اجتماعالتنويري

مسارات التكفير والتفكير

لم أنشغل بالاهتمام بخبر وفاة الكاتبة نوال السعداوي التي اشتهرت إلكترونيا بفضل الوسائط التكنولوجية الاجتماعية أكثر من شهرتها وقت حياتها ولم أكترث بحجم المناقشات التي تعدت حدود التجاوز الأخلاقي ما بين شماتة أو سخرية لا لعدم اقتناعي بجملة أفكارها فحسب، بل لشئون أخرى تعد أكثر أهمية لأنها تتصل بواقع وطن ومستقبل أمة.

فمنذ بزوغ ثمة تصريحات دعائية بعودة العلاقات المصرية التركية على المستوى الدبلوماسي سواء كان رسميا أو عبر مناشط اجتماعية شتى، وأيضا عزم الحكومة التركية إغلاق وإيقاف البرامج المعادية لمصر حكومة وشعبا وربما أيضا غلق قنوات بعينها وتحويل مساراتها الإعلامية مثل قناتي ( مكملين ) و ( الشرق ) وغيرهما من القنوات التي أعتبرها مشبوهة المحتوى والتمويل والقصد وكل ذكريات المراجعات الفقهية التي قامت بها جماعات التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية مرورا بجماعة الإخوان المسلمين والجهاد ـ تقفز خارج مستودع الذكريات لتتمثل من جديد حقيقة مفادها أن طروحات هذه الجماعات وإن كانت بائدة بحكم التراجع الزمني إلا أننا لا يمكن إغفال وحشية وقمعية هذه الطروحات الفكرية التي قيدت حركة التفكير لعقود بعيدة لدى أنصارها.

وربما استعادت تلك الذكريات حركتها حينما قرأت على شبكات التواصل الاجتماعي أن الحكومة المصرية ربما تقوم بحركة مصالحات كبيرة مع رموز هذه الجماعات، وبات لدي تخوف كبير من ظهور التيارات الراديكالية المؤجلة زمنيا من جديد، هذا التخوف رصدته حينما طالعت الهجمة الشرسة صوب الكاتبة نوال السعداوي التي طالما طالبت بالسفور وإطلاق تصريحات مخالفة تماما لكل شرائع السماء وليست شريعة الإسلام فحسب لكن هجوم كثيرين عليها عقب وفاتها رغم يقيني بأن الآلاف لم يقرأوا سطرا واحدا لها لأنها لم تتمتع بجماهيرية القراءة كما الحال لنزار قباني أو غادة السمان أو حتى الروائية أحلام مستغانمي لكن شراسة هجوم أمراء الدم عليها واجترار تصريحاتها السابقة لفت انتباهي إلى تصاعد المد الراديكالي المتطرف من جديد.

وفكرة أن تقوم الدولة المصرية شديدة الوعي هذه الأيام بحاضرها ومستقبلها بثمة مصالحات مع أولئك الذين سفكوا الدماء واستباحوا خصوصية المواطنين وقتلوا الآلاف من ضباط الشرطة والجيش في مصر والجنود المرابطين أيضا على حدودنا الطاهرة لا آمان لهم ولا يمكن الاعتراف بمسألة تراجع أعضاء هذه الجماعات عن أفكارها لأسباب مجتمعة لا يمكن تقليص حدة الانتباه صوبها.

فعلى سبيل المثال جماعة التكفير والهجرة التي سعت إلى تقويض المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن الماضي ولا تزال عبر جنودها المترامين في الجامعات المصرية والمؤسسات التعليمية مستترين بغير ظهور علني فقط ظهورا في مناسبات متفرقة مثل اعتلاء جماعة الإخوان سدة الحكم في مصر وقيامهم بتظاهرات تطبيق الشريعة الإسلامية يوم الجمعة من كل أسبوع طيلة عام كامل، وأخيرا تحالفهم غير المبرر مع جماعة حسن البنا وقت اعتصام الجماعة في رابعة العدوية. هذه الجماعة التي ظهرت تحديدا داخل السجون المصرية عام 1971 بقيادة شكري مصطفى الإخواني السابق الذي قرر اعتزال الجماعة ومنهجها وعزمه على تكوين جماعة دموية جديدة تبث الفكر المغلوط وتشيع الرعب من جديد في ثنايا المجتمع المصري، وتذكر الموسوعة العالمية ويكيبديا عنها أنها بعد إطلاق سراح أفرادها تبلورت أفكارها واستقرت، ثم كثر أتباعها في صعيد مصر وبين طلبة الجامعات خاصة تحديدا في محافظتي المنيا وأسيوط وأظن أنهم باقون بكثرة حتى وقتنا الراهن ولا أعلم إذا ما كانت السلطات الأمنية في مصر تتبع تحركاتهم داخل الجامعات المصرية ونشر أفكارها من جديد لاسيما وجود أساتذة أكاديميين يتبعون نهج الجماعة المشبوهة، وواقتصرت أدبيات جماعة التكفير والهجرة  بتكفير الحكام على وجه الإطلاق دون رحمة أو فرصة للمصالحة والاستتابة ؛ لعدم حكمهم بشرع الله كما أنها بالغت في تكفير المحكومين وهم المواطنون لرضاهم بهم.

ولم يقتصر حد التكفير لديهم عند الحكام والمحكومين، بل تناول أيضا العلماء والشيوخ الأجلاء أصحاب الفكر الديني المستنير ؛ لعدم تكفيرهم أولئك الحكام، وتشير الموسوعة أيضا إلى أن الهجرة هي العنصر الثاني في تفكير الجماعة ويقصد بها اعتزال المجتمع الجاهلي عزلة مكانية وعزلة شعورية وتتمثل في اعتزال معابد الجاهلية – يقصد بها المساجد تحت حكم العلمانيون – ووجوب التوقف والتبين بالنسبة لآحاد المسلمين بالإضافة إلى إشاعة مفهوم الحد الأدنى من الإسلام.

وهذه الهجرة لم تكن معنى ضمنيا افتراضيا بل صار حقيقة حينما قرر أمراء جماعة التكفير والهجرة أن يبتعدوا عن المجتمع المدني ويستقروا في قلعة الجبل بالروضة إحدى قرى مركز ملوي بمحافظة المنيا ومنها أطلق أمراؤهم جهلاء العقيدة وفاسدو الرأي جملة طويلة من أحكام إهدار دم المسلمين المدنيين وعشرات ضباط الشرطة وحكموا على المجتمع المصري بالكفر والضلال.

وهؤلاء المضللون كما تذكر وثائق تأريخ جماعة التكفير والهجرة المشوهة فكريا نادوا بترك صلاة الجمعة والجماعة بالمساجد التابعة لوزارة الأوقاف ؛ بحجة أنها كلها ضرار وأئمتها كفار لا يمكن اتباعهم لا في القول أو العمل،  إلا أربعة مساجد: المسجد الحرام والمسجد النبوي وقباء والمسجد الأقصى. بل وصل الأمر ببعضهم أنهم تجاوزوا قصد التكوين لتلك الجماعة بزعهم أن شكري مصطفى أمير جماعتهم هو مهدي هذه الأمة المنتظر وأن الله تعالى سيحقق على يد جماعته ما يحقق على يد الصحابة الفاتحين.

وهذه الأفكار الضالة هي نتيجة كتابات سيد قطب الذي فشل في أن يصير مرشدا عاما لجماعة الإخوان المسلمين، وفشل في أن يكون رجلا حديديا مثل عبد الرحمن السندي أمير الدم في التنظيم السري لحركة حسن البنا، نفس فشله في أن يصبح ملهما رمزيا لحركة الضباط الأحرار 1952 التي قامت بثورة يوليو لذا فقرر أن يصبح مفجرا لفكرة التكفير وداعيا لمسألة ترويع المجتمع الإسلامي تحديدا في مصر، فقررت جماعة التكفير والهجرة عقب شكري مصطفى أن تنتهج الطريقة ذاتها لعقم التفكير والتجديد والتطوير فبات الاغتيال الجسدي سمة مميزة لهذه الجماعة، نفس الشأن لجماعة الإخوان المسلمين، وكلتاهما نجحتا في استقطاب آلاف الشباب المصري للانضمام إليهما هؤلاء اليوم الذين يقبعون خارج أسوار السجون في قاعات العلم والمساجد والمؤسسات الاجتماعية وربما ولا أدع تمام المعرفة أنهم على صلة مستدامة برموز التكفير والهجرة والإخوان المسلمين.

ولا يمكن أن نتغافل ذكر وحشية ودموية هذه التيارات دون الإطلالة السريعة على حادثة الشيخ الذهبي على يد أنصار ومؤيدي جماعة التكفير الهجرة بليدي الفكر والثقافة الدينية العميقة، فتذكر بوابة الحركات الإسلامية في تقريرها عن جماعة التكفير والهجرة واقعة اختطاف وقتل الشيخ الذهبي ( رحمه الله )  بأنه  كان عالما كبيرا ووزيرا سابقا له وزنه في المجتمع المصري بكل طوائفه وفئاته، فضلا عن حجمه الدعوي والفكري الواسع والشاهق الذي جعله يؤلف كتابا يرد به على أفكارها مبينا المغلوط والمسكوت عنه أيضا، وفي فجر يوم الأحد الثالث من يوليو لعام 1977, اقتربت سيارتان من باب بيت الشيخ الذهبي بحدائق حلوان، وتوقفت السيارة الأولى أمام باب البيت مباشرة، والأخرى على بعد عدة أمتار وأطفأت أنوارها، وقفز من السيارة الأولى خمسة أفراد بملابس الشرطة وملابس مدنية، أحدهم ضابط برتبة رائد، وفي يد أحدهم مدفع رشاش، وتقدموا نحو البيت وطرقوا الباب بعنف وقاموا باختطافه ثم قتله فيما بعد.

هذه هي سُنة تلك الجماعة وغيرها من جماعات التضليل والتكفير التي بدأت بأوسع حركة اغتيالات وتكفير للمجتمع وصولا إلى أحط أنواع الإغواء الذهني لما عرف بجهاد النكاح وجهاد الحب وغير ذلك من مسائل إرضاع الكبير والزواج من الصغيرات وقضايا لا تدل إلا على هوس محموم لدى أتباعها وأنصارها الذين لا يمكن بأي طريقة عقد مصالحات معهم بل هم يحتاجون أولا إلى تصحيح وتقويم نفسي يسبق المراجعة العقائدية والفقهية.

وأخشى أن تقوم الدولة المصرية بإعادة التاريخ من جديد عن طريق إطلاق سراح المهوسين فكريا من أمثال أنصار هذه الجماعات كما تم في عهد الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك حينما أفرج عن العشرات منهم ممن قاموا قبل دخولهم السجون بأفجر وأفظع المذابح الوحشية بحق المدنيين من المسلمين والأقباط على السواء وقاموا بحملة واسعة لاختطاف وقتل العشرات من ضباط الشرطة، ثم قاموا بخديعة وهي المراجعة الفكرية لمعتقداتهم الدينية وما هي إلا خديعة حقا لأنهم عقب انتفاضة يناير في 2011 قاموا من جديد بنشر أفكارهم المؤجلة التي ذكرتها سالفا ونجحوا من جديد في إعادة استقطاب الشباب الجامعي وضم عشرات الأساتذة الجامعيين بالجامعات المصرية لنصرة أفكارهم والترويج لها بين صفوف الطلاب فقراء الفكر والثقافة.

وما أخطر أن ينتشر فكر هذه الجماعة وغيرها من جماعات الإسلام السياسي بين صفوف الجامعيين، لأن التاريخ نفسه يظل شاهدا على اعتماد الجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين والتكفير والهجرة على طلاب الجامعة، وهذا ما جاء في التقرير الصحافي الذي جاء بعنوان ” المراجعات الفكرية : هل تكون أمل المعتقلين في السجون المصرية؟” في مارس 2020  والذي أعده كل أحمد الأزهري و أحمد مولانا وعلاء عادل و محمد إلهامي وتم ذكر كيفية استقطاب الشباب الجامعي كقوة مؤثرة في تنفيذ أوامر أمراء الدم والفتنة.

وفي التقرير يذكر المعدون له أن الجماعة الإسلامية نشأت كحركة طلابية جامعية في مطلع السبعينيات دون أن تكون لها مرجعية فكرية أو شرعية محددة ـ هكذا يقور التقرير ـ  وإنما تنوعت روافدها باتجاهات متعددة كالجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة المحمدية وجماعة التكفير والهجرة، ثم تَسَيَّسَتْ بمرور الأحداث، وتَصَدَّرَتْ قطار معارضة السادات نهاية السبعينات، وبحلول عام 1980 انقسمت الجماعة إلى 3 فئات ؛  حيث انضم أبرز قادتها بالقاهرة ووجه بحري إلى جماعة الإخوان المسلمين كعبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان وحلمي الجزار من جامعة القاهرة، وابراهيم الزعفراني من جامعة الاسكندرية، وأبو العلا ماضي من جامعة المنيا وخيرت الشاطر من جامعة المنصورة. كما انفصلت مجموعة من طلبة جامعة الاسكندرية فَكَوَّنَتْ الدعوة السلفية. بينما احتفظت مجموعة طلبة الصعيد باسم الجماعة الإسلامية.

وهذه الطوائف الثلاث نجحت بامتهار وكفاءة واستتار أيضا في تجنيد عشرات الشباب الجامعي الذي قام بعد ذلك بتنفيذ أوامر ونواهي أمراء الجماعات من قتل وترويع وتدمير، وظهروا في تسعينيات القرن العشرين مجددا حينما قاموا بمذبحة الأقصر الشهيرة. وهذه الحادثة ينبغي التركيز على إحداثياتها المتزامنة معها حيث إنها تمت عقب مبادرة وقف العنف المسلح من جانب الجماعات الدينية بخمسة أشهر فقط وهذا يؤكد منطقية عدم التصالح مع عقول باتت تؤمن بالتخريب والتقويض كفلسفة موجهة لها.

وربما لم يقرأ كثيرون ـ كثيرون جدا ـ كتاب ” نهر الذكريات المراجعات الفقهية للجماعة الإسلامية ” الصادر عن مكتبة التراث الإسلامي بالقاهرة في سبتمبر 2003  والذي ألفه أمراء الجماعاة الإسلامية وجماعة التكفير والهجرة الضالة فكريا، هذا الكتاب الذي لا يمكن قراءته إلا باتباع آليات التأويل وجماليات التلقي لهانز ياوس وريكور من أجل فهم عقلية أولئك الذين ادعوا التخلي عن مبادئهم وأفكارهم التي أرهقت المجتمع المصري لسنوات طويلة بدءا من مقدمة الكتاب حتى فصله الأخير والذي كتبه كرم زهدي ورفاقه ممن جنحوا إلى مداهنة السلطات المصرية.

فكيف يمكن أن يتقبل العقل مبادرة وقف العنف المسلح من مجموعة استهدفت كل الضباط والجنود والمدنيين باختلاف ديانتهم والتعامل معهم بمنطق التسامح والتعايش الطبيعي، وهذا ما تبين وتحقق عقب ثورة يونيو 2013 واندلاع اعتصامات جماعة الإخوان وأنصارها برابعة العدوية وكافة ممارسات العنف والوحشية ضد طوائف الشعب المصري. ففي الكتاب نطالع أن أفراد هذه الجماعات يطلعون لمستقبل مشرق لمصر الأمر الذي لم نره منهم حتى وقتنا الراهن، وأن هذه الجماعات تسعى لتحقيق مصلحة الوطن والذي يتمثل ـ حسب زعمهم ـ في الأمن والأمان. والكتاب في جملته يحتاج إلى دراسات فلسفية وتأويلية وأمنية أيضا لتحليل الطرح الفكري الذي جاء فيه والذي لم أتجاوب معه صدقه إيمانا بحجية التضليل الذي تمارسه جماعات الإسلام السياسي منذ ظهورها. وربما تتحين الفرصة لي ويتسع الوقت لإفراد دراسة مطولة عن ما جاء بالكتاب وتلك المبادرة المزيفة التي أطلقها رموز الجماعات الإسلامية في مصر

لماذا هذا السرد التاريخي الطويل لجماعات التكفير والهجرة والجهاد والسلفية الجهادية إذن ؟ الأمر لا يحتاج إلى إجابة طويلة بل هي إضاءة بسيطة ينبغي التأكيد عليها أن هناك عقول لم تستقر حركتها بعد، وهناك أشخاص هم بعينهم أمراء وشيوخ الفتنة والعنف والدم والنساء والهوس الديني الذين لم ينسوا يوما واحدا في سجنهم عن لحظة خروج للانتقام ليس من فرد بل من وطن بأكمله.

إن المستقرئ لتاريخ ويوميات وأحداث جماعات الإسلام السياسي التكفيرية وغلوها في الفعل والرأي يعي تمام الوعي وقرار الإدراك بأن رجل ما أو حفنة من الرجال قليلي الخبرة والمعرفة الدينية نصبوا أنفسهم أمراء وحكماء على عقولنا بغير ولاية أو بيعة لا يمكنهم أن يتقبلوا فكرة المواطنة السلمية وأن يظلوا مواطنين طبيعيين بغير إمارة أو سلطة تتيح لهم فرصة الأمر والنهي.. والقتل أيضا.

 

ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية ( م ).

ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا
________________
**يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة عن رأي التنويري.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة