التنويريسلايدرمكتبة التنويري

مأسسة التعليم في تونس في القرن التاسع عشر

صدر عن “سلسلة أطروحات الدكتوراه” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب مأسسة التعليم في تونس في القرن التاسع عشر، وتهتم فيه مؤلِّفته حياة الماجري بدراسة هذه المأسسة في بعديها التاريخي والأنثروبولوجي، مبرزةً خصوصية هذه التجربة مقارنةً بغيرها من التجارب. وتخوض غمار جولة استقصائية لرصد مختلف التمثلات الأكاديمية وغير الأكاديمية التي نسجت حول مأسسة التعليم في البلاد التونسية واستعمالاتها؛ إذ نحتت هذه التمثلات صور ثابتة ومسلّمة بعيدة كل البعد عن الواقع التاريخي. وركزت المؤلِّفة في كتابها على رصد التغيرات الذهنية والثقافية مُلحّة على ضرورة إعادة النظر في تاريخ التعليم الذي يشكو عديد النقائص التي تستحيل معالجتها معالجةً سليمة ما لم نُسلط عليه قراءة متفحصة.

ما قبل مكتب الحرب

يتألف الكتاب (356 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من تسعة فصول موزعة في ثلاثة أقسام.

في القسم الأول، “التعليم قبل بعث مكتب الحرب”، ثلاثة فصول. وفي أوّل فصل منها، “تنظيم تعليم العلم الشريف”، ترى المؤلِّفة أنّ تعليم “العلم الشريف” خضع لضوابط ومعايير عامة للمجتمع؛ كالتقاليد، والأعراف، والمعتقدات. وبناءً على ذلك، فـ “إننا إزاء منظومة مترابطة تقوم على فكر مؤسس بالمعرفة ومؤسس للمعرفة، على وعي بغاياته الدينية منها والدنيوية”. وتقول إنه بقطع النظر عن مدى نقائصه، فهو خاضع لتنظيم كان يدعم القدرة على تملك المجال والتأسيس للعيش المشترك في تجمع معيّن وفق تخطيط وتدبير وتوزيع للمهمات. وتؤكد المؤلِّفة أنه لا يسعنا الحديث عن مرحلة تعليم “العلم الشريف” من دون درس التعليم بـ “الصراية”، ولدى العائلات الثرية والعالمة.

أمّا في الفصل الثاني، “التعليم في الصراية”، فتؤكد المؤلِّفة أن تعليم الصراية يشمل أبناء العائلة الحاكمة ومماليكها الذين ينقسم تعليمهم إلى مرحلتين: مرحلة أولى تشمل “حفظ القرآن”، ومرحلة ثانية تشمل تعليم “العلم الشريف”. ولئن كانت المرحلة الأولى من التعليم أساسية في حياة الطفل في الصراية، فإن المرحلة الثانية ظلت مسألة اختيارية. لذلك، اختلفت المكتسبات المعرفية من بَايٍ إلى آخر، لكنها لم تخرج عمومًا عن دائرة العلوم الشرعية (القرآن، والحديث … إلخ)، والأدب (النحو، والبيان، والتاريخ … إلخ)، وهي العلوم التي تستجيب لحاجات المجتمع في تلك الفترة التاريخية.

وتقول المؤلِّفة في الفصل الثالث، “تمويل التعليم قبل بعث مكتب الحرب”، إن الموارد المالية المموِّلة للتعليم اتسمت بالتنوع والتذبذب، وذلك لأنها “تختلف باختلاف أهمية الأوقاف المخصصة لكل مكان تدريس؛ فهناك أماكن تحظى بأوقاف مهمة توفّر لها دخولًا تغطّي كامل مستحقاتها وتوفر فائضًا، على عكس أماكن أخرى لها أوقاف قليلة لا تغطّي مصاريفها، وبالتالي تشكو عجزًا ماليًا. كما أننا نجد صنفًا ثالثًا ليس له أوقاف يستمد دخله من الراتب الشهري الذي يدفعه آباء الصبيان، ويستعين بما يحصل عليه من أموال الصدقات التي تكون غير منتظمة ومتغيرة في مقدارها”.

التعليم شأن الدولة

يشتمل القسم الثاني، “عندما يصبح تنظيم التعليم شأن الدولة”، على ثلاثة فصول. وفي الفصل الرابع، “مكتب الحرب في باردو المشهور/ المجهول”، تبين المؤلِّفة الاختلافات في تحديد تاريخ تأسيس مكتب الحرب وتاريخ غلقه، وأسباب الغلق، مطّلِعة على كتابات كثيرة ومختلفة في زمانها؛ منها ما كُتب في فترة ما قبل فَرْض الحماية الفرنسية، ومنها ما كُتب خلال فترة الحماية، ومنها ما كُتب بعد الاستقلال، فضلًا عن اختلاف تلك الكتابات في انتمائها؛ إذ تقول: “ركزنا عملنا على مكافحة هذه الدراسات في ما بينها وهي إذ لمّعت صورة هذه المؤسسة وصنعت شهرتها من خلال تلك الصورة النمطية المفخمة، التي تكررت واحتفظت بها الذاكرة كرمز الحداثة في البلاد التونسية بامتياز […] ارتأينا أن من الأكثر مواءمة أن نكشف كل مرة عن مدى تقارب هذه الصورة مع الواقع التاريخي لهذه المؤسسة، ونُبرز كل مرة تمثلات ورهانات هذه الخطابات المختلفة التي مجدت هذا المكتب وهوّلت عظمته، وهو ما تطلب منّا أيضًا كشف محدودية هذا المكتب ومساءلة نقائصه وتقديم قراءة نقدية تنبش واقعه وتعري حقيقة الأسباب الكامنة وراء فشله […]، وبالتالي يكون المطلوب إعادة قراءة الكتابات الأكاديمية وغير الأكاديمية بشأن الوقائع التاريخية لمكتب الحرب، وما أفرزته من إنتاج فكري، مع إبراز تمثلات هذه الكتابات واستعمالاتها بصورة خاصة”.

من ناحية أخرى، بيّنت المؤلِّفة في الفصل الخامس، “ذوبان مكتب الحرب في المكتب الصادقي وتداعياته”، أنّ أسباب غلق مكتب الحرب ترجع إلى تردّي الأوضاع الاقتصادية، وهو ما نجم عنه عجزٌ عن تسديد أجور المعلمين بسبب تراكم الديون واستفحال الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى انتصاب الكومسيون المالي، وهذا ما تؤكده شكاوى المعلمين بسبب تأخر أجورهم مدة تجاوزت ستة أشهر أحيانًا؛ إذ تقول: “لكن مسألة بعث ’مكتب جديد‘ تشكل إجراء يبعث على التساؤل عن أبعاده العميقة، حيث قرر محمد الصادق باي بعث المكتب الصادقي في عام 1874، أي بعد أربعة أعوام تقريبًا من تاريخ غلق مكتب الحرب الذي سبق أن حرص على تدعيمه بمجرد اعتلائه العرش في عام 1859، وهو ما يثير التساؤل عن الأسباب التي أدت إلى هذا التحول: لماذا لم توجّه العناية مجددًا إلى مكتب الحرب؟ وما الذي يفسر الحرص على بعث مكتب جديد؟ وما هي رمزية هذا الإجراء؟ غلق مكتب الحرب وبعث المكتب الصادقي: كيف يمكن أن نقرأ هذا التحول؟ هل كان المكتب الصادقي امتدادًا لمكتب الحرب أم قطعًا معه؟”. وتجيب المؤلِّفة عن هذه الأسئلة كلّها في سياق الفصل الخامس. وإثر ذلك، تتناول المؤلِّفة في الفصل السادس، “إجراءات بداية الفترة الاستعمارية”، تسارُعَ نسق التغييرات التي شهدها التعليم في البلاد التونسية في إثر الاستعمار الفرنسي، وذلك على مستوى سَنّ قوانين تنظم التعليم، وظهور مؤسسات تعليمية جديدة.

المشهد التعليمي في القرن التاسع عشر

في القسم الثالث، “تمثلاث المشهد التعليمي خلال القرن التاسع عشر”، ثلاثة فصول أيضًا. وفي الفصل السابع، “التعليم وقضية التصنيفات”، تتحدث المؤلِّفة عن ظهور مسألة التصنيفات في الكتابات الأكاديمية وغير الأكاديمية خلال القرن العشرين، أي بعد أن تبلورت تفصيلات التغييرات التي مسّت المشهد التعليمي؛ فنجم عنها ظهور تسميات جديدة للمؤسسات التعليمية، وبدأت مسألة استنباط التصنيفات. كما تتحدث عن وجود رهانات فئوية بين من يعمل على تثمين العصرنة ومن يعمل على تثمين المظاهر التقليدية، أو ما تُسمى في حالات أخرى “تراثية”. وبحسب رأيها، واضح أنّ هناك نقاشًا ضمنيًّا بين أطياف المجتمع في البلاد التونسية، وذلك كلّه يُعبّر عن توترات داخل المجتمع التونسي، وتتساءل المؤلِّفة: كيف ستساهم الكتابات الأوروبية الأكاديمية في هذا النقاش؟

تقول المؤلِّفة في الفصل الثامن، “النظرة الإثنوأوروبية للإحداثات التعليمية”، إنّ هناك كثيرًا من الكتابات الأجنبية التي اهتمّت بالإحداثات التعليمية التي عرفتها مدينة تونس خلال القرن التاسع عشر، وفي صدارتها مكتب الحرب في باردو. وقد ثمّنت الكتابات الفرنسية مبادرة أحمد باي ومجّدته ووصفته بكونه “محبًّا للتقدم والتعليم والحضارة”. واعتمدت الدراسات المعاصرة هذا الرأي، وأجمعت على أنّ هذه المؤسسة التعليمية منعرج تاريخي حاسم وأنّه بمنزلة حجر الأساس في مسار وضع أسس التعليم العصري في البلاد التونسية. وبعد نظرة فاحصة في كتابات فترة الاستقلال، تقول إن النظرة الإثنوأوروبية كانت أقل حدة من كتابات فترات ما قبل الاستعمار وعند الاستعمار، وإنه كان لهذه الكتابات تأثير بالغ في الكتابات الأكاديمية التونسية بعد الاستقلال، وذلك من خلال اعتمادها نظرية الاستيراد.

تجد المؤلِّفة في الفصل التاسع (الأخير)، “تمثلات الكتابات المحلية”، أنّ الكتابات الأكاديمية أضْفَت على تمثلات النخب السياسية صبغة موضوعية وعلمية، وواصلت اجترار الخطاب الإثنوأوروبي حتى إنها في نقدها للاستعمار لم تخرج عن ذلك الخطاب القائم على فكرة الاستيراد. ثمّ إنها استمرت في اعتماد خطاب المصلحين خلال القرن التاسع عشر، من خلال اعتماد فكر أحمد بن أبي الضياف، على سبيل المثال، والتقوقع في دائرة تفكيره الإصلاحي. كما أجمعت الكتابات الأكاديمية التي درست المدرسة الصادقية ونخبها على تثمين إصلاحات خير الدين التونسي، وأعادت إنتاج تمثلات هذه النخب، ودعّمت أفكارها السياسية، على نحو غير مباشر، فخدمت بذلك الخطاب النخبوي السائد في ذلك التاريخ.

حياة الماجري

حاصلة على شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة تونس (كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية). وهي باحثة بمخبر دراسات مغاربية (جامعة تونس). درَّست بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، وبمعهد الدوحة للدراسات العليا. من منشوراتها كتاب بعنوان: من “تعليم الصّبيان” إلى التّعليم الابتدائي في مدينة تونس في العهد العثماني (نشر مخبر دراسات مغاربية ودار نقوش عربية، تونس 2014)، وتحقيق ودراسة لمخطوط أحمد برناز بعنوان: إعلام الأعيان بتخفيفات الشّرع عن العبيد والصّبيان (قيد النشر).
_______
*المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة