد في نشر هذه الأنماط الفكرية والثقافية بين المجتمعات، فهي من القضايا التي تهم المجتمعات المعاصرة لما تحمله من قيم سامية ومثل عليا من خلال الاحترام، مع ضرورة تبني وتشجيع ظاهرات التعايش والتسامح ونبذ ظاهرات التطرف والعنف، فكل هذا بحاجة إلى نشر وتوعية بين أفراد المجتمع والعمل على تطوير وتعزيز قيم التعايش السلمي عبر وسائل الإعلام باعتبارها السلطة الأولى في عصرنا الحاضر.
ومما لا شك فيه أن الإعلام وسيلة قوية يمكن أن تسهم في ذلك مساهمة فعالة وقوية فلإعلام سلاح ذو حدين في هذا الجانب فنحاول تسليط الضوء على دور الإعلام الجديد في تعزيز ثقافة التعايش بين الناس إذ يعتبر نشر ثقافة التعايش السلمي وقبول الآخر من أهم أدوار الإعلام الذي يلعب الدور البارز في حياة المجتمعات المعاصرة نظراً لما يتمتع به من قدرة كبيرة في إيصال المعلومات لا سيما إذا أراد المجتمع تبني فكرة معينة ونشرها بين أوساطه، كما يتوقف نجاح هذه العملية على طبيعة المجتمع حتى أصبحت المؤسسة الإعلامية إحدى مقومات البناء الاجتماعي للمجتمعات الحديثة التي تسهم ليس فقط في إعلام الأفراد بكل ما يدور في مجتمعهم المحلي من أخبار وأحداث وإنما بات لها دورها في نقل مجريات العالم إليهم حيث كانوا.(4).
بل إن دور المؤسسة الإعلامية في الواقع هو نشر الحقيقة دون تزييف ومن أبرز هذه الحقائق هو نشر ثقافة التعايش والتسامح والحوار مع الآخر في حالة ظهور الأزمات والصراعات داخل المجتمع الواحد من التصدي لكل ما يمكن يؤدي بالمجتمع إلى حالة من التصدع والانحلال. (5) “ومما لا شك فيه أن الجمهور أصبح أكثر وعياً بأهمية الإعلام، لكن يلاحظ وجود صراع بين الأفراد المتلقي بشكل يزيد الصراع لعملية الاستقطاب المطروح ومن ثم تكمن أهمية الإعلام في نبذ الاستقطاب وأن يعمل على نشر السلام الاجتماعي”. (6)
وحتى يكون لوسائل الإعلام دور فعال في نشر ثقافة التعايش السلمي لابد أن يهدف إلى نشر التسامح بين جميع أفراد المجتمع،” ففي هذه الحال نحن بحاجة إلى مؤسسات إعلامية تؤمن بالفرد وبالمجتمع وبمفهوم التسامح وتعمل على تحقيق فكرة التعايش والتسامح في المجتمع والمؤسسات الإعلامية هي التي يمكن أن تنمي ثقافة التسامح والتعايش السلمي وتقويها، فمضمون وسائل الاتصال هي الغذاء الروحي والفكري والعقلي للثقافة المدنية المبنية على التعايش السلمي مع الآخر، وأداء هذه المؤسسات في المجتمع يعد سلوكاً يدعم المجتمع وثقافته”(7).
إن للإعلام دورا فعالا في معالجة المشكلات القائمة لا يختلف عن الدور السياسي للسياسيين أنفسهم إذ أن استمرار الصراعات والنزاعات والخلافات هي ثمار العنف السياسي حيث أثرت سلبا على روح التلاحم بين أفراد المجتمع لذلك لابد من التأكيد على أهمية تعزيز التعايش السلمي، ولا يمكن أن يؤدي الإعلام دوره المنشود في ظل السياسات الإعلامية الشمولية أحادية التوجه وفي ظل تحزب الإعلاميين كل لوجهته، ليظل دور الإعلام مطلوبا من أجل نشر ثقافة السلام والتعايش الاجتماعي السلمي والاعتراف بالآخر وبكامل حقوقه والسعي لبسط العدل اللازم لتعزيز التعايش السلمي والتأكيد على أهمية إسهام دور الإعلام في إشاعة لغة الحوار وثقافة التسامح والحوار من خلال وسائل الإعلام كمنطلق رئيسي للتعايش السلمي والواجب وذلك بتأهيل الدارسين والمهتمين في المجال الإعلامي من خلال الدورات وحلقات النقاش، ويتوجب علينا كأفراد ومؤسسات أن نعمل على الحوار والتعايش بعيداً عن العنف والكراهية.
“كما تعد ثقافة التعايش السلمي من أسمى القضايا التي تهم المجتمعات المعاصرة، لما تحمله من قيم سامية ومثل عليا تتجسد في مبادئ الاحترام والقبول للآخر والتقدير للتنوع الثقافي والتعددية الطبيعية للاتجاهات والرغبات والميول الإنسانية، كما أن ثقافة التعايش السلمي التي تشكل العنوان العريض للرقي الاجتماعي هي الفضيلة العليا الناجمة عن تقدم المجتمعات والدليل الحي على نموها الثقافي فهي الفضيلة المنشودة التي تسهم في إحلال السلام والمحبة والتآخي والعدالة والمساواة وهذه مبادئ إنسانية نادت بها شرائع السماء والأرض, وليس عيبا أن نختلف لأننا يجب أن نختلف حيث أن الاختلاف يعد سنة كونية, ولكن حتى إذا اختلفنا يجب أن نتعايش ونتحاور ونتفاهم.(8)” .
وفي إطار ذلك نرى أن ثقافة التعايش السلمي تحتاج من الجميع جهود عامة سواء أكانت مشتركة أو فردية لتغيير الخطاب الإعلامي من الاتجاه السلبي إلى مساره الصحيح وأيضا تغيير أسلوب التفكير والمعاملات لتحقيق التعايش السلمي داخل المجتمعات وهذا يعني حل النزاعات عن طريق التفاوض وإعادة بناء الثقة بين المجتمعات حيث أن كل المجتمعات تحلم بالعيش في سلام وأمان ولكن هذا يتطلب عمل جاد ومستمر وثقافة التعايش السلمي مبينة على توعية الناس بأهمية احترام التعددية والتنوع والاختلاف في الرأي وتأسيس ثقافة التعايش السلمي من قبل وسائل الإعلام قائمة على ضرورة فهم وشرح أن الأولوية في العمل الإعلامي تنصب على المصلحة المشتركة والمصلحة العامة وليست على وجهة نظر واحدة وهذا يعني رفض الكراهية وجميع العوامل التي تعرقل تطور المجتمع الإنساني.
كما وتتنوع المصادر التي تهدد التعايش السلمي منها: عدم احترام كرامة الإنسان وغياب العدل وانتشار الجهل والتعصب والتطرف بكافة أشكاله وثقافة التعايش السلمي هي الرد على هذه التهديدات وأسباب النزاعات وهنا يبرز دور وسائل الإعلام في تعزيز ثقافة التعايش السلمي من خلال المفاهيم والمصطلحات المستخدمة في الخطاب الإعلامي بحيث أن لا تكتفي ببث الأخبار وقراءة سريعة للنزاعات والأزمات والحروب فيجب أن تساهم في توضيح المسميات وحل كل هذه المشاكل من خلال توعية وتنبيه المسؤولين والرأي العام لتحقيق التعايش السلمي.
ونظراً لتعاظم الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام في التأثير على النفس البشرية ومقدرتها على بث ثقافة التعايش السلمي فالمجتمع اليوم بأمس الحاجة إلى التسامح الفعال والتعايش السلمي بين أفراده أكثر من أي وقت مضى، نظراً لأن التقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يوما بعد يوم بفضل ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين المجتمعات، ونظراً لتطور وسائل الإعلام في المجتمع لذلك تقع على عاتقه مسؤولية كبيرة في نشر ثقافة التعايش السلمي، بل إن قوة المؤسسة الإعلامية تكمن بمدى تأثيرها في نفوس المتلقين وهذا ما يؤكد على الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في نشر وتعزيز ثقافة التعايش السلمي في المجتمع. وفي عصرنا الحالي أصبح التعايش السلمي ضرورة ملحة في ظل الانتشار الكبير لشبكات التواصل الاجتماعي ودعوة المؤسسات الإعلامية المختلفة في ممارسة دورها الايجابي والمؤثر في إشاعة وترسيخ مفاهيم التسامح والتعايش السلمي وقبول الآخر واحترام تعدد الثقافات علما بأن جمهور هذه المؤسسات ما زال متابعاً جيداً للوسائل الإعلامية ويعتمد عليها في تحصيله الثقافي والمعرفي والسلوكي.
____________
المراجع:
(1) – أميرة أحمد كوكش، دور شبكات التواصل الاجتماعي في نشر ثقافة التسامح من وجهة نظر طلبة الجامعات الأردنية، مرجع سبق ذكره، ص1.
(2) المرجع السابق نفسه، ص -3-2.
(3) ربى سلمان أبو حماد، دور الصحافة الالكترونية في تعزيز قيم التسامح لدى طلبة جامعة مؤتة من وجهة نظرهم، مجلة البحث العلمي في التربية، العدد التاسع عشر، 2018، ص (303).
(4) أسامة عبد العليم الشيخ، أسماء الهادي إبراهيم، الخطاب الإعلامي وأثره في نشر ثقافة السلام، أبحاث ووقائع المؤتمر السابع والعشرين، وزارة الأوقاف المصرية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 2017، ص (23).
(5) أحمد جاسم مطرود، دور المؤسسة الإعلامية في نشر ثقافة التسامح “دراسة تحليلية“، مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانية، المجلد 23، العدد 4، 2015، ص (2140).
(6) سامية أبو النصر، الإعلام والسلام المجتمعي، جريدة الأهرام، 3 ابريل، 2015.
(7) أحمد جاسم مطرود، دور المؤسسة الإعلامية في نشر ثقافة التسامح “دراسة تحليلية“، مرجع سبق ذكره، ص (2141).
(8) أميرة أحمد كوكش، دور شبكات التواصل الاجتماعي في نشر ثقافة التسامح من وجهة نظر طلبة الجامعات الأردنية، رسالة ماجستير جامعة الشرق الأوسط، كلية الإعلام، قسم الإعلام، الأردن،2017، ص (1).
__________
* الدكتورة ميادة القاسم: أستاذ مساعد في مناهج وطرائق البحث الاجتماعي جامعة ماردين – تركيا حلب سابقا – سوريا.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.