التنويريسلايدرمكتبة التنويري

إميل دوركهايم

صدر عن سلسلة “ترجمان”، في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتاب إميل دوركهايم، وهذا الكتاب ترجمةٌ لكتاب مارسيل فورنييه بالفرنسية Émile Durkheim إلى اللغة العربية، أنجزتها الباحثة فاطمة الزهراء أزرويل. يُعدّ هذا الكتاب عملًا شاملًا عن حياة دوركهايم وفكره، وهو الذي أحدث ثورة في العلوم الاجتماعية؛ بدءًا من الدفاع عن استقلالية عِلم الاجتماع بصفته عِلمًا، ومرورًا بالبلورة المنهجية لقواعد دراسة الاجتماع وأساليبها، وإدانة النظريات العرقية، ونقد المركزية الأوروبية، ووصولًا إلى إعادة تأهيل إنسانية البدائي. لقد دافع عن كرامة الفرد وحرية الصحافة والمؤسسات الديمقراطية والقيم الليبرالية الأساسية للتسامح والتعددية. وفي الوقت نفسه، كان ينتقد اقتصاديات عدم التدخّل ودافع عن قيم التضامن وحياة الجماعات.

أصبح التراث الفكري الغني لدوركهايم في نواحٍ كثيرة، جزءًا من الفهم الذاتي لعصرنا، وتعزّزت أهمية مساهمته في عملية تأسيس علم الاجتماع عندما أنشأ مجلة السنة السوسيولوجيةL’Année sociologique في عام 1896؛ إذ أسس من خلالها ما يُعرف بالمدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع.

توثيق السيرة

في هذه السيرة الطويلة (1568 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا)، وثّق فورنييه السيرة الذاتية الجديدة لدوركهايم بدقة، ملقيًا ضوءًا جديدًا على شخصيته، وعلاقته باليهودية، وحياته العائلية، وعلاقاته بأصدقائه ومعاونيه، ومسؤولياته السياسية والإدارية، وآرائه السياسية. وتتعلّق بهذه الشخصية الكثير من الحواشي، غير أنها تشكل ملحقًا نصيًّا أساسيًّا، ويظهر دوركهايم اليهودي للقارئ عالمًا ومعلمًا ومحاضرًا ومشاركًا ناشطًا في النقاش الأكاديمي، ومراقبًا دقيقًا للتغيير الاجتماعي، ومفكرًا سياسيًا ملتزمًا، ورائدًا في إحدى مدارس العلوم الاجتماعية، ومرشدًا لزملائه الشباب، ووصيًّا على جامعة السوربون. ويجعل فورنييه من هذه السيرة الذاتية لدوركهايم، الذي يُدرس في أولى سنوات التعليم الجامعي الأوروبي، قصةً لإنسان حقيقي، تقليدية في أهدافها وأشكالها وطريقة سردها.

إنّ ما أراد فورنييه، في كتابه هذا، هو الاستعانة بمنظور السيرة الذاتية ليتحدث عن أمر مختلف. وإذا تطرق في سرده إلى اليهودية في فرنسا، ومدارس الجمهورية الثالثة وجامعاتها، والمناخ الفكري السائد في حينه، والروح الأكاديمية المستعرة، والنزاعات السياسية والعلمية، والعقليات والعادات، واحتلال الألزاس، وقضية دريفوس، أو الحرب العالمية الأولى، فذلك لأن هذه المسائل ألّفت أجزاءً من حياة دوركهايم وسيرته الأكاديمية والفلسفية. وهي، من ثمّ، تمثّل خلفيةً للمشهد الدوركهايمي من حيث إحياء السياق التاريخي والثقافي والسياسي والفكري، وهو ما يسمح لأي فرد موجود فيه اجتماعيًا أن يُفهم من دون أن يكون الثمن تخليه عن استقلاليته.

فصول الكتاب

يتألف الكتاب من ستة أقسام، توزع فيها ستة وعشرون فصلًا. ففي القسم الأول، “مرحلة الشباب”، أربعة فصول ترسم صورة واضحة لشباب دوركهايم وأخلاقه التي شبّ عليها، وسنوات دراسته الأولى: فصل أول بعنوان “تربية يهودية”، وفصل ثانٍ بعنوان “طالب في المدرسة العليا للأساتذة”، وفصل ثالث بعنوان “’شوبان‘، أستاذ في ثانوية”، وفصل رابع بعنوان “السفر إلى ألمانيا”.

كذلك، ثمّة في القسم الثاني، “تأسيس السوسيولوجيا”، أربعة فصول أخرى: فصل خامس بعنوان “أستاذ في جامعة بوردو”، وفصل سادس بعنوان “الفرد والمجتمع: الرابط الاجتماعي”، وفصل سابع بعنوان “موضوع ومنهج وقواعد”، وفصل ثامن بعنوان “1895”، وفيها توصيف لطلائع رحلته المهنية أستاذًا جامعيًا في بوردو، ثم في باريس.

أمّا في القسم الثالث، “مجلة وفريق”، فنجد حكاية تأسيس “السنة السوسيولوجية” وما آلت إليه، وفيه ستة فصول: الفصل التاسع الذي ورد بعنوان “زمن التحولات، من الانتحار إلى السنة السوسيولوجية”، والفصل العاشر بعنوان “السنة السوسيولوجية ونشأة فريق”، والفصل الحادي عشر بعنوان “قضية دريفوس والدفاع عن حقوق الإنسان”، ثم الفصل الثاني عشر بعنوان “أهو الفشل؟”، وبعد ذلك يأتي الفصل الثالث عشر بعنوان “كلمة واحدة: التضامن”، ثمّ الفصل الرابع عشر بعنوان “أزمة في مجلة السنة السوسيولوجية”.

أمّا القسم الرابع، “باريس، جامعة السوربون”، فيتضمّن خمسة فصول جديدة من سيرة دوركهايم المهنية في جامعة السوربون، هي: الفصل الخامس عشر بعنوان “في جامعة السوربون”، والفصل السادس عشر بعنوان “روح المانيتو وعشيرة المحرم – الطوطم”، والفصل السابع عشر بعنوان “علم الأخلاق، اهتمام يومي”، والفصل الثامن عشر بعنوان “التطور التربوي أو الثقافة الثالثية”، ثمّ الفصل التاسع عشر بعنوان “الكنيسة والدولة والوطن”.

إثر ذلك، يأتي القسم الخامس، “الأخلاق والدين”، وهو يضمّ خمسة فصول، هي: الفصل العشرون بعنوان “الذكرى العاشرة لتأسيس مجلة السنة السوسيولوجية”، والفصل الحادي والعشرون بعنوان “تغيير العالم”، والفصل الثاني والعشرون بعنوان “الوصي على جامعة السوربون”، والفصل الثالث والعشرون بعنوان “أصول الحياة الدينية”، ثمّ الفصل الرابع وعشرون بعنوان “مساق: عدد أخير من مجلة السنة السوسيولوجية، نهاية حقبة البراغماتية”.

أخيرًا، نجد في القسم السادس “الحرب الكبرى” – وهو القسم الأخير – فصلين فقط؛ هما الفصل الخامس والعشرون الذي ورد بعنوان “الاعتداء الغاشم”، والفصل السادس والعشرون الذي ورد بعنوان “التفكير في الشيء نفسه ليلًا ونهارًا”.

عمل تأريخي

يعتمد فورنييه في هذا الكتاب الشكل الأوضح لكتابة السيرة الذاتية، ومن ثمّ يقدم حياة دوركهايم بالترتيب الزمني المعهود، مسترشدًا بما تيسر له من مصادر، تاركًا في بعض الأحيان دوركهايم ليتحدث بنفسه عن نفسه، معززًا السيرة الذاتية باقتباسات كثيرة يربط بعضها ببعض ليرسم صورة فسيفسائية معبّرة عن دوركهايم نفسه، متكهنًا حينًا، في تفصيلات عديدة، تاركًا أحيانًا أسئلة من دون إجابات حين لا تسعفه مصادره تجاه مزيد من الاستدلالات، مع حرصٍ شديد على حَصْر اجتهاداته في حدود دنيا لضمان السلامة العلمية للسيرة الذاتية، ولعدم الاستسلام لوهم السيرة الذاتية. وهكذا، تكمن “قوة” الكتاب في إدراك فورنييه المسلمات النظرية، من دون إثقال النص بالنظريات. إنه كتاب مزدوج المعنى؛ إذ يمكن استكماله بالاكتشافات المتتالية للحقيقة، لكنْ يمكن من خلاله – قبل كل شيء – فهم حياة دوركهايم ضمن بنية نظرية أرادها فورنييه بالغة الدقة.

ليس هذا الكتاب ملخصًا مكثفًا لنقاش معاصر متعلق بما تركه هذا عالم الاجتماع الفرنسي الكلاسيكي من أثر، وهو ليس مصدرًا مرجعيًّا شاملًا لمثل هذه الأعمال. بهذا المعنى، يقترب الكتاب من أن يكون عملًا تأريخيًّا أكثر من كونه عملًا يهدف إلى التنظير في علم الاجتماع. وعلى الرغم من أنّ المجالين ينتهجان في أحيان كثيرة منهجًا مطابقًا، فإن المبادئ التي تنتظم بها نصوصهما مختلفة؛ فالمؤرخ يبحث في أصول الأفكار، في حين يعيد المنظر بناء العمل عقلانيًا.

في السياق السردي، يقدم فورنييه الأطروحات الرئيسة لنصوص دوركهايم وأصولها تقديمًا منهجيًّا، بما فيها الأطروحات الأقل شهرة التي يمكن أن يتوصل إليها عالم الاجتماع “العاديّ”. وقد دُمجت كتب دوركهايم في سيرة قراءاته المستمرة، ونزاعاته، واجتماعاته، ومحاضراته، ومناقشاته العامة، وانتقاداته. ربما يسود انطباع مفاده أن دوركهايم كان باحثًا منتجًا في سنوات قليلة فقط من حياته، لكن الحقيقة ليست كذلك؛ فهو قد كان عاملًا مجدًّا، حتى إنه لا يرتاح قليلًا إلّا عندما يحثه طبيبه على الراحة.

 

مارسيل فورنييه

باحث وأستاذ جامعي ومفكّر كندي. كتب أطروحته في فرنسا تحت إشراف بيار بورديو، ثمّ نالها في عام 1974. تم تعيينه أستاذًا في جامعة مونتريال، حيث قضى أغلب سنوات حياته المهنية. يركز عمله على علم اجتماع الثقافة، وعلم اجتماع العلوم، ونظرية علم الاجتماع، وتاريخ علم الاجتماع في فرنسا. يشمل إنتاجه العلمي الاستثنائي أكثر من 30 كتابًا و150 مقالة. يُعرف بعمله عن علم الاجتماع الفرنسي وتاريخه، حتى بات أحد أبرز المتخصصين فيه. تُعدّ السيرتان الذاتيتان اللتان كتبهما عن مارسيل موس وإميل دوركهايم مرجعَيْن مهمين.

ترجمة: فاطمة الزهراء أزرويل

أستاذة التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. حاصلة على شهادة دكتوراه الدولة عن أطروحتها “المسألة النسائية في الخطاب العربي الحديث”، من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء (2002)، وشهادة دكتوراه السلك الثالث حول “مفاهيم نقد الرواية بالمغرب: مصادرها العربية والأجنبية”، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء (1987). لها عدد من الأبحاث والدراسات والكتب، منها: “المسألة النسائية في المغرب” (1987)، و”المسألة النسائية في الخطاب العربي الحديث” (2004)، إضافة إلى الكتب التي ترجمتها، ولا سيما كتب فاطمة المرنيسي. ومن بين هذه الكتب “السلوك الجنسي في مجتمع إسلامي رأسمالي تبعي” (1982)، و”نساء الغرب” (1985)، و”الجنس كهندسة اجتماعية بين النص والواقع” (1987).


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة