التنويريسلايدرمكتبة التنويري

قراءة نقديَّة في كتاب مستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعيَّة الرابعة

يقول الفيلسوف الألماني “عمانويل كانط: ثمة اكتشافان أساسيان يحقّ للمرء أن يعدّهما من أصعب الأمور هما: فن حكم الناس وفن تربيتهم”،.. من خلال هذه المقولة يمكن القول بأنه لا شك فيه أن كتاب ” مستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعيَّة الرابعة قراءة نقديَّة في إشكاليَّة الصيرورة والمصير “- الصادر عن مركز دراسات الخليج والجزيرة العربيَّة بجامعة الكويت – هو واحد من المؤلفات الجادَّة القليلة التي كتبت خلال العام الماضي (2020) في مسألة الإصلاح التربوي في نظام التعليم العالي الخليجي. ولعل الجدّيَّة تأتي من كون الكتاب استطاع أن يفلت من عمل التأريخ والتصنيف للإصلاح التربوي في النظام التعليمي منذ عصر النهضة الخليجيَّة، ليصبح بالفعل تأمّلاً وتفكيراً في تلك النهضة الخليجيَّة ذاتها: بين ما كان منتظراً منها، ومأمولاً فيها، وبين ما انتهت إليه بالفعل.

هذا يعني أن الكتاب استطاع أن يكون، بالفعل، وكما يصفه صاحبه ” قراءة نقديَّة في إشكاليَّة الصيرورة والمصير”؛ أي أنه استطاع أن يرقي من مستوى التأريخ إلى مستوي التفكير النقدي. فحيث يتّخذ عمل التأريخ طابع الجرد والإحصاء للتيارات والمذاهب المختلفة ( وهي الصفة التي طغت على المؤلفات التي تناولت موضوع الإصلاح التربوي في نظام التعليم العالي الخليجي المعاصر)، يسعى عمل التفكير النقدي لكي يكون على العكس من ذلك عمل تساؤلات ومراجعات مستمرَّة لأوجه النظر المعروضة أمامه. وحيث يكون هم الأول إرجاع الآراء والمواقف العديد إلى تيارات ونزعات يسهل حصرها والحديث عنها، يريد الثاني من ذلك الفكر أن يكون جواباً عن الأسئلة التي يطرحها المثقَّف واقعه الحالي الذي يعيش فيه.

يمكن القول بتعبير آخر بأن الأول يحيله إلى ” ماض” فكري وحضاري، ومن ثم فهو يدرجه في عداد نوع من الثقافة الموسوعيَّة التي تطلب لذاتها، في حين أن الثاني يحكم بالصلة القويَّة التي تربطه بالحاضر الذي يعيش فيه، ومن ثم فهو يريده حياً و” حاضراً” يحاوره حول المشكلات السياسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة التي يحياها، ويسعى إلى إيجاد الحلول الملائمة لها.

طبيعي أن مسألة الموافقة على الآراء التي يطرحها فكر ” النهضة الخليجيَّة”. وكذلك رفضها كلياً أو جزئياً أمران غير واردين. هناك إيمان بجدوى هذا الحوار، بل وبحتميته في المرحلة التاريخيَّة الراهنة بالنسبة للمثقَّف العربي عامَّة والخليجي؛ خاصة من أجل اكتساب الوعي الضروري. هذه أحد الموجهات الكبرى في تفكير الأستاذ الدكتور ” على أسعد وطفه”، ليس في كتاب ” مستقبل التعليم العالي الخليجي” فحسب، وإنما أيضا في غالبيَّة كتبه التي كتبها من قبل.

ومن عادتي عند قراءة كتاب لا أعرف محتواه، أن أخمِّن موضوعه من عنوانه، وغالباً ما يكون تخميني صحيحاً؛ فحسب علمي لم يكتب قبله كتاب في موضوع الإصلاح التربوي في نظام التعليم العالي الخليجي المعاصر، وشرح أفكاره بطريقة نقديَّة، وهذا واضح من خلال التوجّه التي سار عليه الدكتور علي وطفة عندما استشهد بكلام أينشتاين في مقولته الشهيرة: ” لا نستطيع حل المشاكل المستعصية بنفس العقليَّة التي أوجدتها (1)، وهذا يعني في نظر المؤلف أنه لا يمكن حل أي مشكلة من المشاكل التي تواجهنا بنفس المستوى من الوعي الذي كنا عليه عند تشكيلها (2).

يشكل كتاب الدكتور علي أسعد وطفه: ” مستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعيَّة الرابعة قراءة نقديَّة في إشكاليَّة الصيرورة والمصير” إنتاجاً علمياً يتَّصف بطابع الأصالة والتميز. وهو إذ يغني المكتبة العربيَّة. فإنه يشكل إضافة نوعيَّة في الفكري التربوي العربي المعاصر. ويقع في ( 250 ) صفحة من القطع الكبير، ويتوزع مضمونه في جانبين أساسيين: أحدهما نظري، يبحث في مختلف جوانب العلاقة بين التعليم العالي، وبين معطيات الثورة الصناعيَّة الرابعة، وثانيهما: ميداني يتم فيه استعراض آراء عينة من المفكرين والخبراء وأساتذة الجامعات حول الكيفيات التي يمكن فيها للتعليم العالي في دول الخليج العربي أن يستجيب للتطورات الحادثة في مجال الثورات العلميَّة المشكلة للثورة الصناعيَّة الرابعة، كما اعتمدت الدراسة في معالجتها لهذه المسألة على منظومة متكاملة من المؤشرات العلميَّة والأكاديميَّة لبحث طبيعة العلاقة الجدليَّة بين التعليم العالي ومعطيات الثورة الصناعيَّة مثل: الابتكار، والإنفاق على البحث العلمي، وبراءات الاختراع،، والحريات الأكاديميَّة، واستقلال الجامعات، وتمويل البحث العلمي (3).

في هذا الكتاب استطاع المؤلف أن يعرض لموضوع مستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعيَّة الرابعة، بمنهج يعالج ما أغفلته الدراسات التي تناولت عن مستقبل التعليم العالي الخليجي، ووفقا لفهم المؤلف لنصوصه وتأويلاته، فقد أدى ذلك إلى أن يقول المؤلف بآراء تخالف كثيراً من الآراء التي تضمنتها بعض الدراسات السابقة، على أنه لم يكتف بمجرد العرض التقريري، بل والنقدي أيضاً في مسألة، مع مقارنتها بمن سبقها من آراء، ثم الكشف عن انعكاساتها وآثارها فيم جاء بعدها، وهو في معالجته هذه آثر استخدام المنهج التحليلي النقدي، من حيث يعتبر في نظر المؤلف على أقل تقدير –أنسب المناهج وأشدها ملائمة لطبيعة الموضوع وغاياته، فبالتحليل استطاع المؤلف أن يستنطق النص فبعث فيه الحياة من جديد، فحدثه بعد صمت وتحول من حالة كونه شيئاً جامداً إلى صيرورته كائناً حياً ينبض بالمعاني والدلالات التي تظهر بعد كمون، ونشأت علاقة حميمة بينه وبين المؤلف الدكتور علي وطفه، يفيد منها هذا ما ظهر من النص وما بطن.. وبالنقد استطاع المؤلف من خلال المنهج النقدي أن يبرز لنا خطة استراتيجيَّة ممنهجة – مرسومة قائمة على إشكاليَّة الصيرورة والمصير، حيث استرشد بهما أثناء تقويمه لمستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعيَّة الرابعة، ومن هنا جاءت منهجيَّة المؤلف النقديَّة في متمثلة في نوعين هما: نقد وصفي علمي، ونقد معياري تقويمي، علاوة على استخدامه لمنهجين نقديين آخرين هما: منهج يركز على النص من الداخل؛ كالمنهج البنيوي، والسيميوطيقي، ومنهج يركز على الخارج، كالمنهج التاريخي، والاجتماعي، والمنهج النفسي.

ومن هنا جاء هذا الكتاب ليمثل محاولة جادة لتقديم رؤية معاصرة لمستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعيَّة الرابعة، حيث تمكن المؤلف من أن يعالج مدى قدرة هذا التعليم على التجاور مع متطلبات المستقبل في معترك الثورة الصناعيَّة الرابعة بعد أن قدمها المؤلف في نسيج فكري يحمل طابعاً فلسفياً، وهذا الطابع يتصف بالعمق والأصالة والجدة، وهو في مسار هذا العمل يتفرد برؤية عصريَّة تتكامل فيها الحداثة التربويَّة بمعطيات التراث الفكري العربي الإسلامي بكل ما تنطوي عليه هذ الفكر من أصالة ومرونة وطاقة إنسانيَّة خلاقة.

في هذا الكتاب نجد أنفسنا إزاء خطاب تربوي يتشبع بعطاءاته الإبداعيَّة التي تدور حول مستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعيَّة الرابعة، التي شهدت تغيرات عاصفة، لم يشهدا لها التاريخ الإنساني مثيلاً من قبل، إنها عاصفة شديدة الوطأة بكل ما عرفته الإنسانيَّة من خبرات وتجارب وأنظمة وأفكار وقيم، وسقوط مروع لكل الأنظمة الفكريَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التقليديَّة التي عرفتها الإنسانيَّة عبر تاريخها المديد؛ وتتجلى هذه الثورة كما يقول المؤلف: ” في ضوء اندماج شامل بين أنساق متدافعة من الثورات العمليَّة في مختلف مظاهر الحياة الإنسانيَّة والمعرفيَّة، لتأخذ مشهداً تتقاطع فيه الثورات المعرفيَّة والعلميَّة بالطفرات التكنولوجيَّة ولتشكل في الوقت نفسه هيئة نظام كوني معقد فائق الذكاء يفوق كل ما أبدعته الإنسانيَّة من حكايات وأساطير وأوهام. إنه نظام يقوم على حالة من التزاوج الكامل بين الذكاء البشري والذكاء الآلي بطريقة عبقريَّة ليس لها مثيل أو نظير (4).

فالمؤلف وعبر نقلة علميَّة – تكنولوجيَّة تتصف بطابع الجدة، يستنفر أجمل المكونات التاريخيَّة لمستقبل التعليم العالي الخليجي في ثلاثيَّة واضحة المعالم تتمثل في الإنسان والمجتمع والعمل التربوي. وفي نسيج هذه الرؤية الثلاثيَّة ينهض جدل عميق يقوم على قراءة نقديَّة للتاريخ والإنسان والمجتمع والعمل التربوي. وهذه القراءة النقديَّة تنضج في بوتقة الثورة الصناعيَّة الرابعة، والتي فرضت علينا كما يقول المؤلف: ” تحديات جسام ” (5)، تلك التحديات التي أجبرت التاريخ بأن يعلم (رغم عن أنفه) أن العلاقة بين الثورات الصناعيَّة المتتابعة وبين أنظمة التعليم العالي، كانت وما زالت تأخذ صرة تفاعل مستمر شديد الوطأة ستصف بالعمق والشمول. ومما لاشك فيه أن التعليم العالي كما يقول المؤلف جاء تاريخياً تعبيراً عن إرادة التغيير في المجتمع، وذلك في الوقت الذي كان فيه وما زال نتاجاً لفاعليَّة التغيير في مختلف تطور المجتمعات الإنسانيَّة الحديثة (6).

وتأسيساً على ما سبق يمكن القول مع المؤلف الدكتور علي وطفة بأنه من الواجب على الأنظمة التربويَّة في العالم أن تطور استراتيجيات جديدة لمواجهة مختلف التحديات الناجمة عن الثورة الصناعيَّة الرابعة، ولا سيما تحديات اختفاء الوظائف والعمل على تأهيل الناشئة تأهيلاً مستقبلياً يعتمد على احتمالات الذكاء الصناعي، وتمكين الناشئة من الخبرات والمهارات والمعارف التي يمكنها أن تواكب حركة التطور التكنولوجي الهائل في العقود القادمة من القرن الحادي والعشرين (7).

وضمن هذه الصيرورة فإن الجامعات في العالم المتقدم تستجيب لهذه الثورة وفق ثلاث مستويات كما يذكر المؤلف (8):

أولاً: تقوم الجامعات بالتجاوب مع هذه الثورات بالاستفادة من معطياتها التربويَّة كإدخال التكنولوجيا الجديدة في مناهج التعليم وتوظيف الإنترنت وتقنياته في عمليات البحث والتدريس، وكذلك الحال في الاستفادة من معطيات التعليم الافتراضي في تطوير العمليَّة التعليميَّة.

ثانياً: تقوم الجامعة بتنمية وعي الطلاب بمنجزات الثورة الصناعيَّة وتحدياتها وفرصها وتقدم لهم تصورات عن الكيفيَّة التي يمكن فيها للفرد والمجتمع التجاوب والتفاعل العقلاني مع معطياتها.

ثالثاً: تواكب الجامعة مختلف التطورات المستقبليَّة للثورة الصناعيَّة الرابعة وتعمل على تطوير تكويناتها وهيكلياتها وإستراتيجياتها لمواكبة إنجازات هذه الثورة الفائقة. ولا سيما فيما يتعلق بتأهيل الطلاب لوظائف المستقبل وتمكينهم من القابليات والمهارات التي تجعلهم قادرين على مواكبة العصر الجديد.

وفي مواجهة تحديات هذه الثورة المنفتحة على وعود ومخاطر كثيرة كما يرى المؤلف تثور حول جدليات التفاعل بين التعليم العالي الخليجي وتحديات الثورة الصناعيَّة الرابعة، ومن أهم هذه الأسئلة، هذا السؤال: أين جامعاتنا في سيناريو التفاعل مع الثورة الصناعيَّة الرابعة وفي أي مستوى من المستويات الأربعة تقف هذه الجامعات وتفعل فعلها؟ (9).

وفي معرض الإشارة إلى موقع جامعاتنا في السياق التاريخي يؤكد المؤلف بأن الجامعات الغربيَّة العريقة فد استجابت تاريخياً لمعطيات الثورة الصناعيَّة الثلاثة الماضية وتفاعلت مع كل مستجداتها، وهي تتأهَّب اليوم وتتفاعل مع معطيات الثورة الصناعيَّة الرابعة في مختلف الاتجاهات والمستويات. وبالمقارنة مع الجامعات الغربيَّة يصل الكاتب إلى حقيقة مهمة وهي أن الجامعات حديثة العهد وقد أسَّست في معظمها مع بداية الثورة الصناعيَّة الثالثة ولم تعاصر أو تتفاعل مع أي من الثورات السابقة على الإطلاق لا في مجال الإبداع أو الابتكار أو التجديد.

ومن هنا جاءت إشكاليَّة الدراسة عند المؤلف، وذلك من خلال التحديات التي فرضتها الثورة الصناعيَّة بمعطياتها الحضاريَّة الجديدة تحدياً إنسانياً لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني، وذلك لما تنطوي عليه من عناصر الجدّة والإثارة والقدرة على تغيير طبيعة الأشياء، إنها ثورة في كل شيء وعلى كل شيء يدور في فلك المجتمعات الإنسانيَّة (10)، وإزاء هذا التدفق في الاندفاعات الخاطفة المتسارعة للثورات العلميَّة والتكنولوجيَّة في زمن الثورة الصناعيَّة الرابعة يقف العلماء والباحثون كما يخبرنا المؤلف الدكتور علي وطفة – في كثير الأحيان- عاجزين عن تقديم تصورات واضحة عن الوظيفة الجديدة للتعليم العالي ودوره في الحضارة الجديدة أي في زمن الثورة الصناعيَّة الرابعة. وإزاء هذا التسامي الثوري في عالم المعرفة والحضارة والإنسان، ثمة أسئلة جوهريَّة طرحها الكاتب بقوة على المفكرين والباحثين، ومنها: هل تستطيع الجامعات الخليجيَّة ومؤسَّسات التعليم العالي في دول الخليج العربي مواجهة التحدّيات الكبرى المتوقّعة التي تفرضها هذه الثورة الصناعيَّة الكبرى؟ ويلامس هذا السؤال كما يقول المؤلف مختلف جوانب التعليم العالي في الخليج العربي فيما يتعلق باستراتيجياته المعتمدة، ومستوي الإنتاج العلمي، ودرجة ممارسة الحريات الأكاديميَّة، ومدى الاستقلال الذاتي لهذه الجامعات وغيرها من العوامل الأكاديميَّة.

وقد بين المؤلف في دراسته بصورة واضحة القصور الكبير في أنظمة التعليم العالي، وعدم قدرته بأوضاعه الحالية على التجاوب مع معطيات الثورة الصناعيَّة الرابعة. وبناءً على هذه التصورات استطاع الكاتب في دراسته أن يخرج بعدد من التوصيات والمقترحات التي جاءت من خلال التفاعل مع الدراسات وآراء الخبراء والباحثين والتي يمكن في حال اعتمادها النهوض بالتعليم العالي إلي مستوى القدرة على التجاوب الفعال والنشط مع المستقبل الذي تفرضه الثورة الصناعيَّة الرابعة.

ويمكن أن نقتطف جزءًا من هذه من التوصيات والمقترحات التي أبرزها المؤلف الدكتور على وطفه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر (11):

1-أن تتبني الدول الخليجيَّة مشروعا حضارياً ينطلق من التأكيد على دور الجامعات ومؤسَّسات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي.

2-التأكيد على أهميَّة التكنولوجيا الرقميَّة وربط التكنولوجيا بجميع ممارستنا التعليميَّة والإداريَّة حتى إنه يتوجَّب عدم قبول أي ممارسة ما لم تكن قائمة على التكنولوجيا من وسائل تواصل ومراسلات وتدريس واختبارات ومشاريع وغيرها.

3-استحداث مقررات دراسيَّة وتخصّصات دراسيَّة جديدة متخصّصة في مجال الثورة الصناعيَّة الرابعة تكون قادرة على مواكبة المرحلة القادمة من مستقبل الثورة الصناعيَّة القادمة.

4-تنمية مهارات التفكير العليا والتفكير الناقد وحل المشكلات وتنويع طرق التدريس والفعاليات الأكاديميَّة.

5-إعادة النظر في فلسفة التعليم الجامعي ومناهجه، وإعادة النظر إلى أهداف التعليم العام وسياساته واستراتيجياته والتركيز على أسلوب التعليم الذاتي والتشجيع عليه منذ المراحل الدراسيَّة الأولى ونقل الطالب من دور المستمع السلبي إلى الدور الفاعل الناقد.

6- تطوير السياسات التربويَّة والتعليميَّة في البلدان العربيَّة ووضع استراتيجيات فعالة للتعليم العالي والجامعي لتكون قادرة على مواجهة ومواكبة الثورة الصناعيَّة الرابعة.

ومن خلال تلك الرؤى الاستشرافيَّة لمستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعيَّة الرابعة، يتساءل الكاتب: كيف يمكن للجامعات الخليجيَّة أن تؤدِّي دورها المطلوب في عمليَّة النهوض الحضاري؟ وكيف يمكنها أن تُحدث التغيير المرغوب والمطلوب لمواجهة تحديات القدام من السنين؟

هنا يجيبنا المؤلف قائلاً: من المؤكَّد أن جامعاتنا الخليجيَّة تحتاج إلى إصلاحات كبرى جوهريَّة، وقد حان الوقت لعمليَّة جراحيَّة كبرى لإصلاح جذري يمنح هذه الجامعات استلالها المفقود وقدرتها المستلبة، حان الوقت لتحرير هذه الجامعات من أغلالها وتكسير أصفادها وتحطيم قيودها، حان الوقت لترسيخ الحريات الأكاديميَّة التي تمثل الروح الحقيقيَّة لأي مؤسَّسة أكاديميَّة، حان الوقت لتحويل هذه الجامعات إلى مؤسسات بحثيَّة معنيَّة بالإنتاج العلمي أولاً وأخيراً، حان الوقت لتحويل هذه الجامعات من مدارس كبرى تعليميَّة إلى مؤسسات علميَّة فاعلة منتجة للعلم والمعرفة، وقد أزف الوقت للانتقال بها من كونها مؤسسات علميَّة فاعلة منتجة للعلم والمعرفة، وقد أزف الوقت للانتقال بها من كونها مؤسسات لنقل المعرفة إلى مؤسَّسات لإنتاجها وتوظيفها، وهذا يعني أنه يجب عليها أن تتحول من مرحلة نقل المعلومات واكتسابها إلى مرحلة الاقتصاد المعرفي، حان الوقت لكي تتحول هذه الجامعات إلى مؤسسات إبداعيَّة تخطط للمستقبل وترسم حدوده وتشارك في إنتاجه، حان الوقت كي تتحول إلى مؤسسات فاعلة في مجتمعها والتحرر من حالة الانفعال بسلبياتها والتداعي تحت وقع أزمانها (12).

ومن الطبيعي أن هذه الجامعات لن تقوي أبداً على مواجهة مصيرها الحضاري كما يرى الكاتب دون إرادة مجتمعة خلاقة فاعلة ونشطة، إذ لا بد من مشروع سياسي اجتماعي هائل يستطيع أن يضع هذه الجامعات في مساراتها الحضاريَّة وأن يتحرك بها إلى منصات الانطلاق التاريخي نحو النهوض الحضاري بمجتمعاتها. ويترتب عليه أن أيَّة محاولة للنهوض بالتعليم العالي والجامعات يجب أن تكون شاملة عامة وعميقة وتشمل كل الجامعات والمؤسسات دون الاقتصار على هذه أو تلك من الجامعات كما يحدث اليوم، إن دخول جامعة ما أو جامعتين أو خمس في التصنيف العالمي للجامعات في نظر الكاتب لا يعني إطلاقاً أننا حققنا تقدما في النهوض بالتعليم، بل يكون النهوض بعمل حقيقي هادئ صامت مستمر خارج إطار التصنيفات العلميَّة بدون ضجة أو ضجيج أو صخب إعلامي، عمل يبدأ بوضع إستراتيجيات حقيقيَّة ليست كهذه التي ترتسم على الورق بل تلك التي تتحول إلى قوَّة حيَّة وحيويَّة في عمق مؤسساتنا التعليميَّة. وعندها نستطيع أن نقول بأن التعليم العالي بدأ يتجه نحو مساراته النهضويَّة وأن يستجمع في ذاته القدرة على النهوض للمشاركة في المستقبل وصناعته أيضا (13).

وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول بأن هذه القراءة ليست قراءة في كتاب “مستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعيَّة الرابعة قراءة نقديَّة في إشكاليَّة الصيرورة والمصير”، ولا عرض لمحتوياته، إذ إن ذلك يتطلب مقالات عديدة، وإنما هي تحيَّة للمؤلف الأستاذ الدكتور على أسعد وطفه، الذي قدّم للمكتبة الخليجيَّة (والعربيَّة أيضاً) هذا المصدر المبتكر والأصيل؛ ومن ثم يبقى هذا الكتاب مبتكراً جديداً في موضوعه وطريفاً ممتعاً للقارئ والكاتب على السواء.

ويسرني في نهاية هذه القراءة أن أبارك للأستاذ الدكتور على أسعد وطفة تأسيسه لموضوع جديد يهم الكاتب والمؤلف؛ خاصة وأنه يعد قامة، وقيمة علميَّة، وأخلاقيَّة كبيرة، على المستوى العلمي، والمستوى الشخصي أيضاً، لأنه دائماً كان يمد يد العون، لمن يعرف، ولمن لا يعرف صغيراً وكبيراً؛ كما يتميز بدماثة الخلق، وحسن المعاملة مع أصدقائه وزملائه في العمل، وأنه كان يسعى دائماً إلى تحقيق هدف سامى ونبيل، وهو جبر الخواطر، وأن يجمع بين الصدقة الجارية، والعلم الذى ينتفع به.

وقد شهد له كل من عرفه بأنه نعم الرجل الذي في نظرته حنان، وفي قلبه تواضع، وهو ذو شخصيَّة إنسانيَّة طاغية، حانيَّة، حاضنة، وذو بصيرة ناقدة، وشخصيَّة بناءة إيجابيَّة متفائلة، وقلب مفعم بحب البشر، كرس حياته للدفاع عن الإنسان، وإبراز كرامته وقدسيته روحياً ودينياً، حضارياً وثقافياً، اجتماعياً ومادياً.

وهنا يمكن القول مع محمد الإدريسي (وذلك في حواره معه) بأن علي وطفة يعد واحدا من علماء الاجتماع العرب الذين بذلوا جهوداً رائدة في مجال البحث العلمي في العالم العربي؛ ولا سيما في قضايا التربية والمجتمع، عبر مسار بحثي يناهز ثلاثة عقود ونيف من الزمن. وتتوزع إنجازاته العلميَّة بين عشرات الكتب والمقالات التربويَّة والسوسيولوجيَّة التي تعد مرجعاً لا غني عنه لكل باحث ومهتم بشؤون التربية العربيَّة من منظور العلوم الاجتماعيَّة، كما أنه قدم ترجمات لأمهات المقالات والكتب المؤسسة للفكر التربوي والسياسي العالمي من اللغتين الفرنسيَّة والإنجليزيَّة إلى العربيَّة.

وحتى لا يطول بنا الحديث أقول في نهاية حديثي تحيَّة طيبة لأستاذنا الدكتور ” على أسعد وطفة”، الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج، هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهيَّة الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيَّة أخرى لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ، وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

الكتاب من إصدار مركز دراسات الخليج والجزيرة العربيَّة بجامعة الكويت لعام 2020.

الهوامش:

1- أ.د. على أسعد وطفه: مستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعيَّة الرابعة قراءة نقديَّة في إشكاليَّة الصيرورة والمصير، مركز دراسات الخليج والجزيرة العربيَّة، سلسلة الإصدارات الخاصة، سلسلة علميَّة محكمة، العدد 47، الكويت، 2020، ص 191.

2- نفس المصدر، ص 192-192.

3- نفس المصدر، ص 11-12.

4- نفس المصدر، ص 13.

5- نفس المصدر، ص 15.

6- نفس المصدر، ص 15-16.

7- نفس المصدر، ص 19-20.

8- نفس المصدر، ص 20-21.

9- نفس المصدر، ص 21.

10- نفس المصدر، ص 23.

11- نفس المصدر، ص 193-195.

12- نفس المصدر، ص 204.

13- نفس المصدر، ص 204.

__________

*أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بكليَّة الآداب وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة