ظاهرة النبوَّة والسياسة عند بني إسرائيل
- ملامح الديانة اليهوديَّة في التاريخ
الدين اليهودي هو مجموعة من العقائد والشرائع والطقوس، وقواعد السلوك والأخلاق، تبلورت ونضجت على مدى آلاف السنين. وتاريخ النبوة في إسرائيل يواكب التاريخ الإجتماعي لتلك المجموعة البشريَّة، فهذا بداية القرن الرابع قبل الميلاد عند الموثقين في التزام النقول المرويَّة في النصوص المقدسة إلى ما بعد ذلك بقرون ممَّن يرون في الكهنة والأحبار الذين تلوا الأنبياء، استمراراً لظاهرة الوحي والنبوة في هذا المجتمع.
إنَّ طائفة الفريسيين والربيين أو الرباننين يقولون بهذا الاستمرار فيطلقون على “الشنة” وهي مدونة تضم الاجتهادات والفتاوى والشرائع التي وضعها الأحبار بعد انقضاء عصر النبوة بأنها “التوراة الشفويَّة”.
هناك التحام عضوي في اليهوديَّة بين ما هو دين وما هو قومي.
يعتبر العهد القديم المرجع الأول والأساسي للتاريخ الإسرائيلي ولتاريخ الشرق الأوسط القديم: حيث امتزجت الحضارات الفرعونيَّة والأشوريَّة والبابليَّة والكلدانيَّة والفارسيَّة والكنعانيَّة في بوتقة واحدة تنازعت القيادة والتوجيه في هذه المنطقة.
من هنا ضرورة النظر في النص الأساسي الذي يقوم عليه الدين اليهودي: العهد القديم، ويحتوي على ثلاثة أقسام ( التوراة، والأنبياء، وكتب الأمثال أو أسفار الحكمة والحكماء).
والتوراة والأنبياء يحكيان قصة العبرانيين منذ البداية إلى القرن الرابع قبل الميلاد أي ظهور الشخصيَّة الاسرائيليَّة على مسرح التاريخ الإنساني ودورها في التحولات الدينيَّة والروحيَّة التي شهدتها الحضارة الإنسانيَّة.
تتألَّف التوراة من خمسة أسفار أو كتب تنسب إلى موسى وتوصف بأنها أنزلت عليه في طور سيناء.
ويرى ” زيجموند فرويد في كتابه “موسى والتوحيد” أن موسى تأثَّر بدعوة الوحدانيَّة للفرعون أخناتون، ويقول بأن أكثر أتباع موسى الذين انخرطوا في دعوته كانوا من السامين البدو، من عبريين وأدوميين وبابليين وكنعانيين وغيرهم وفيهم من غير الساميين نازحون من جنوب وادي النيل ومن الصحراء الغربيَّة ومن بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط ومن المحتمل أن تكون هذه الأخلاط من الناس مكونة من بعض الحرفيين والجنود المرتزقة والعبيد وأسرى الحروب ونحوهم أي من الطارئين على البلاد من غير المصريين أما المصريون فهم قلة قليلة من شيعة موسى .. ومن بينهم اختار موسى سبعون رجلا لقيادة حركته..(1)
وبغض النظر عن هذا التخمين التاريخي، على طريقة كشف العقد النفسيَّة وفروض الخيال التي تتردَّد على بساط البحث حول الأبعاد التاريخيَّة لشخصيَّة موسى عليه السلام ودعوته، فالأصح أن إدراك كنه الدعوة الموسويَّة وأبعادها التاريخيَّة لا يستقيم إلا في سياق الدعوات النبويَّة التوحيديَّة التي بدأت بالدعوة الإبراهيميَّة، ولم يظهر لها نظير في غير الأمم السامية وختمت بالدعوة المحمديَّة، فلا تفهم واحدة منهامنفصلة عن سائرها وقد ذكرنا في كتاب الرسول في مرآة الفكر الإستشراقي بأن دعوة ابراهيم هي فتح جديد في تاريخ العقيدة بدأت بدعوة النبوة التي ترفع راية التوحيد والتي تجعل الإيمان يعلو على الملوك وعلى النجوم والكواكب”.
ورفعت مكانة الإنسان في ميزان الخليقة، وفتحت نظر الإنسان إلى الكون والحياة، ولم يكن قصاراها أنها فتح ديني يصحح الإيمان والاعتقاد.. ولم يكن التوحيد مجرد عبادة صحيحة بل هو علم ونظر أصوب ومقياس للطبيعة أدق وأوفى”(2).
فسيرة موسى ورسالته تتلخص في أنه أراد أن يخرج قومه من الوضع الذي كانوا فيه وفقا لهداية الوحي، والإلهام فرأى أن عقيدة التوحيد التي دعاهم إليها كفيلة بحمايتهم من الضياع بين العشائر والملل..(3)
وقد ختم عهد النبوة والرسالة في بني إسرائيل بظهور عيسى عليه السلام واختزل القوم مفهوم النبوة التوحيديَّة الهاديَّة إلى غايَّة واحدة وهي أن النبي دليل آمان والمخلص الموعود فكان حكيما وساحرا وعرافا.
وأغلب الظن أن دعوة النبوة التوحيديَّة تعرضت لكثير من الخلل والإنحراف وتحولت من عقيدة توحيديَّة إلى نعرة عنصريَّة.
فما هي إذن أوجه التغيير والتحول التي أدَّت إلى نشأة وتفشّي ظاهرة الأنبياء في المجتمع الإسرائيلي.
- بزوغ ظاهرة النبوة في بني إسرائيل
إن ظاهرة النبوة ظاهرة فريدة في العالم الإنساني، لم تظهر بين الأمم في غير السلالة السامية، ولا بد لها من سبب تكشف عنه دراسة النبوات في هذه الأمم، وسببها من جانب تاريخي، فيما ظهر من مباحث المقارنة بين الديانات، أن النبوات الكبيرة والزعامات الروحيَّة التي أثرت في مسار الحضارات الإنسانيَّة كانت ترتبط بالمدن والحواضر التي تجتمع فيها الثروة والعصبيَّة وتتوسَّط بين عالم الحضارة وعالم البداوة.
وحيث يسود الترف والمتعة والفاقة والحسرة وتسخير الاقوياء للضعفاء والشك في إصلاح الأمور، فتذكر العقيدة وطمأنينة الضمير، وقد تيقَّظت لوجودها وشعرت بمكانتها وبالخطر المحدق والحالة التي تنذر بالزوال.
والتطلع إلى حالة للتبديل والتغيير..(4)
لهذا تترقب هذه الحواضر مصدراً للهداية النبويَّة تهيآت لها حماسة النفوس والشعور بقيمة العهد والأمانة في العلاقة الإنسانيَّة.
فهداية الأنبياء تتمثل في دعوة الأنبياء.. وفي العهد القديم قسم يتعلق بظاهرة أنبياء بنى اسرائيل وما وقع من أحداث للعبرانيين، بعد موسى منذ دخولهم إلى أرض فلسطين إلى أن أخرجوا منها في السبي البابلي، والواضح للدراس أن هذا القسم يمتد على حقبة زمنيَّة تقدر بألف سنة ( من 1300 إلى 300 ق م) ويرى “لوسيان جوتيه” في مقدمته للعهد القديم أن هذا القسم الذي يضم الأنبياء الأول والأنبياء المتأخرين، وأن الشطر الأول من هذا القسم جنح نحو التأريخ السياسي والعسكري والإداري البحت، ولا تبدو فيه النبوة إلا من خلال الأحداث، بينما تمحور الشطر الثاني حول النبوات وجاءت في المقام الثاني..(5)
بدأت فكرة النبوة في نبي اسرائيل تتبلور بشكل واضح ، كما تحدَّدت صفات النبي في مفهومهم وهي صفات زعامة سياسيَّة ودينيَّة،وإن كانت لا تسعى إلى الحكم، ولكن إلى التأثير فيه وتوجيهه، يفتتح النبي صمويل هذا الدور السياسي والاجتماعي للأنبياء في بني اسرائيل، كان عبقريَّة من تلك العبقريات القديمة، التي تظهر في أوساط البدو، فتشق طريقها، وهو طريق جديد..
إن الكهانة التي تمثل السلطة الدينيَّة عند العبريين كانت محصورة في سبط اللاوين، ولم يكن صمويل من هذا السبط وبناء على ذلك وجد طريق الزعامة الدينيَّة التقليديَّة موصودا في وجهه فلجأ لتحقيق طموحه إلى الإنتفاع بأفكار تدور حول مفهوم النبي فطوره وخط لنفسه في النبوة مسلكا مبتكرا.. أصبح تقليدا من بعده عند بني إسرائيل..(6)
يروي سفر “صمويل” الانتقال من صفة القاضي ( الحاكم) إلى صفة النبي والجهود التي بذلت في تأسيس ملك بني إسرائيل والعلاقة العضويَّة بين الملك والنبوة.. وبعد مرحلة السبي البابلي في عهد الإمبراطور الكلداني “بختنصر”.
سوف تبدأ مرحلة الأنبياء المتأخرين وأبرزهم حسب ترتيب الأسفار في العهد القديم، يأتي على النحو التالي: ( إشعيا، إرميا، حزقبال.)
ثم الأنبياء الأثنى عشر الصغار.. وهم ( هوشع، يوئيل، عاموس، عويدا، يونس ، ميخا، ناحوم، حبقوق، صفنيا، جحاي، زكرياء، ملاخي..(7)).
وهكذا انتهى مفهوم النبوات عند العبرانيين. بأن النبي يسمى نبيا باعتباره خطيبا أومفسرا…
ونستنتج من هذا أن النبوات لم تعد تتلقى الوحي من الله لكنها تستلهمه بالاستعانة بالخيال الخصب، والتطلع للخلاص..(8)
ولا شك أن كثيرا من تعاليمهم قد تعدَّت حدود الذهن، لأننابالكلمات والصور نستطيع أن نكون أفكارا تزيد عن تلك التي نكونها بالمبادئ والمفاهيم الذهنيَّة، التي تقوم عليها معرفتنا الطبيعيَّة، وبناء على ذلك، يتبين لنا السبب الذي جعل الأنبياء ، يدركون تعاليمهم ويعرضونها دائما بلغة الأمثال أو الألغاز، وجعلهم يعبرون عن الحقائق الروحيَّة بطريقة جسميَّة، فهذه الأساليب هي التي تتفق تماما مع طبيعة الخيال.. ولما كان الخيال مبهما ومتقلبا فإن الأنبياء يستعملون التعبير عن الأحكام الروحيَّة بلغة غامضة..
على أي أساس إذن قام الأنبياء يقينهم في الموضوعات التي يدركونها بالخيال دون ضمان من مبادئ الفكر المؤكدة..” فكلما زادت القدرة على الخيال الحي، قل الاستعداد لمعرفة الأشياء بالذهن الخالص.. (9)
ولكن الخيال وحده لا يتضمن بطبيعته اليقين، فلابد للحصول على اليقين من آيَّة تثبيت الإيمان..
وهذا يدل على أن الأنبياء، كان لهم دائما آيات تجعل لهم يقينا بالأشياء التي يتخيلونها ومع ذلك فإن يقين النبي لم يكن يقينا رياضيا، بل كان يقينا خلقيا فحسب بمعنى أنه يقين الأشياء التي تدركها الروح دون أن تكون هناك فكرة واضحة ومتميزة ودون معرفة بها، إنها معرفة من الدرجة الأولى نستعملها لتوجيه سلوكنا..
ومن نافل القول أن من لديه معرفة صحيحة لا يحتاج لتبرير نفسه ومن تنقصه هذه المعرفة الصحيحة لا يقدر على تبرير نفسه.. فصفاء القلب والتقوى ضمان كاف لصدق الأنبياء (10).
إن جمهرة الأنبياء الذين نعنيهم هم أنبياء العهد القديم الذين سبقت الإشارة إليهم، وقد قاموا بدور الوعاظ وكثر عددهم بعد إنقسام مملكة سليمان كرد فعل على تضخم سلطان الهيكل.. وفساد الكهنة.. فكان خطابهم الوعظي يتمحور حول أصل من أصول الديانة وهو الأمل في الصلاح وفي طلب الكمال والخلاص من العيوب… ويشتد هذا الأمل حين تشتد الحاجة إليه..
وكانوا يترقبون ظهور رسول يسمى ” المسيح” ، ولم يعرف بهذه الصيغة قبل كتب التوراة، وتفسيراتها ، في التلمود والهجادا، وما إليها.. ومرجع التسميَّة في أسفار الأنبياء، أن المسح بالزيت المبارك شعيرة من شعائر التقديس والتكريم.. وكان مسح الملوك من أول شعائر التتويج والمبايعة فكان شاؤول وداوود من هؤلاء المسحاء.. ثم أطقلت كلمة مسيح مجازا على كل مختار ومنذور، وتكرر في كتب التعاليم الإشارة إلى الرسول المنتظر باسم المسيح… (11) .
واشتد الإيمان بانتظار المسيح بعد زوال مملكة داود وهدم الهيكل الأول..
فكثرت الوعود على لسان الأنبياء بعودة الملك.. ثم ترقى الوعد بالإيمان بالمسيح الملك، إلى الإيمان بالمسيح المختار والمنذور للهداية والصلاح.
وقد صاحب هذا الرجاء الإسرائيلي في أطوار تاريخهم المتعاقب، فيقوي الرجاء في المسيح الملك كلما ضعفت الدول المسيطرة على فلسطين ويعود الرجاء في المسيح الهادي كلما استحكم سلطان الغالبين وبدى الخروج عليهم بعيدا وعسيرا.
وهكذا تتراوح تفسير الرسالة المنتظرة بين رجعه الدولة وبعثه الهداية على حسب أطوار التاريخ. .(12)
- نفود الأنبياء في مواجهة سلطان الهيكل
لقد عظم سلطان الهيكل وكهانته حين تحول السلطان القومي كله إليهم، وأصبح هذا السلطان ملاذ المتطلعين إلى كل رئاسة قوميَّة تصمد إلى الدولة الأجنبيَّة.. ومن ناحية أخرى جنحت الضمائر المتعطشة إلى الروحيَّة جنوحا متمردا على القديم مؤمنا بانتظار البعث من غير جانب ” الهيكل” وما جمد عليه مع الزمن من الموروث والمأثورات.. (13).
لقد تكاثر عدد الأنبياء وتنوَّعت أعمال الرئاسة والتعليم، من بين القبائل والاسباط.
فقد كان عمل النبي في بني إسرائيل كعمل الواعظ والفقيه الذي يفسر النصوص، ولم يكن قيامهم إنكارا للأنبياء من قبلهم، بل هو تفسير للكتب والنذر، وحض على اتباع السنن التي رسمها الأنبياء السابقون..
ينتمي الأنبياء إلى أصول وطبقات اجتماعيَّة متباينة، ويشتركون في مناهضة الخطة الدينيَّة الرسميَّة لكهنة المعبد..، ممَّا دفع الكهان إلى التبرم منهم ونعتهم بأنهم كذابون بخاطبون الناس بغير كلام الوحي.
وكثيرا ما كان بعض الأنبياء ينعي على زملائه ويخالفهم في النذر والتفسير نصوص الشريعة. يقول ” أرمنيا” من عند أنبياء أور شليم خرج النفاق إلى الأرض كلها، فلا تسمعوا كلام الأنبياء الذين يتنبأون لكم، فإنهم يبطلون عملهم ويتكلمون برؤيا قلوبهم، وكان المعهود في أنبياء بني إسرائيل كما روت كتب التوراة أن يطلبوا حالة هذا الكشف كما يطلبها المتصوفة والنساك.. ومنهم من يستعين بالسماع ليشعر بصفاء الروح، ويستلهم الغيب..
وكان الغالب على سامعي النبوءات أن يطلبوا آية يعلمون بها أن المتكلِّم ينطق بوحي من الله.. ولكن طلب الآية لم يكن عندهم دليلا على اليقين والإيمان..
يلجأ الناس إلى الأنبياء، يستشيرونهم فيما يقدمون عليه من أعمال، لعلمهم أنهم أقرب إلى الله وأدنى أن يطلعوا على الغيب المحجوب عن أنظار الدنيويين المنغمسون في هموم الحياة..
وغالبا ما يقصرون رسالتهم على النذر بالعقاب كلما خرج الشعب عن سنة الأقدمين وأنحرف عن سوء العبادة، كما تلقاها آباؤهم من الأنبياء السابقين..(14).
إنَّ ظاهرة النبوة والأنبياء عند بني إسرائيل ظاهرة فريدة في دعوات النبوات، فأحوال النبوة في بني إسرائيل تخالف من جملة وجوه ما هو معلوم من تواريخ الأنبياء الذين اقدموا على مصاعب جمة، وفتحوا بدعواتهم فتحا جديدا، فحطموا آلهة وسفهوا أحلاما وغيروا عقائد، ووضعوا شرائع لتدبير شأن الحكمين والمحكومين.. ولعل ما ميز أنبياء بني إسرائيل أو أغلبهم سواء الذين أتوا بعد موسى أو بعد سقوط ملك داوود وسليمان.. هو التطلع إلى الخلاص باستعادة ملك داود. فظهرت جماعة من الوعَّاظ، الدعاة، والخطباء الملهمين المتنبئين..مزجوا في خطابهم ودعواتهم بين العصبيَّة القوميَّة والهداية الدينيَّة.
وربطوا بين الخلاص القومي والخلاص الروحي وبين التاريخ الظاهر والتاريخ الباطن، وبين تفسير النصوص الموروثة، و النذر التي تقرأ طوايا الغيب وتتنبأ بما سيكون..
خرجوا على سلطان الهيكل وكهنته الذين جمدوا على النصوص والحروف والرسوم، انصرفوا عن جوهر العقيدة ولباب الإيمان، ولا شك بأن ظاهرة الأنبياء من دلائل الحاجة إلى الإصلاح من سلطان الهيكل المحاط بالشبهات، فالحاجة إلى الإصلاح إنما تثبت إذا استنفدت النحلة السائدة كل طاقاتها.. وبدت قاصرة عن تزويد الروح بما تطمئن له وتفتقر إليه.
فكل نحلة قاصرة إذا زاغت عن السواء تجد إصلاحها على يد الراشدين من أنبياء الديانة أو من يقومها من العارفين.. في عصر كان موبوءا بالرياء الذي باطنه جمود وعلى وجهه طلاء..
أما العقيدة الصحيحة فهي فكرة وضمير، لا مسألة حروف وأشكال.
وكان الناس يبحثون على الأنبياء، ولا يعتبرون ظهورهم خارقة يستهولونها أو يستغربون تكرارها؛ لأن النبي كان الشخصيَّة الرئيسيَّة التي تدور حولها روايَّة اسفار العهد القديم.. فهو بمثابة البطل الأسطوري الذي يستجيب للإلهام الإلهي فينذر ويبشر، وأن يكون البرهان المطلوب منه على قدر الرجاء المنتظر.. في الإصلاح والصلاح.. وهو رجاء عظيم يعلقه المرتجون على برهان عظيم.. (15).
لقد ذاع نفود الأنبياء العبريين منذ نهاية القرن التاسع قبل الميلاد فظهر (إلياواليشع) وكان القرن الثامن عصر الأنبياء (“عاموس وهوشع وإىشعياوميخا” ..) وفي القرن السابع قبل الميلاد ظهر النبي إرمنيا..” أما رسائل “صفينا وناحوم” فيرجع تاريخها إلى ما قبل النفي الأول إلى بابل عام 598 قبل الميلاد، ويعتبر حزقيا ، آخر نبي كبير وهو نبي المنفى ..
ولما انتهى النفي إلى بابل سنة 558 ق .م عاد اليهود إلى فلسطين وأعيد بناء معبد القدس واستأنف النشاط النبوي، ومن هنا كتب ( حجاي وزكرياءوأشعيا الثالث وملاخي، ودنيال..) والفترة التي تلي النفي هي فترة كتب الحكمة (الأمثال وأيوب والجامعة ونشيد الأنشاد..(16).
والجدير بالملاحظة أن كتب العهد القديم ومدوناته التي تؤرخ للشعب اليهودي منذ ظهوره على مسرح التاريخ حتى عصر السيد المسيح.. لم تكتسب شكلها النهائي إلا في القرن الأول بعد الميلاد.. (17).
ما يهمنا من التركيز على شخصيَّة الأنبياء هو الرسالة التي تضمَّنتها مدوناتهم وأسفارهم وما توحي به من معاني (تفتح له الحياة أعماقها وتدنيه من أبعد أسرارها.. أو تنذر بلعنة مكتوبة ” (18).
- ظاهرة الأنبياء وتطور العقيدة الدينيَّة
إذا كان الدين لازمة من لوازم الجماعة البشريَّة والإيمان تبعا لذلك طبيعة روحيَّة.. والغايَّة من تعلق الجماعة البشريَّة بالدين تقرير مكانة الإنسان في الكون وفي هذه الحياة.
ومن هنا كان ينظر إلى الشرق منذ القدم أنه مهبط الأسرار العلويَّة، وأنه تعلم من خبر السماء ما لا تعلمه الأمم الأخرى، وأن كهان الشرق يطلعون على الغيب وينفذون إلى بواطن الديانات ..(19)
وقد ظهرت في الشرق العديد من النحل من بينها نحلة ” إزيس” ونحلة المتنطسين التي كان أتباعها يعتكفون في الصوامع للتأمل والدراسة الفلسفيَّة والرياضة الروحيَّة. ويذهب بعض المؤرخين أن هؤلاءالمتنطسين هو أساتذة النساك اليهود الذين يسمون الآسيين والإسيين وفي كتب المقابلة بين الأديان فإن عبادة الإله الواحد الخالق للكون ترجع إلى أصل واحد سواء عند المصريين ( أتون) أو اليونان “أدونيس”أو عند العبرانيين ” أدوناي” بمعنى السيد أو الرب.. (20)
وقد وصل المصريون إلى التوحيد وبقيت أسماء الإله الواحد متعددة على حسب مظاهر التجلي لذلك الإله،أما اليهود فقد سموا الإله الواحد باسم الجمع ( الوهيم) أو الآلهة ثم أصبح الجمع علامة التعظيم(21).
فالتطور في الديانات إذن، لم يكن على سلم واحد متعاقب الدرجات، بل كان على سلالم مختلفة تصعد وتهبط، والتوحيد هو نهاية تلك الأطوار في جميع التجارب الروحيَّة الكبرى..
فظاهرة الأنبياء في بني إسرائيل ترتبط بتطور العقيدة فالنبي شخصيَّة مستقلة عن المذاهب السائدة قادر على عرض شعائرها وعقائدها في خطاب متماسك من القواعد والمثل العليا والفكر والإيمان..
وكانوا أحادا لا ينتمون إلى جماعة أو فريق غير جماعة الأمة، فهم ينذرون قومهم بالمخاطر المحدقة والمفاجآت.
مما يجعل الإنذار، سيكون عمل من مهام النبوة، كما أن فكرة المسيح الثابتة في عقيدة بني إسرائيل من صفات النبوة لأن الأنبياء كانوا يمسحون بالزيت المباركة كما جاء في كتاب الملوك..(22)
فالمسح يضفي القداسة على كل ما يتم مسحه، وبهذه الصفة أدرج الأنبياء المسحاء في سلك التقديس.. ونصبوا أنفسهم بأنفسهم باعتبارهم فقهاء في العلوم الدينيَّة، ولكنهم لا يحسبون من الكهنة الوارثين لأن وظائف الهيكل كانت محصورة في أصحاب الكهنة وهي وظيفة دينيَّة موقوفة على سلالة هارون ولا يتولاها غيرهم من الأسباط.
وقد كثرت الكهانة التي يمارسها الأنبياء والكتبة والفقهاء الذين لا يعملون في الهيكل ولا يحسبون من رؤسائها الوارثين .. مما أصاب المكانة التقليديَّة للهيكل بضربة قويَّة وفتح الباب للدعوة الدينيَّة غير المصحوبة بالمراسم الكهنوتيَّة، والشعائر الهيكليَّة ..(23)
وكان من بين الأنبياء متعصبون ومتهوسون، ومجاذيب .. وقال في بعضهم “حزقيال” : قل للذين هم أنبياء من تلقاء ذواتهم اسمعوا كلمة الرب ويل للأنبياء الحمقى الذاهبين وراء روحهم ولم يروا شيئا.. رأوا باطلا وعرافة كاذبة.. القائلون وحي الرب والرب لم يرسلهم..(24)
لقد عرفت ظاهرة الأنبياء تحولا عبر العصور وهذا التحول يحدد نهاية عصرمن العصور وبداية عصر جديد في تاريخ النبوة.. ففي عصر تتغير صفات رجل الله ووظائفه ومن ثم تغير اسمه من الرائي إلى ” النبي” أي من الذي ينبئ بالغيب ويبحث في أكباد القرابين أو في الأقداح والأزلام والأنصاب، وكانوا يفسرون الإشارات ويشتغلون بالسحر والعرافة وكشف المغيبات بما لديهم من علم الباطن..(25).
ثم جاء التحول في شخصيَّة الرائي إلى نبي ملهم عالم بفقه الشريعة، وبتراث الأنبياء السابقين، يستمد نفوذه من السلطان الروحي والخيال الخصب والعصبيَّة الدينيَّة والقوميَّة التي تسعى لاحتكار الهداية الدينيَّة والدنيويَّة لسلالة واحدة من البشر.. فلم تكن عقيدة العبرانين ديانة إنسانيَّة يتساوى فيها جميع البشر.. بل نشأت ديانة عصبيَّة قبليَّة لقوم معلومين ولم تستقم على التوحيد والتنزيه الإلهي قط .
كان العبرانيون ينكصون حينا بعد حين إلى شعائر الأوثان والأصنام، ويصفون الإله بصفات الوثنيَّة في الديانات القديمة، وكانت فكرة السيادة في عبادتهم للآلهة غالبة على فكرة الخلق كما كانت غالبة على أديان الحضارات السالفة فلم ينكروا تعدد الأرباب ولكنهم أنكروا سيادتها ويدينون بالولاء للإله ” يهوا كما يدين الشعب لملكه (26).
ومن البديهي أن لكل دين موطن حس دقيق وحماسات مرهفة، لها انعكاساتها التي يستغلها أصحاب المصالح وصناع السياسة لتحقيق مآرب عاجلة أو أجله، الأمر الذي يثير مسألة العلاقة بين الدين والسياسة.
و ليس جديدا أن يتشابك الديني بالسياسي، فالتاريخ حافل بمثل هذه الظاهرة.. فكان هذا شأنها في جميع أطوار تاريخ العبرانيين، كان الأنبياء يجمعون بين أمانة الرسالة وأمانة الزعامة..
فكان موسى عليه السلام نموذجا لهذه القيادة ثم جاء الأنبياء من بعده من تلاميذه وتابعيه يقضون وقتا في التمرن والاستعداد والرياضة الروحيَّة والتدبر الطويل قبل أن يقوموا بمهمة التبليغ والقيادة، فكان أنبياء بني إسرائيل جميعا يسعون من خلال مهمة الهداية وإلى ترقب الخلاص على يد من يجمع بين امانة الرسالة وأمانة الحياة.
أما عندما يصير الأنبياء مجرد رواة وخطباء بارعون في تفسير النصوص وتأويلها حتى يزول الجوهر واللباب.. في سبيل الظواهر والأشكال، بحيث يتساوى فيها الصدق والرياء، مما يترتب عنه ضياع الفضيلة نتيجة لجمود النصوص.
- الظواهر والأشكال وحريَّة الضمير
وعند بزوغ دعوة السيد المسيح كان هناك عالمان متقابلان: عالم الظواهر والأشكال، والجمود على ظاهر النصوص وعالم حريَّة الضمير، طلق من القيود والأشكال..
لقد بلغت الظواهر والأشكال غايتها فطغت من الهيكل، وأحاطت بجميع مناحي الحياة.. فكان حكم شريعة الظواهر والأشكال مسألة امتياز يحتكره أصحابه بفضل السلالة والعنصر ويرجع الأمر فيه إلى الموروثات والمأثورات..(27).
أما محور حريَّة الضمير فهو الجوهر الصميم لعالم المعاني الروحيَّة، والقيم الأخلاقيَّة الذي تدور عليه الدعوات الكبرى.. وهي من الآثار الروحيَّة التي تركها الأنبياء والرسل وتورث كما تورث الآثار الماديَّة، إذ يرثها أولئك الذين صاروا على نهجهم، ونهلوا من علمهم، وهذا هو موروث الوحي..
لقد تضمن الوحي المعاني الأصليَّة للفطرة الإنسانيَّة ” قيم الحكمة” وقيم ” الفطرة” وهي مرجع كل دعوة لا سيما الدعوات الدينيَّة الكبرى ..
لقد دخلت دعوة أنبياء بني إسرائيل المتأخرين إلى نطاق” العصبة العنصريَّة” التي تستمد من الأساطير والأباطيل التي تحجب الحقائق عن النفس الإنسانيَّة. فلما جاء السيد المسيح عليه السلام أنكره الغلاة الجامدون على الرسوم والأشكال..
كان القوم ينتظرون ” ملكا مخلصا” وليس رسولا هاديا.. ولم يستطيعون إدراك ظاهرة تحول الدعوة من الخاص إلى العام، والعالم الإنساني يتهيأ للدعوات على حسب حاجته إليها.. فالإنسان لا يسعوه أن يعيش في العماء والخواء.. ويتطلع إلى استبدال الأوهام بصحيح الحقائق.
إن الحماسة الروحيَّة التي كانت لازمة لتوحيد العقيدة لم تعهد في غير الأديان الكتابيَّة أو الإلهيَّة .. كان لب رسالة المسيح دعوة ” الهدايةللضمير الإنساني والعطف والإلهام ومكاشفة القلوب والإفهام(29).
إن العبرة بما أحدثته قيم الوحي الروحيَّة والأخلاقيَّة في الضمائر وطوايا النفوس.من فتوح الإصلاح ومطالب الكمال، وذلك بتحكيم العقل في مسائل النصوص، بالجمع بين البرهان وبين الصدق والإيمان في سبيل الحق، والهداية والمحبة بين الناس.
أما النقيض فيوجد فيما تضمنته الأسفار والنصوص والرسوم من الأشكال والظواهر.. من تحجر الأوضاع في الدين والإجتماع، وقد غلبت المظاهر على كل شيء، وتهافت الناس على القشور دون حياة اللباب، كما أن النزوع إلى التضخيم والتجسيم تفقد من قوة الضمير بمقدار .
ويؤدي إلى “موت الفطرة” و” موت الحكمة” مما يعني تعطيل منظومة القيم المرجعيَّة، التي بموجبها تتحدد المسؤوليَّة الأخلاقيَّة للإنسان باعتبار سلوكه سلوكا هادفاينطوي على الرغبة في تحقيق قصد معين وينطلق من حريَّة الإرادة وحريَّة الاختيار.
وبالتالي فإن انعدام القيمة يجعل السلوك الإنساني عبثيا؛ فالإنسان كائن أخلاقي يتميز بالإرادة والمسؤوليَّة، وينشد تحقيق الكمال حسب طاقته وملكاته، فكل فعل حميد هو قوة أو دليل على قوة، فالصبر قوة والشجاعة قوة والعدل قوة، فالقيمة هي التي تحدد الباعث عن إنجاز الفعل وتوجيه السلوك والقدرة على احتمال التبعة.
وأن يتصرف الإنسان كما يليق بالكرامة الإنسانيَّة..(30)؛ لأن الإيمان معرفة بالقلب والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح وكل عمل خير إيمان، وكل ما ازداد الإنسان خيرا إزداد إيمانه وكلما نقص نقص إيمانه ..(31).
فنقص الإيمان إذن دليل على تحجر نظام المجتمع وتحجرت معه الشرائع والقوانين وقد تحجرت العقائد الكتابيَّة بين بني اسرائيل وغلب المظهر على المتشبثين بالنصوص واختلفوا على اللفظ والتأويل.
أشكال ومراسم وقشور خلو من المعنى والغاية، فسادت العلاقات بين مكونات المجتمع وطوائفه…(32)؛ وتجلت آفة العصر في مظاهر الترف الصارخ ومظاهر العقيدة الجامدة وخواء الضمير، فجاءت رسالة السيد المسيح تعترض على المظاهر وتضيق بالخلاف على النصوص والحروف، وتبشر بعقيدة قوامها أن ملكوت السماء في الضمير، وليس في القصور والعروش، وأنَّ آفة التناحر على المظاهر لا تؤدي إلى خلاص.
وأن الإنسان خاسر إذا ملك العالم وفقد نفسه، فجاءت الدعوة في موقعها الصحيح من التاريخ فكشفت تقطع الأسباب بين الأمم والطوائف وبين الأحاد، وقد اتسم العصر كله بالعصبيَّة ، عصبيَّة القوة الإمبراطوريَّة الرومانيَّة وعصبيَّة العشيرة والسلالة الإسرائيليَّة، قوة قاهرة ظالمة وطوائف تشيع بينها الشحناء والبغضاء ونزاع الأهواء على المآرب والمال والسلطان.
فرسالة المسيح أرادت أن تصحح ما علق بجوهر النبوة من موروثات التقاليد العبرانيَّة خلال عصور الانتقال من البداوة إلى التوطن في بلاد كنعان، وبعبارة أخرى الانتقال من الأسطورة إلى التاريخ.
- العهد والخلاص بين الأخلاق والسياسة
لقد بلغت الثقافة اليهوديَّة،أوجها في القرن السادس قبل الميلاد، وأسهمت بكتب أنبيائها الكبار في الحضارة الكونيَّة، وتأسس على مفهوم “الميثاق” و”العهد” (la notion d’alliance) نزعة تفوق عرقي وعنصري وبهذا الصدد يذهب عزرا (esdras) إلى القول بالعرق المقدس (race sainte) كما يحرم الزواج أو الاختلاط بالأعراق الأخرى.
ويقول نحميا(néhémie) بأن عرق اسرائيل منفصل عن جميع الأعراق الأجنبيَّة، مما يعني النقاء العرقي والاستعلاء..(33)
وقد ارتبطت ظاهرة النبوات بالسياسة (liaison du prophétisme et de la politique) منذ ظهور القبائل العبرانيَّة وعبر العصور المتطاولة حيث شكل الأنبياء عنصرا أساسيا في هيكل الحكم والسلطة ففي عهد الملكيَّة أصبح للأنبياء سلطة تحكيم ومراقبة مكونين حلقة من الجمعيات المترابطة، وكان لهم حضور فعال في الأزمات السياسيَّة الكبرى كما أن تنصيب الأسر الحاكمة في مملكة الشمال تعود إلى حلقات الأنبياء ..(34)
وما يميز النبوة التراتيَّة الرابطة بين الوحي والعهد والوعد بالنصر النهائي في الآخرة، وهذا ما يحيل على عقيدة التبشير ” بالمسيح المنتظر(lemessianisme ) .
إن النبي ليس بكاهن ولا رسول ولا بعراف،بل هو القاضي الذي يحاكم كل مؤسسة وكل عمل بحسب غايته ومن ثم يعطيه معنى .
لقد أضاف الأنبياء الكبار مفهوم جديدا للزمن: زمن الأمل وزمن المشروع، وأبدعوا حين أعطوا للنبوءة بعدا جديدا انطلاقا من مفهوم جديدللعهد: فمصير الشعب وتقلبات أطوار تاريخه مرتبط بوفائه أوخيانته للعهد وتعاليم شريعته التي أوحى الله بها وأن مصائبه تأتي من عصيانه للشريعة ..، فطاعة الشعب للعهد تجعله يستحق إنجاز الوعد الإلهي ومؤهل لتحقيق مملكة الله، بالاستجابة لندائه، والأنبياء هم الشهود والرسل.
والشعب يترجم تحقق تجليات الإرادة الإلهيَّة المتجددة في التاريخ. والتاريخ هو حركة جذريَّة دائبة في حياة البشر، وهو خاضع لإيقاع الكوارث الناجمة عن عدم الإلتزام بالمشروع الإلهي. كما أن النصر لا يتحقق إلا بإلتزام بالمشروع، وتتم إضاءته بوعد المسيح بالخلاص في نهاية الدهر.
فالبني إذن هو من اختاره الله باعتباره وسيطا إلهيا للبشر وفي نفس الوقت مكلف بتبليغ رسالته إلى الشعب.فرسالة النبي لا تقبل التجزئة فهي سياسيَّة ودينيَّة، تتناول تارة الأحداث الداخليَّة وتارة أخرى السياسة الخارجيَّة..(35)
فالأنبياء هم من يحدد الموقف لشعوبهم من دون التقيد بما ورد في كتب التوراة المنسوبة إلى موسى حول الطاعة والخضوع وما يترتب عنها من علاقة السيد بالعبد بين الله والإنسان، ويفضلون أن تكون العلاقة من خلال زواج رمزي (symbolismeconjugal) يقيم علاقات محبة ووفاء متبادل وتندرج هذه الطريقة في تصور الزمن باعتباره زمن للأمل والعمل والمشاركة في بناء المستقبل بإرجاع كل شيء إلى غايته.
بحيث تكون النبوة التراتيَّة مرجعا للمثل الخلاقة وفي نفس الوقت لكل حكم سياسي يتجاوز مستوى الوسائل لكي يكون قادرا على تمييز الغايات من أجل العمل لتحقيق القصد الإلهي. ومن هنا انبثق أهم موضوع الذي لا زال يحتفظ براهنيته، إذ أن مستقبل شعب وقوته تكمنان في ثقته في القيم التي قام بصياغتها. ومن الخطأ الفادح اختزال رسالة الأنبياء في الطقوس والشريعة على حساب إبعاد النبوءات”Distanciation Prophétique”.
بالنسبة للنظام القائم والسياسات السائدة، ولعل أكبر خطر يهدد دولة إسرائيل هو بوضوح حاجيتها إلى أنبياء في الوقت الذي تعاني فيه من سطوة شريعة الحاخامات المتشددين.
لقد أفرغوا رسالة الأنبياء من مضامينها الروحيَّة والأخلاقيَّة وحولوها إلى إرث خاص ودعوة للعصبيَّة والقوميَّة الضيقة التي تمجد العرق والعنصريَّة وتروج لها بالقول “بأن إسرائيل هي محور العالم وعصبه ومركزه وقلبه.. (36)
وهذا، يعكس ما جاء في طقوس العهد القديم للعبرانيين وحدهم، ولم تكن له صلة برسالة النبوة المتضمنة للخطاب الإلهي الذي يدعو إلى السعادة، والفضيلة والعيش المشترك بين الناس كافة. فوعد الله الأزلي و”ميثاقه” هو للأتقياء من الناس جميعا، ولا يخص شعبا بعينه ولا سلالة ولا عرقا، ولا قبيلا.
وبالتالي فيجب ألا يظن أن الله قد وعد الأتقياء من اليهود وحدهم، واستبعد الآخرين، بل يجب أن نعتقد اعتقادا جازما بأن الأنبياء الحقيقيين من غير اليهود، قد وعدوا المؤمنين من أممهم بهذا الاختيار، أي أن الميثاق الأزلي لمعرفة الله وحبه هو ميثاق شامل لجميع البشر..(37)
خاتمة
حاولنا خلال هذا البحث أن نعرض بعض وجوه ظاهرة الأنبياء عند بني إسرائيل خلال العصور المتطاولة، وتطرقنا إلى الأسباب التي أدت إلى تحولها من دعوة الهداية الروحيَّة والفضيلة الأخلاقيَّة إلى النزعة الطقوسيَّة العصبيَّة والعرقيَّة المستمدة من الرسوم والأشكال والنصوص الجامدة والمحرفة بالإضافة إلى الرموز الأسطوريَّة للحضارات القديمة التي دخلت إلى التقاليد العبرانيَّة وأثرت في ثقافتهم وتفكيرهم.
ونتيجة لهذه العوامل كلها تحولت النبوة على يد سدنة الهيكل والكتبة والطوائف الدينيَّة إلى مجرد مذهب طقوسي يجعل من الدولة إلها ويحصر الخلاص في النعيم الدنيوي، ولهذا السبب جاء المسيح يبشر بجزاء روحي، وكان همه الوحيد إعطاء تعاليم خلقيَّة وتمييزها عن قوانين الدولة.
والجدير بالملاحظة أن الهدف من شريعة موسى كان تنظيم المجتمع بقوة القانون ويقرن أمره بالتهديد والعقاب بغرض إخراج القوم من حالة البداوة والفوضى إلى حالة النظام والانضباط للتأهل لاستقبال رسالة السماء..
إن المذهب الطقوسي يعد انتكاسا وانحرافا صريحا عن قيم النبوة الهاديّة. ففي كنف الجمود والجحود تصبح النصوص شغلا للتأويل وإظهار البراعة في اللعب بألفاظ والشطط في إصدار الفتاوى وإيقاع الأحكام والعقوبات.
وبالتمادي في هذا الأمر تحولت الشريعة إلى متون طقوسيَّة وحروف عند الحرفيين من علماء الديانة الذين يؤولون النص خدمة للأهواء والمصالح والسياسات السائدة.
إن روح الشريعة هي “القوام” الذي يقوم به كل شيء، والفضيلة التي يقوم بها ضمير الإنسان، والحكمة التي ترفع من مقام الإنسان في الكون،فممارسة الفضائل تطهر النفس بصفة مستمرة، فتعاليم الشريعة تحقق الكمالات والسعادة الروحيَّة في الحياة..
أما الطقوس فتتعلق بمزايا ماديَّة ومنافع دنيويَّة مثل الشهرة،والانتصارات والثروات واللذات وسلامة الأبدان.
لا تبشر الطقوس إلا بسلامةالدولة والرخاء الدنيوي،ومن ثم لا يوجد في المزامير أي ذكر للشعائر بل للتعاليم الخلقيَّة فقط كما أن حكم سليمان تحدد السعادة الحقة في الحكمة وتبجيل العلم.
وبعد انهيار دولتهم لم يعد اليهود ملزمين بالمحافظة على شريعة موسى وبدأوا في الإندماج في الأمم الأخرى..(39)
ومجمل القول أن حكم الظواهر والأشكال والكبرياء ، جعلت الفضل بين الأمم محتكرا ، لبني اسرائيل والكهانة بالنسب والميراث والفضل في الدين والعلم حرفة يحتكرها الكتبة والأحبار، وسدنة الهيكل.
وجاءت دعوة المسيح عليه السلام لتنقض ما ادَّعوه واستأثروا به، فرسالة النبوة تهدي إلى معرفة الله حق المعرفة، وأن الأفضليَّة تكمن في التقوى المؤسسة على الفضائل الخلقيَّة والكمالات الروحيَّة.
وتعاليم الأنبياء منبثقة عن نور الفطرة الإلهيَّة لهداية البشر بما تودعه في النفوس من القيم والحوافز والمثل ومن حريَّة الضمير وحريَّة التمييز بين الخير والشر.. وكيف يتسامى الإنسان إلى مقامات الملكوت الأعلى.
وشتان بين دعاة الصولجان وشريعة الاستكبار وبين الأنبياء الداعين إلى رضوان يتحقق في ملكوت السماء يعمل الناس من أجله في هذه الحياة، فيستحقون ثوابه في العالم الآخر، وتلك هي الغاية وراء كل ختام.
الهوامش
- حسن ظاظا، الفكر الديني اليهودي أطواره ومذاهبه ، دار القلم دمشق والدار الساميَّة بيروت، ط3/1995، ص19.
- أحمد بابانا العلوي، الرسول في مرآة الفكر الاستشراقي، دار أبي رقراق، ط 1/2016، ص 118.
- نفس المصدر، ص 121.
- عباس محمود العقاد، محمد كتاب الهلال، ص 14.
- حسن ظاظا ، مصدر سبق ذكره ، ص 32.
- المصدر السابق، ص 35.
- المصدر السابق، ص 45.
- اسبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسيَّة ترجمة حسن حنفي، دار الطليعة ، ط 1997، ص 134.
- نفس المصدر ص 143-144.
- نفس المصدر ، 146-147.
- عباس محمود العقاد، حياة المسيح، كتاب الهلال، ص29.
- المصدر السابق، ص 29.
- المصدر السابق، ص 30.
- المصدر السابق، ص 31.
- نفس المصدر ، 34-35.
- موريس بوكاي، القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ، مكتبة مدبولي ، ط 1، 1996، ص 27-28.
- حول تاريخيَّة كتب العهد القديم، ومضامينها وترجمتها إلى اللغات الأخرى، ونقدها أحيل في هذا الصدد إلى الكتاب القيم للأستاذ أحمد شحلان (قضايا من أصول موسى إلى البابا بينديكت ، مطبعة الرسالة، الرباط، ط1/2017.
وكتاب أسماء وردى ، مناهج نقد العهد القديم عند الغرب، دار صفحات للنشر الإمارات ط1/2016.
- جبران خليل جبران، ” النبي” دار العلم والمعرفة ط :2011، ص 75.
- حياة المسيح، ص 61.
- نفس المرجع ص 64.
- العقاد ، كتاب الله، ط 2006، ص22.
- المصدر السابق، ص 94.
- العقاد ، حياة المسيح، ص 47.
- أحمد شلبي ، مقارنة الأديان (1) اليهوديَّة)ط18/1997، ص169.
- الرسول في مرآة الفكر الاستشراقي ، ص119.
- العقاد ، ابليس، كتاب الهلال، 1967.، ص94.
- حياة المسيح، ص130.
- طه عبد الرحمن ، ثغور المرابطة مقاربة إئتمانيَّة لصراعات الأمة الحاليَّة ط12018/ ص46.
- حياة المسيح ، ص261.
- محمد الكتاني، منظومة القيم في الإسلام، ط2-2011، ص13.
- ابن حزم في الفصل نقلا عن محمد يوسف موسى فلسفة الاخلاق في الإسلام ط3، 1963، ص 47.
- حياة المسيح ص105.
- Roger Garaudy appel aux vivants points actuels1980-p152.
- المصدر السابق، ص 153.
- Appel aux vivants p154.
- AndreNeher : l’essence du prophémisme ; paris c.levycoll diapora1972, p111.
- رسالة في اللاهوت والسياسة، ص187.
- المصدر السابق، ص 207.
- المصدر السابق، ص 209.
____________
* أحمد بابانا العلوي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.