إبراهيم فرغلي كاتب مصري مشغول بالغوص في أعماق المجتمع المصري والعربي يمتاز أسلوبه برقَّة بالغة تستعيد رواية “قارئة القطار” التي صدرت للروائي ابراهيم فرغلي مؤخّرًا عن الدار المصريَّة اللبنانيَّة من جديد أسئلة الهويَّة والذاكرة وعلاقة الإنسان بجذوره.
ولعلَّ تأثير شعراء كانت الهويَّة والأصالة شاغلهم واضح في بنية الرواية فنجد روح عبد الرحمن الأبنودي وصلاح جاهين وأمل دنقل حاضرة حتى أنَّه استهلَّ الرواية باقتباس من أمل دنقل (مصفوفة حقائبي على رفوف الذاكرة والسفر الطويل يبدأ دون قاطرة) في الرواية نرى تأثير الواقع في الوطن العربي بين عالمين حقيقي وعالم غير حقيقي موازٍ له في العالم غير الحقيقي عالم يعكس عدم إدراك العرب لقيمة الوقت ومشهد سيدة عارية وعمياء تقرأ كسيحة فكأن العرب هم من يتوهّمون بالقراءة وعاجزون عن الفعل والعالم يراهم عراة ولا يرون أنفسهم.
تسعى الرواية إذا عبر حكاية غرائبيَّة مشوّقة لاستعادة أجواء الثورة العُرابيَّة، حيث وجدت مصر نفسها في الربع الأخير من القرن الـ 19 عند مفترق طريق.
وفي الرواية، لا يختلف مصير الوطن عن مصائر أبطاله، فكما كان الاحتلال الإنجليزي للبلاد أشبه بتغريبة طويلة عاشتها مصر، فإَّن محمود الوهم وفاطمة بطلَيْ قصَّة الحبّ في الرواية يعيشان تغريبه من نوع مختلف عندما يأتي الاحتلال ويصل آمالهما في النهوض من كبوة الفقر والتحرُّر من واقعهما المكبَّل بالتقاليد إلى محطَّة الخذلان والأسى وهي المحطَّة نفسها التي انتهى عندها أمل أحمد عرابي.
فقدان الذاكرة للراوي هنا هو فقدان الوطن للاستفادة من تجارب الماضي وعدم تكرار فشل الثورة العرابيَّة أم هو تذكير بفشل الثورات العربيَّة في تحقيق أهدافها.
يركِّز إبراهيم فرغلي على العوالم الغرائبيَّة في العديد من رواياته وهي التي قاربها في “معبد أنامل الحرير” دون أن يتخلَّى عن انشغاله بموضوع الذاكرة كما تجَّلى في روايته “أبناء الجبلاوي” أو سؤال الهويَّة الذي طرحه في روايته “جنيَّة في قارورة “، لكن ما يتجلَّى في الرواية الجديدة يمضي خطوة أبعد في تبنِّي اختيار أسلوبي جديد يقوم على استثمار الأجواء الكافكاويَّة وتقنيات السرد الغرائبي كما نعرفها عند الكاتب الأرجنتيني بورخيس وفي تراث “ألف ليلة وليلة “ليقدِّم رواية تتَّسم بالتشويق والمغامرة والانتقال السلس بين مسارين سرديين .
يركِّز المسار الأول على البطل الذي يسعى اللحاق بقطار قبل أن يفقد ذاكرته، وداخل عربات القطار يكتشف أنّه تورط في عالم مغلق لا يملك حتى حقّ الفرار منه، ويجد نفسه في مواجهة قارئة لها ملامح غريبة تدعى “زرقاء”، تمسك بكتاب تقرأ فيه ولا تغادر مكانها أبدًا في قطار يخلو من المسافرين.
وتُخبره القارئة أنّها تقرأه كي لا يتوقَّف القطار وأنَّ عملها الوحيد منع القطار عن التوقّف. وعبر حواراتهما معًا تروي “قارئة القطار” للراكب قصّته الشخصيَّة التي نسيها. ليقف القارئ أمام لغز آخر من شقيقتها “ذكرى” التي تختفي فجأة لتزيد من ألغاز القارئ، أمَّا المسار الثاني فيتعلَّق بحكاية محمود الوهم وفاطمة اللذين التقيا بالأقصر على مركب كان في طريقه للقاهرة، وجمعت بينهما قصَّة حبّ لم تكتمل صاغت لهم تغريبة المصير المشترك في لحظة كانت تزدهر فيها آمال الثورة.
وعبر صفحات الرواية يدرك القارئ أنه أمام سرديَّة تؤرِّخ لنوع من القهر تعرض له المصريون الفقراء وسبيكة تاريخيَّة تربط بين مصائر الأفراد بحركة التاريخ العام. وتحتفي الرواية بالمعرفة، وتحتفل بلعبة الحواس.
وإبراهيم فرغلي، يعيش في الكويت ويعمل في مجلة العربي الكويتيَّة، ونشر له عدد من الروايات والمجموعات القصصيَّة من بينها روايات (كهف الفراشات، وثلاثيَّة روائيَّة بعنوان جزيرة الورد تضم روايات: ابتسامات القديسين، وجنيَّة فى قارورة، ومفتاح الحياة، ثم أبناء الجبلاوي، ومعبد أنامل الحرير، وثلاث مجموعات قصصيَّة: باتجاه المآقي، أشباح الحواس، شامات الحسن، وفى مجال الكتابة للأطفال والناشئة: ثلاث روايات للفتيان)، ونال جائزة ساويرس الأدبيَّة فئة كبار الكتَّاب لدورتين، كما رشّحت روايته “معبد أنامل الحرير” ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربيَّة دورة العام 2015 / 2016، وترجمت بعض أعماله إلى الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة .
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.