*نشرت في الراصد التنويري/ العدد السادس(6)/ خريف 2009.
قد لا تكون المعركة التي دارت بين حركة حماس وجماعة «جند أنصار الله» الأخيرة، رغم أنها حسمت عسكريا بسرعة لصالح الحكومة المقالة، وانتهت بموت زعيم المجموعة عبداللطيف موسى الذي أعلن عن قيام «إمارة إسلامية» بمدينة غزة، وما المناوشات المسلحة التي تشنها حاليا فلول هذه الجماعة سوى مؤشر على ما ستلقاه مؤسسات حماس وحكومتها من تخريب وتشكيك في إسلامها وشرعية سياساتها من قبل التنظيمات السلفية الراديكالية.
وإذا استثنينا التقارير الإسرائيلية والأميركية والأوروبية، فإن حركة حماس تصنف ضمن الحركات المعتدلة، أو ما يسمى داخل الأوساط الحركية بـ «الدائرة الوسطية»، ويقصد بذلك الحركات والتيارات التي تتجنب اللجوء إلى العنف في مسعاها للوصول إلى السلطة، وتميل في أطروحاتها الدينية والسياسية إلى تجنب «الغلو»، وتقبل بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع والتكيف المتفاوت فيما بينها مع ضرورات الحداثة والعمل المؤسساتي، ومن هذه الزاوية، فإن حركة حماس ذات الولاء التاريخي لحركة «الإخوان المسلمين»، قبلت باللعبة الديمقراطية، وخاضت الانتخابات الرئاسية والتشريعية ببرنامج سياسي وصفه الكثيرون يومها بكونه «براغماتياً»، إلى جانب تمسكها بنهج المقاومة.
لقد بينت التجارب قديمها وحديثها أن الحركات العقائدية تفتح الباب آلياً لولادة حركات من نفس طبيعتها، تتقاطع معها في بعض القناعات والأهداف، لكنها تقف إلى يمينها لتزايد عليها، وتعمل على تهيئة نفسها حتى تكون بديلاً عنها، وبما أن حركة حماس ذات التوجه الإسلامي قد انتقلت من صفوف المعارضة إلى واجهة السلطة، فقد أنعش ذلك التنظيمات الدينية الصغيرة والمنافسة، التي ارتفع صوتها خلال السنوات الأخيرة مثل حزب التحرير والمجموعات السلفية، التي أصبحت بدورها تستسهل عملية الوصول إلى السلطة لفرض قناعاتها وتصوراتها حول الدين والدولة، وبدلا من قيام هذه الأطراف بدعم الجهود العقائدية والسياسية لحماس بحكم وجود قواسم مشتركة بينها، نراها قد غلّبت خلافاتها الإيديولوجية مع الحكومة المقالة، وأخذت تشكك في الرؤية الدينية التي تنطلق منها حركة حماس لتبرير اختياراتها السياسية، وبما أن تنظيم القاعدة قد جعل من القضية الفلسطينية محوراً رئيسياً من محاور خطابه التحريضي، فقد وجد في «البراغماتية الجزئية» التي انتهجتها حركة حماس للتكيف مع ضرورات المرحلة مدخلاً للهجوم عليها، وممارسة أقصى درجات الضغط من أجل ابتزازها أو بناء شرعية داخل غزة على حسابها.
لقد حاولت حركة حماس تجاهل هذه الجماعة وغيرها، كما أنها، وتحت تأثير شق من داخلها، سرعت أحيانا الخطى في اتجاه ما يسمى بخيار «أسلمة القطاع» في مسعى لاحتواء الضغوط الدينية والسياسية التي تمارسها هذه الجماعات، وفي هذا السياق يمكن فهم الأحداث المتعلقة بمحاولة «فرض الحجاب»، والتركيز على الخطاب الدعوي لتنقية المجتمع الغزاوي مما يعتبره البعض «ظواهر اجتماعية غير إسلامية»، وهي محاولات تعارضت مع مبدأ الحريات الشخصية، وأظهرت حركة حماس في مظهر الجماعة الدينية وليست حزبا سياسيا أو حركة وطنية تعمل على استيعاب كل المجتمع الفلسطيني بمختلف تنوعاته وفئاته.
وما حصل لحماس تكرر مع غيرها في أكثر من بلد عربي أو مسلم، فالتيار السلفي الراديكالي يملك من القدرة على محاصرة «الحركات الوسطية» وابتزازها من أجل أن يفرض عليها استراتيجيته في التغيير، أو أن يضعفها ويقصيها تدريجيا ليحتل مكانتها، ويتجه رأسا إلى محاولة افتكاك السلطة وتأميم الدولة.
لقد حدث ذلك من قبل أن يولد تنظيم القاعدة، ففي مصر، قامت (الجماعات الإسلامية) في محاولة لإفراغ حركة الإخوان المسلمين من شبابها، بعد أن أصيبت هذه الأخيرة بشلل حركي وعجز سياسي، وقد كادت أن تنفرد هذه الجماعات بقيادة الساحة الدينية لولا الأخطاء الاستراتيجية التي وقعت فيها نتيجة تبنيها لمنهج العنف العشوائي.
وتكررت التجربة في الساحة الجزائرية، حين نجحت «جبهة الإنقاذ» في سحب البساط من «حركة مجتمع السلم» التي أسسها الشيخ المرحوم محفوظ نحناح، وكادت أن تجيّر كامل الساحة الدينية لصالح مشروعها الغامض، وكانت النتيجة الدخول في مواجهة مسلحة مع النظام الجزائري أدت إلى كارثة بشرية وسياسية، وكلما استمر التوغل في العنف المسلح، كانت القيادة الميدانية تنتقل إلى المجموعات الأشد تطرفاً وعنفاً حتى أصبحت الجبهة أثراً بعد عين.
وما يجري في الصومال ليس سوى سيناريو آخر، تعمل المجموعات الراديكالية المسلحة من أجل فرضه على هذا البلد الفقير والمفكك، ضد الجناح الذي أراد أن يحول صيغة المحاكم الإسلامية إلى مشروع وطني جامع.
وخلاصة القول، تخطئ حركات الإسلام السياسي ذات التوجهات الوسطية إذا اعتقدت بأنها يمكن أن تتعايش مع التيارات السلفية الراديكالية، صحيح أنه يجمعهما الكثير من مكونات الخطاب العقائدي والأخلاقي، لكن يفرق بينهما أسلوب العمل ومنهج التغيير، وللمنهج تأثير حاسم على الأوضاع ومجريات الأحداث، وهو المحدد لطبيعة المصالح ورهانات أطراف الصراع حول السلطة والثروة.
إن « الحركات الوسطية «، تجد نفسها في تحديد الموقف من ظاهرة السلفية الراديكالية أمام ثلاثة احتمالات:
أولاً: العمل على الاحتواء الأيديولوجي للتيار السلفي، ويعني ذلك توسيع دائرة الاهتمام بالشؤون العقائدية، وتنظيم حملات أوسع ومكثفة تدور حول المسائل الأخلاقية. ويعتقد من يؤمن بهذا الاختيار أن من شأن ذلك أن يقطع الطريق أمام الجماعات الراديكالية، ويجعل من حركات الإسلام السياسي ذات التوجه الوسطي بمثابة الجهة الأكثر شرعية للدفاع عن الإسلام وحمايته، لكن مشكلة هذا التوجه أنه يجر الحركات السياسية إلى مزالق عديدة، ويحولها -في حالة وصولها إلى الحكم- إلى سلطة دينية ورقابية وعقابية متعارضة مع حرية العقيدة والتدين، كما أن هذا التوجه هو انتقال إلى ملعب الحركات السلفية الذي تحسن تملّك أدواته بما اكتسبته من قدرات سجالية على انتقاء النصوص وتوظيفها لصالح أهدافها.
ثانياً: خيار المواجهة: وهذه المواجهة يمكن أن تبدأ فكرية وسياسية، لتنتقل فيما بعد إلى مواجهة مسلحة كما حدث في أكثر من مكان، ولا شك في أن اللجوء إلى لغة السلاح يعتبر أسوأ الاحتمالات، لكنه غير مستبعد، خاصة إذا بادرت الجماعات السلفية برفع السلاح، وشرعت في إنشاء قوة عسكرية موجهة ضد خصومها، ولعل هذا الجانب هو الذي دفع بالشيخ يوسف القرضاوي إلى إضفاء الشرعية على ما أقدمت عليه حكومة حماس ضد جماعة «جند أنصار الله».
ثالثاً: أن تعمل الحركات الوسطية على تطوير رؤيتها للعمل السياسي، وذلك بالفصل بين مفهوم الحزب من جهة وبين مفهوم الجماعة الدينية والوعظية من جهة ثانية، وأن تدرك هذه الحركات بأن العمل على أسلمة المجتمعات هو المدخل لتوفير بيئة صالحة لإنعاش الجماعات السلفية، فهو مجالها الحيوي وخطابها المفضل الذي يجعلها أميَل إلى ضبط شروط الإيمان، وتحديد درجات صحة العقائد وضبط السلوك الفردي، كما أنه يرسخ القول بأن أفضل طريقة لتجسيد الإسلام هي تطبيق الشريعة من خلال افتكاك السلطة وإقامة الحدود.
والمؤكد أن الحركات الإسلامية المراهِنة على الاندماج السياسي لا تزال مترددة في تقدير حجم التحديات والمخاطر التي تمثلها الجماعات السلفية الجديدة عليها وعلى مستقبلها الحركي والسياسي، إن مصلحتها الحيوية تقتضي منها أن تظهر خطوط التمايز بينها وبين التيارات الراديكالية حتى لا تختلط الأوراق، لأن تعويم الاختلافات بحجة تغليب القواسم المشتركة، لن يؤدي عملياً إلا إلى تفخيخ هذه الحركات، واستدراجها نحو المناطق الرمادية، التي ستجعل منها الوجه الآخر للتيارات السلفية المتشددة، وهو ما يعتقده الكثير من خصوم هذه الحركات.
_______
*صلاح الجورشي.