الإسلام دين ودولة، شعار أثير لدى الإسلاميّين على مختلف مشاربهم وأطيافهم ومذاهبهم، غير أنّ مفهوم الدولة كما مفهوم الدين قد خضع، شاؤوا أم أبوا، إلى تغيّرات جوهريَّة في مستوى التصوّر، وفي مستوى الممارسة. هذا يقودنا حتمًا إلى مفهوم هويَّة الإنسان المسلم، أهي الصورة النمطيّة نفسها التي كثيرًا ما تروّجها المنظومات الفكريَّة الاستشرافيَّة فضلا عن الآلة الإعلاميَّة والسياسة الغربيَّة؟ أم أنّ المسلمين حالهم حال المجتمعات الأخرى ومنها الغربيَّة هويّات في هويَّة كبرى واحدة؟
ليست الجماعة المسلمة جماعة موحّدة تماما، ينبغي الاعتراف بذلك، وإلا فما الذي يجعل هذه الجماعة غير منسجمة، بل متقاتلة متصارعة على أحقيّتها في تمثيل وحيد وصحيح للإسلام؟
أعتقد أنّ الإسلام استطاع أن يخلق سرديّة كبرى خاصّة به تختلف عن السرديّات الثقافيَّة للحضارات الأخرى، فالعلوم نشأت في كنفه علوم ذات نشأة دينيَّة، وهي بمجملها تشكِّل هذه الشرديّة الكبرى الخاصّة بالحضارة الإسلاميَّة، فإذا ما أردنا الحديث عن هويَّة إسلاميَّة ويجب علينا أن نضع في حساباتنا هذه السرديَّة الكبرى، وهي قائمة على مجموعة أمور: منها ما يتعلّق بالطابع الأخروي للحياة الإنسانيَّة، فكل ما يصنعه الإنسان وتتحرَّك به المجتمعات ينطبع أو ينعكس في بعدٍ آخر يتعلّق بحياةٍ أخرى، إذن يلحّ الإسلام في سرديّته الكبرى على التكليف، فليست رحلة الأنبياء إلى أرض الناس الاعتياديين إلى تكليفهم بمقتضيات تتعلّق بهذين البعدين الدنيوي والأخروي، فليس الإكراه والجبر من أي نوع كان وبأي متعلّق كان من صميم السرديّة الكبرى للإسلام، كلا، بل إنّ الهويَّة الإسلاميَّة تتوسّل العرفان بوصفه أكمل الطرق إلى الحقّ، وتجعل الشريعة العروة الوثقى للحيلولة دون الوقوع في منزلق الخطيئة والضعف البشري، وبهما معا يتألّف النظام الإسلامي.
غير أنّ الصورة ليست هكذا دائما، ففي هذا الفهم شبه العلماني للإسلام، يكمن مشكل كبير يتمثّل بكون المسلمين قد أنتجوا نظامًا هرميًّا للسلطات قائمًا على نموذج بطرياركي، فالخلافة والسلطان الإسلامي مبسوط اليد في الجهات كافة، والاستبداد لوثة شرقيَّة بامتياز، ونمط الإنتاج آسيوي شرقي تمتدّ إليه يد السلطة في مفاصله كلّها، ممّا جعل الحقيقة العرفانيَّة نمط حياة جماعات هامشيَّة تتهرّب من الواقع وتعانق المثال على الطريقة الرومانطيقيّة. كما أنّ الشريعة هي الأخرى، أصبحت ملوية العنق لصالح رغائب السلطان، ولم تستطع المجتمعات الإسلاميَّة الحديثة أن تتخلّص من هذه الصورة لأسباب كثيرة تمتدّ من البنية الفكريَّة وتمر بالبنية الاجتماعيَّة ولا تنتهي بالطبيعة الاقتصاديَّة لهذه المجتمعات.
اليوم ينقسم الإسلام على نفسه أمام تيارين كبيرين يتنازعان هويّته: تيّار إسلام النموذج البطرياركي بأفقه المعرفي وأخلاقه القائمة إلى الرجوع إلى الماضي الكامل المقدّس، وتيّار إسلام ليبرالي قائم على تحديث المعارف ومصالحة معطيات الحضارة الإنسانيَّة الحديثة التي صنعها- شاء من شاء وأبى من أبى- الغرب بامتياز.
__
*الراصد التنويري/ العدد الخامس (5)/ صيف 2009.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.