فيلم ” Greyhound ” قصة خمسين من الساعات دارت أحداثها في فبراير عام 1942، وفي قلب المحيط الأطلسيّ. حيث وقعت العديد من المعارك بين السفن التجاريَّة والحربيَّة الأمريكيَّة والبريطانيَّة والغواصات المتقدمة التي كانت تمتلكها ألمانيا في ثنايا الحرب العالميَّة الثانية. وهو فيلم من ضمن عشرات الأفلام التي تمجِّد الولايات المتحدة الأمريكيَّة وتلمع صورتها في عين المشاهدين. والأعجب أنَّه فيلم من عشرات الأفلام التي تتغنى بجيش مُنِيَ بهزائم مُنكَرَة في معارك عديدة، ولمْ يُرِنا سطوته إلا على الفقراء المساكين. وما زلت الأجراس تقرع .. لكنْ لمَنْ؟! هذا هو السؤال.
الفيلم الذي أخرجه “آرون شنايدر”، وألَّفه ومثَّله “توم هانكس” عن رواية تحمل اسم “الراعي الصالح” تأليف “فورستر” يتحدث عن معركة من معارك الأطلسيّ يخوضها قائد الطرَّادة الحربيَّة “جرايهاوند” (التي تعني الكلب السَّلوقي، وهو نوع ممتاز من كلاب الصيد) ويُدعى “إرنست كراوز” (توم هانكس). تقود هذه الطرَّادة ثلاثًا من الطرادات الأخرى. ومهمتها جميعا حماية سبع وثلاثين سفينة تجاريَّة خرجت من أمريكا إلى بريطانيا. هذا القطيع من السفن تحرسه طائرات حربيَّة تمثل الغطاء الجويّ الذي يحميها من خطر الغواصات الألمانيَّة (يو بوت) ذات التفوق البارز على الدفاع الأمريكيّ؛ بإنزال قنابلها عليها مباشرةً.
هذا الغطاء الجويّ له نطاق لا يتعداه وسيقوم الغطاء الجويّ البريطانيّ بتولِّي أعماله من الجهة الأخرى لكنْ يفصل بينهما خمسون من الساعات على السفن أنْ تقضيها وحدها في مواجهة مُباشرة مع الغواصات الألمانيَّة مع تمني السلامة. هذه المسافة الفاصلة بين الغطاءَيْنِ الجويَّيْنِ تُسمَّى “البُؤرة السوداء” وهي بمثابة المقبرة بالنسبة للسفن الأمريكيَّة. هذه هي المحاور التي أحاطت بتعرُّفنا على القائد “كراوز” فهل سينجح في إدارة المعركة والوصول إلى الغطاء الجويّ البريطانيّ بأمان أمْ ستدركه الذئاب الألمانيَّة لتقضي على السُّفن كلِّها؟
هذا الفيلم قد يدعو إلى بعض الحيرة في تقييمه فهو مُغاير لمعتاد الأفلام الحربيَّة من جهات؛ منها أنَّه قصير جدًّا لا يتعدَّى ساعة وإحدى عشرين دقيقة فقط، ومنها أنَّه لمْ يقدِّم دراما، ومنها الإغراق في التوجيهات العسكريَّة والمعلومات الحربيَّة إلى درجة قد تقدح في دراميَّته، ومنها عدم إرضاء المشاهد لعدم الوصول إلى حدّ الكفاية أو الإشباع في تجربة المُشاهدة عمومًا. هذه ملامح من نقد -أو بالأحرى نقض- قد تُوجَّه إلى هذا الفيلم. فهل هذه النقود في محلها؟
كلُّ هذه النقود آراء وجيهة معتبرة ولها مُبرراتها. لكنْ في نظرة أخرى -ودون أيّ دفاع عن العمل- نجد أنَّ هناك عنصرًا بالغ الأهميَّة في قراءة أيّ عمل فنيّ؛ وهو اعتبار وجهة العمل نفسه، ومساحة اختياره. ويتمّ هذا عن طريق إحلال الرائي أو الناقد محلّ صاحب العمل، في محاولة مُثابرة للوصول إلى وجهة نظره فيما فعل، لا مجرد إدانته وحسب. وإذا اعتبرنا أو حاولنا أن نقترب فسنجد أنَّ كلَّ ما فعله الفيلم هو اختيار وجيه، رغم عدم اعتياده في تصنيف أفلام الحرب -خاصةً بالغة النجاح، وخاصة التي اشترك “هانكس” فيها من قبل-.
فقد اختار “هانكس” -بصفته مؤلفًا- مع المخرج أن يكون الفيلم قصيرًا، وألَّا يعطي فرصة أكبر للدراما الاعتياديَّة. وذلك لأسباب وجيهة -فيما أرى-؛ فهذا الفيلم يعتمد في تأسيسه وفي عوامل نجاحه على دراما الحالة لا دراما الأحداث، وواضح منذ أوَّل صوت موسيقى سنسمعه منه إلى آخر طلقة تطلق أنَّ الفيلم قد كرَّس كلَّ أدواته على إشباع المشاهد بجرعات قويَّة من حالة التوتر والقلق، ومَحوَرةِ دراما العمل حول هذه الحالة حتى تنقلب الدراما من الخط الاعتياديّ إلى كونها دراما حالة بامتياز. وفي هذه النقطة يجب أن نبحث استغلال الفيلم لأدواته لإحداث وتعزيز هذه الحالة طوال أحداثه.
وقد كان أهمُّها مكان الأحداث “المحيط” وهذه ميزة ابتدائيَّة في صالح تكريس حالة التوتر والقلق؛ ففي البرّ من الممكن أن تقع النجاة لكنْ في أعماق المحيط مَن وما الذي سينجيك؟ وقد ساعد المخرج بلقطات عديدة فوقيَّة أن يُظهر المشهد وكأنَّ السفن نمل على جسد فيل ضخم، ليُدخل هذا الشعور ابتداءً في نفوس المشاهدين ويكمل تعزيزه كلَّ حين، وكذلك مشاهد اقتراب السفن بعضها من بعض، ومشهد تكاد فيه السفينة أن تنقلب من انحرافها المُفاجئ.
وقد كان للموسيقى الدور الأبرز في التكريس لهذه الحالة فلا يخلو الشريط السينمائيّ للفيلم من الموسيقى سوى في لقطات مفردة، وهذا جهد بالغ قد أُلقي على عاتق الموسيقى الفيلميَّة. لكنْ نستطيع بكل أريحيَّة أنْ نؤكد نجاح هذا العنصر خاصةً؛ فبمزيج من أصوات الطبول، وأصوات الصفير بتنويعاته ما بين الحدَّة والرَّخامة، وأصوات الأبواق ما بين البعيدة والقريبة، وأصوات ومضات موسيقيَّة مُباغتة صُنع الفيلم في بنيته الأساس الموسيقيَّة.
ثاني ما اعتمد عليه الفيلم في بنيته هو استبدال العلاقات الدراميَّة ومدى تأثيرها على المُشاهد بجدِّيَّة المواقف وحقيقيَّتها؛ فيا له من كمْ ضخم من معلومات وإشارات وكيفيَّات لإدارة ورؤية وتوجيه السفن حربًا في المواجهة المباشرة، وترتيبًا على سبيل الخُطط فيما يُفعل أولاً وفيما يتلوه وما يتلوه، ورؤية ما قبل القصف من رادارات وأشعَّة سوناريَّة وتأثيرها ودورها ومُشتِّتاتها وحالات استخدامها. كلّ المشاهد كانت عملاً دؤوبًا لا يكلّ وكأنَّهم في حرب حقيقيَّة أو كأنَّنا نرى تسجيلاً من إحدى غُرف القيادة العسكريَّة. هذا العنصر -جديَّة العمل وحقيقيَّته- حلَّ محلَّ العلاقات الدراميَّة في التأثير على المُشاهد وصنع استحضار المشهد وحالات القلق والتوتر.
ثالث ما انبنى عليه هذا الفيلم هو المركزيَّة؛ فالفيلم كلّه مُتمركز في غرفة قيادة السفينة “جرايهاوند”، لا يكاد يغادرها إلا نادرًا إلى الخارج أو إلى غرفة السونار أو الراحة. هذه المركزيَّة في موقع الإحداث وتحركات الكاميرا في مكان ضيِّق والتواءاتها مع مراعاة حركة حقيقيَّة للكاميرا لا حركة حُرَّة كرَّس بدوره في دعم دراما الحالة، وإشعار المُشاهد بالضيق وإشراكه في قلب الحدث حقًّا، حتى ينسى الكرسيّ الذي يجلس عليه ويكاد ينادي على المِرسال كما ينادي “هانكس”.
كما أنَّ الفيلم لمْ يَخلُ من دراما الشخوص لكنَّه استخدمها استخدامًا رشيدًا. فنجد علاقة القائد بضابط المُراسلة “تشارل” (ستيفن جراهام)، ومع الطبَّاخ “كليفلاند” (روب مورجان)، ومع غيرهما من الجنود. لكنَّ الفيلم قد قدَّم هذه العلاقات بطريقة “هانكس” مُؤلِّفًا التي تُلخَّص في تعبير “التعامُل الأنيق”. فليس بكثرة الحديث تُبنى العلاقات لكنْ بمدى احترافيَّة اختيار الموقف، ومدى صدق التعبير التمثيليّ عنه. وأكبر مثال علاقة القائد مع الطبَّاخ فلمْ تظهر إلا في ثلاثة مشاهد أو أربعة لكنَّها علاقة عميقة أحدثتْ تأثيرًا عند تلقِّي خبر موته.
هذه هي مركزيَّات البناء في هذه التجربة الفيلميَّة. لكنْ كيف أخلص الفيلم للرؤية الأمريكيَّة في الحرب وفي العموم؟ .. يتبيَّن هذا في رسم الفيلم ملامح المركزيَّتَيْن في الصراع؛ الجانب الأمريكيّ ويمثله القائد، والجانب الألمانيّ. فقد صوَّر “هانكس” والمخرج القائد بصورة غاية في الملائكيَّة. فهو طيب، عطوف لا يستطيع أن يقسو على أفراد طاقمه في مشهد مُشادة بحارَيْ السفينة، مُقدِّر للظروف والأحوال، مُجالِد صُلب، حاسم في الوقت المُناسب، رغم هذا هادئ تمامًا، آمل وحالم في حب امرأة يريد الزواج منها، شاعريّ يرى وجهها أينَما توجَّه، مُتواضع للغاية أمام زُملائه والمُحيطين به، رسميّ ومُحترم لا يُخاطب الناس بأسمائهم بل بألقابهم أو وظائفهم، مهذَّب لا يرضى أنْ يسمع السوء من القول، مُتديِّن أشدّ التديُّن حتى إذا قال له زميله عن العدو: تخلصَّنا من خمسين ألمانيًّا، يردُّ: نعم، خمسون نفسًا في مقاربة واضحة لأقوال دينيَّة.
أمَّا الألمان فلمْ يظهروا أبدًا طوال الفيلم إلا في مشهد أو اثنين من زاوية شديدة البُعد، وبعضهم وقف على غواصة طافية يرمي الرصاص. وكامل الفيلم يظهرون من خلال مشاهد لأجساد الغواصات الألمانيَّة، ومشهدَيْن من خلال صوت قائدهم يخاطب الأمريكيين. وقد رسم الفيلم صورة بشعة أشدّ البشاعة للعدو الألمانيّ فهُم متهوِّرون أشدّ التهوُّر، حمقى، انتقاميُّون، شرهون يسعون للدماء الأمريكيَّة الطاهرة العفيفة، مُريدون للإيذاء بأيّة طريقة كانت، كائدون للأعداء.
وفي الأخير وأهمّ صفة حاول إلصاقها بهم هو أنَّهم “همج” أو همجيُّون في أفعالهم وبرابرة. وهذه الصفة الأخيرة تلخص السابقات، وهي الصفة التي اعتادتْ الثقافة الغربيَّة عمومًا -والأمريكيَّة أيضًا- إلصاقها بالعدوّ، وهذا تاريخ يُروى منذ أنْ ألصق اليونانيُّون هذه التهمة في حروبهم مع الفُرس حتى لحظتنا هذه. وهذه التهمة الخطيرة هي التي تُتخذ مُبرِّرًا للاحتلال والقتل والقمع الذي يمارسه الغرب على الآخر “الهمجيّ”. هكذا أخلص الفيلم تمام الإخلاص للرؤية الأمريكيَّة في كل جهاته ومعانيه ما بين ملائكيَّة تامَّة من جهة، وشيطنة تامَّة من أخرى.
والسياق التاريخيّ للأحداث صحيح؛ فقد كانتْ الغواصات الألمانيَّة مُتقدِّمة للغاية، وقد مثَّلتْ منذ الحرب العالميَّة الأولى خطرًا داهمًا على الولايات المتحدة، بل كانت من الأسباب الرئيسة في كسرها لحالة العُزلة ودخول الحرب الأولى، واستمرّ الحال نفسه في الحرب الثانية. هذا ما ذكره الفيلم؛ أمَّا ما لمْ يذكره -أو ما لمْ يُعنَ بذكره- هو سبب ما يحدث فلمْ تكنْ هذه الحرب صراعًا على شرف الفروسيَّة والنُّبل بين دولتَيْن، ولكنَّها المصالح ثم المصالح. فوجود الغواصات الألمانيَّة في عُمق المحيط الفاصل بين أمريكا وحلفائها في أوربا قد كبَّد أمريكا ملايين وملايين، وأفلس الكثير من التجارات والصفقات العُظمى التي يغتني بها تجَّار الحرب الأمريكيين، وإذا جاء الخطر على المال في دول رأسمال فليُمحقْ كلّ شيء. وللأسف يتمّ التركيز في التاريخ على الجانب السياسيّ في الحروب وننسى جميعًا أنَّ هناك ما شكَّل هذه السياسات أصلا من مصالح اقتصاديَّة وأيدولوجيَّات ورغبات أخرى.
هذا ما لنْ تخبرنا به الأفلام الأمريكيَّة؛ فالفيلم يطالعنا بأصوات -لسياسيين في الغالب- نستشعر منه أنَّ الولايات المتحدة البريئة تضطرها الظروف للحروب، بل يشعرك وكأنَّ أمريكا في محلّ البطل اليونانيّ القديم الذي يحارب الأقدار القاسية. ليعلن الصوت في النهاية هذا المبدأ “تبًّا للمخاطر التي تتربَّص بنا”. لكنَّه لمْ يقلْ أنَّ هذا السياسيّ كان يصفِّق له الرأسماليّ الذي أصرّ على الحرب تصفيقًا حادًّا.
وفي الفيلم إشارة لمعركة “بيرل هاربر” وهي معركة 1941 ضُرب فيها الأسطول الأمريكيّ ضربةً قاسية من اليابان وقد كانت القشَّة التي بسببها أعلنت أمريكا دخول الحرب بجنودها لا ببضائعها وإمداداتها التي كانت ترسلها للحلفاء وحسب.
وفي دور الإخراج تظهر قضيَّة صناعة الصورة السينمائيَّة لهذا الفيلم. ومن الممكن تقسيم الصورة السينمائيَّة إلى قسمَيْن: الأول هو داخل السفينة في الغرف وغرفة القيادة وقد كانت معركة إضاءة بامتياز حيث لعبت الإضاءة دور البطولة في صُنع الصورة السينمائيَّة. أمَّا القسم الآخر هو مشاهد خارج السفينة واعتمدتْ اعتمادًا كُليًّا على المُؤثِّرات البصريَّة؛ حتى إنَّ بعض المشاهد مُؤثِّرات بصريَّة تظهر منها وجوه. وأتصور أنَّ معركة المؤثرات هذه لم تكنْ في أفضل هيئة لها.
إنَّ فيلم “جرايهاوند” فيلم لا يختلف كثيرًا في المضمون عن الأفلام الحربيَّة الأمريكيَّة، لكنَّه في الشكل والهيئة مختلف بعض الشيء. لكنَّ شيئًا من المعنى ندركه من مشاهدة الفيلم -ولعلَّه أمر هامّ لعالمنا العربيّ- هو أنَّ كل هذه المعارك منذ الحرب العالميَّة الثانية حتى الآن معارك تقدُّم علميّ -كل ما ظهر في الفيلم علوم في أشكال آلات ووسائل حربيَّة- مما يُظهرنا على قيمة العلم في السلم وفي الاحتفاظ بالهيبة العموميَّة. إنَّ الجيش الأمريكيّ لا يحارب إنَّما يُهدِّد بهيبته ويعتمد على معرفة الآخرين أنَّه يمتلك آخر ما توصَّل إليه العلم. فهل للآخرين هؤلاء أنْ يعرفوا قيمة العلم ويدركوا أنَّه طريق النجاة في السلم وفي الحرب؟
_________
*عبد المنعم أديب.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.