التنويريسلايدرفكر وفلسفة

المشروع الإسلامي في خطر

يحتاج التيّار الإسلامي إلى بذل المزيد من الجهد التنظيري والجهاد العملي لإزالة هواجس المجتمع والنخبة والتيّارات السياسيَّة والفكريَّة الأخرى من مسألة موقفه من الحرّيّات العامّة ومن حقوق الإنسان ومن العدالة والقانون واحرام الحقّ في الاختلاف.

كنّا ندافع قبل سنوات عن الإسلاميّين باعتبار أنّهم المجني عليهم وأنّهم ضحيّة البطش السلطوي في كل مكان وأنّهم “الجنس” المستباح في الدول الإسلاميَّة قاطبة، وكان الكلام صحيحًا بالطبع، ولكن الآن، وبعد ظهور تجارب وممارسات في فلسطين ولبنان والعراق وإيران وأفغانستان والصومال والسودان، لم يعد هذا الدفاع مقبولًا أو كافيًا لإزالة الالتباس وإزالة الهواجس من غياب هذا الملف عن اهتمامات الإسلاميّين، بطبيعة الحال، حرّك هذا الخاطر عندي ما حدث في رفح واستباحة ميليشيات حماس “الإسلاميَّة” دماء إخوان لهم من الإسلاميّين على خلفيَّة نزاع له إرث طويل من الخلاف الفمري والسياسي، كما أفزعني جدا ما قرأته من تصريحات وتعليقات لعدد من الرموز الإسلاميَّة في تبرير ما وقع وصمت آخرين عن التعليق هروبًا من مواجهة المشكلة، فضلًا عن التعليقات الكثيرة التي كشفت عن أنّ الإسلاميّين يعيشون فراغًا حقيقيًّا في هذه المسألة.

 

لم يعد الهاجس هنا وقفا على التيّارات الأخرى المخالفة للتيّار الإسلامي، بل إنّ هذا الهاجس أصبح مطروحًا داخل فصائل التيّار الإسلامي ذاته، وأصبح من المعتاد أن تستمع في المجالس الخاصّة إلى كلام لشخصيّات إسلاميّة دعويَّة أو فكريّة تبدي قلقها من “الحال” إذا ما توسّد الحكم هذا الفصيل الإسلامي او غيره، بل إنّ هناك من يبدي مخاوف جدّيَّة من أن مستويات القمع السلطوي آنذاك ستكون أكثر مرارة وعنفًا من القمع السلطوي الذي تمارسه النظم العلمانيَّة، الموضوع جدّ لا هزل فيه، والإسلاميّون أمام استحقاق فعلي في ملفّات حقوق الإنسان والحرّيّات العامّة، البعض منا ما زال يتحدّث عن اتّهامات بالخروج على ولي الأمر لتبرير أي مذبحة ترتكب باسم الإسلام، وعن مبرّرات ولي الأمر في اعتقال الآلاف من أجل بسط الأمن والسيطرة، والبعض يتحدّث عن جواز اقتحام المساجد وضربها بالصواريخ والمدفعيَّة لمطاردة الخارجين على “السلطة الشرعيَّة”، والبعض ما زال يستسهل “شيطنة” المخالف بجعله يحمل كل موبقات الصفات والمعاني والسلوكيّات لتبرير استباحة دمه وعرضه ووجوده.

 

هذا كلام خطير للغاية، وهو نسخة طبق الأصل من الخطاب القمعي الاستبدادي الذي تعاني منه الأمّة طوال نصف قرن على الأقل، فقط تكسوه بكساء إسلامي، ونوشيه ببعض الآيات والأحاديث المختارة والمنتزعة من منظومة متكاملة في الفكر السياسي.

وقد حدّثني كثيرون من الدعاة والكتاب يبدون قلقهم ممّا أسموه “الاستبداد باسم الدين” معتبرين أنّه أشدّ خطورة ومرارة من الاستبداد العلماني لأنّه يحبط نفسه بقدسيَّة إلهيَّة تضاعف من ثقله وآلامه وتضعف من قدرة الأمّة على مقاومته أو رفضه.

مجتمعاتنا في شوق إلى الإسلام وشريعته وسماحته وأمانه، ولكن مجتمعاتنا التي عانت طويلا من الاستبداد والقمع والسجون والمشانق واسترخاص الدم والمطاردات الأمنيَّة، تتشوّق إلى الإسلام الذي يحقّق لها العدل والأمان وسيادة القانون وحماية حقوق الإنسان ودعم الحرّيّات العامّة، الإسلام الذي يفكِّر في بناء المزيد من المصانع وليس بناء المزيد من السجون، وفي تفجير ينابيع المياه والخير من البرّ والبحر وليس تفجير المزيد من أنهار الدم، والإسلام الذي يرسي دعائم السلام الاجتماعي وينشر الحبّ والتسامح وليس الذي يؤسّس لأحقاد وصراعات وتصفيات دمويّة لا يرى لها نهاية، الإسلام الذي تسع مظلّة العدل فيه والعطاء من يتّفق معك أو يختلف، وليس الذي تقسّم فيه المناصب والعطايا والحقوق على من يوالون هذا الفصيل أو ينضوون تحت لوائه ويحرم منه “الآخرون” الإسلاميّون في حاجة إلى مراجعات شاملة وجادّة وأمينة، إذا أرادوا حماية صورة المشروع الإسلامي من المزيد من التشويه الذي لحق به أمام أنفسهم وأمام العالم.

_______

*الراصد التنويري/ العدد السادس/ خريف 2009.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة