*أحمد ولد الحافظ
لمحات من كتاب “رسالة الإسلام” للمفكر علي محمد الشرفاء الحمادي
جاء النبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه- رسولا من عند الله يحمل كتابا، أساسه الرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} سورة الأنبياء، الآية 107، ويقتصر دور النبي في هذه الرسالة على الإبلاغ والتبيين؛ دون أن يكون مسؤولا عن تأليف أو زيادة أو حساب أو عقاب {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} سورة الرعد، الآية 40، ولم يزد الرسول في حياته على هذا الدور الواضح، فلم ينقص من كتاب الله شيئا، وكان حريصا على استكتاب الكتبة له، ولم يزد عليه شيئا، فلم يُكتب في حياته حديثًا واحدًا.
وقد بين لنا هذا الكتاب -الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- علاقة النبي به؛ إذ لا تجاوز تلك العلاقة (الإبلاغ والتبيين) يقول الله تبارك وتعالى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{ سورة النحل، الآية 64، إذ توضح هذه الآية أمرين مهمين؛ أولهما أن دور النبي يقتصر على تبيين هذا الكتاب، وثانيهما أن هذا الكتاب أُسّس على الرحمة والهدى.
ولا يخفى -على ذي بصيرة- معنى التبيين هنا ودلالته؛ إذ لا يتجاوز التوضيح والشرح، دون الزيادة أو التدخل، بمعنى أنه ما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحصر الله دوره في التبليغ والتبيين، ثم يأتي بعد ذلك بنص مواز، وهذا ما ذهب إليه الرواة، وهذا التبيين -الذي كلف الله به نبيه- ينطلق من مبدأ أن هذا الكتاب أساسه الرحمة والهدى؛ أي التخفيف على الناس والرحمة بهم، وبث السلام والتسامح بينهم، وعدم تكليفهم ما لا يطيقون {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ} سورة البقرة، الآية185.
ويتواتر هذا الأمر في قرآن الله وكتابه؛ إذ يقول وقوله الحق {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} سورة النحل، الآية 89، ففي الكتاب لم يترك الله استشكالا لعباده، وإنما بين لهم كل شيء، كما يتواصل تأكيد منطلق هذا الكتاب وأساس هذا الدين (أي الهدى والرحمة والبشرى) فأي رحمة وأي بشرى في دواوين التراث وما تحمله من تحريض على الناس؛ على أرواحهم، وعلى أعراضهم، وعلى أموالهم..!؟
إن هاتين الآيتين تكشفان زيغ التراث وضلال التراثيين من زاويتين؛ الزاوية الأولى أن دور النبي مقتصر على تبيين كتاب الله، وليس منافسته بنص آخر مواز (حاشاه) عكس ما ذهبت إليه الروايات التراثية.. أما الزاوية الثانية فهي أن هذا الكتاب -الذي هو أصل هذا الدين ومنطلقه- يقوم على الرحمة والهدى والبشرى.. وهو نقيض لما تقوم عليه الروايات من شدة وغلظة وتخويف..!
ولم يقتصر هذا الأمر على الآيتين الآنفتين، بل تكرر في مواضع قرآنية أخرى، وظل المعنى هو ذاته: أنزل الله كتابه على نبيه وكلفه بالتبليغ والتبيين فقط {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} سورة النحل، الآية 44، وأضافت هذه الآية قيمة أخرى، غُيبت كثيرا من لدن التراثيين وأتباعهم؛ ألا وهي قيمة التفكر والتعقل التي حث عليها القرآن كثيرا وأوصى بها في أكثر من مكان وأكثر من سياق {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} سورة البقرة، الآية220.
حتى حين جاء دور المحرمات أمره ربه بأن يتلو على الناس ما حرم عليهم ربهم؛ دون أن يكون مسؤولا -بعد ذلك- عن التزامهم، إنه خطاب من الله إلى ضمير الإنسان، دون سلطة من أحد، فإن شاء استجاب وله وعد الله، وإن أراد تلكأ وعليه وعيد الله {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكم تتقون} سورة الأنعام، الآيتين 151/152.
ويتضح هذا المفهوم أدق وأكثر في سورة الكهف؛ حيث يأمر المولى جل وعلا نبيه أن مسؤوليته لا تتجاوز قول الحق، وللناس حرية أتباع الحق من عدمها، لهم حق الإيمان وحق الكفر أيضا {وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} سورة الكهف، الآية29.
وهذا الحق الذي أمر الله نبيه بقوله حدد له أدبيات عليه اتباعها في قوله؛ تلك الأدبيات التي غيبتها، بل وحرفتها الروايات؛ إذ أصبحت الدعوة في الغالب تتسم بحدة أصحابها وغلظتهم؛ فالدعاء على المخالف والتشنيع عليه أصبح سمة بارزة في تراث المرويات، عكس أوامر الله لنبيه وللمؤمنين من بعده {ادْعُ إِلٰى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجٰدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} سورة النحل، الآية125.
فالله لم يرسل نبيه منفرا ولا مهددا ولا قاتلا ولا مُكرِها، وإنما أرسله داعيا ومبشرا ونورا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} سورة الأحزاب، الآيتين45/46.
وعباد الله هو أعلم بهم، أعلم بضلالهم وبهدايتهم، ولم يعين لهم وكيلا ولا وصيا، ولم يعط حق محاسبتهم ولا مجازاتهم لأحد؛ فهو وحده -سبحانه- الذي يملك حق رحمتهم، وحق عذابهم {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا{/سورة الإسراء، الآية 54.
يستوي في هذا الأمر كل عباده؛ بغض النظر عن أديانهم أو معتقداتهم؛ فهو وحده المخول الفصل بينهم يوم القيامة {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{/ سورة الحج، الآية17.
فالله يدعو المؤمنين إلى قيم المحبة والسلام والرحمة.. بعيدا عن شحن التراثيين وأحقادهم التي ملؤوا بها الصحف؛ تلك الأحقاد المبنية على الكراهية والعدوانية، وهي ذاتها التي طالما دعا إليها الشيطان وحارب المؤمنين من أجلها، يقول الله تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ{ البقرة، الآية208.
ويواصل مولانا الحث على قيم الفصيلة؛ ناهيا عن العدوان وعن الاعتداء، حاثا على التعاون على البر والتقوى، وعلى أن العداوة لا ينبغي أن تجرنا -مهما كانت- إلى الاعتداء، إنها قيم الخير التي هجرناها بسبب المرويات المحرفة والمدلسة {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة، الآية 2 ويعدد الله بصريح قوله المحرمات المحدودة والمحصورة، قبل أن تتمطط وتتمدد على أيدي التراثيين.. يقوم دين الله وتقوم أوامره على التخفيف والتسهيل والرحمة والتيسير، عكس تشريعات التراثيين وقوانينهم القائمة على التعسير والغلظة والتنفير {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة المائدة، الآية3.
وقبل وجود أول الرواة بقرنين كان القرآن يخبرنا باكتماله (وكماله) حيث قال جل من قائل {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة الأنعام، الآية 115 هل يمكن بعد هذه الآية أن يرى ذو بصيرة من البخاري أو مسلم أو النسائي أو غيرهم متمما لكتاب الله ومكملا له..؟!
________
*رئيس مركز تسامح لنشر فكر التعايش والسلام