“أفتح نوافذي لكل رياح العالم لكن دون أن تقتلعني من جذوري”/ غاندي:”كل البشر إخوة”.
“بقدر ما تكون ثقافة ما معزولة، لا يمكنها أن تكون متفوّقة”/ كلود ليفي – ستراوس:”العرق والتاريخ”.
مقدّمة:
يتعرّض هذا البحث إلى مسـألة الهويّة في مساراتها بين هوس الخصوصي ورهان الكوني، وهي مسألة من أعقد المسائل التي يواجهها الخطاب المعاصر في مجال الفكر الأنثروبولوجي والسياسي، من حيث هي مفهوم علامة، وتعبيرة وخطاب، وعلامة انتماء، وعنوان تميّز حضاري، تمّ النّظر فيها من منطلقات فكريّة وفلسفيّة وتاريخيّة، وحتّى أنثروبولوجيّة وسوسيولوجيّة مختلفة. ولكنّها ماتزال مدار بحث ودراسة تختلف بشأنها المقاربات([1]).
إنّها مجال شاسع رحب يشمل كلّ أوجه التّفكير الإنسانيّ ويتّسع إلى طرق حياة الشّعوب وسلوكات الأفراد والمعايير والقيم والابتكارات والانجازات التّي جاد بها العقل البشري و قريحة الإنسان في مختلف العصور([2]).
تساوقا مع ما ذهب إليه أستاذي الجليل كمال عمران ذات مرّة في هكذا عبارات آسرة من لدنه.
ولعلّ من أجلى مظاهر كثافة الاهتمام بمسألة الهويّة هو حضور هذا المفهوم الإشكالي قطبًا أساسيّا في ثنائيّات مختلفة واجهها الفكر العربي والغربي المعاصر، وتمحورت حولها الكثير من الطروحات، ومن هذه الثنائيّات: ”الهويّة والعولمة”، ”الهويّة والتقدّم”، ”الهويّة والمعاصرة”، ”الهويّة والتنمية”، ”الهويّة والحداثة”، ”الهويّة والكونيّة”. ونحو ذلك من الثنائيّات التّي تكشف في جوهرها عن إشكاليّات فكريّة كبرى، تتعلّق بقضايا الإصلاح والتّقدّم والحرّيّة والتّطوّر الحضاري، وما يمكن أن يرتبط بذلك من دعوة إلى الأخذ بالتّكنولوجيّات والتّنظيمات الحديثة في مجال الاجتماع والسياسة، وعلى الأخصّ في المجالات الاقتصاديّة والتّربية والثّقافة، دون أن يكون في ذلك إخلال بركن الهويّة أو تجاوزٍ لها بالطّمس والتّهميش مثلا([3]).
إنّ المراهنة على تجاوز منطق التّنافر بين الخصوصيّ والكونيّ، هو ما يضمن لنا تخطّي فعل التّعارض بين نزوع الإنسان إلى الانغلاق داخل هويّة بحث عن الانتماء والحماية والاعتراف وبين نشدانه الكونيّ بما هو أفق لتحقيق إنسانيته. ناهيك أنّ ما تعيشه المجتمعات اليوم من صراعات، مردّها التقوقع على الخصوصيّات ورفض الاختلاف وما تتعرّض له الهُويّة راهنا من تحديّات، ممّا يجعلها موضوعًا مركزيًّا للصراع، هو ما يؤكدّ بالنّهاية وجاهة التّحرّر من تورّم الهُويّة وتحرير الإنسان من هاجس الخوف من الاختلاف في خارجيّته وغرابته، وبتدبير مقام الاختلاف بالانتقال من تصوّر يعتبره واقعا مغايرا مُهدّدًا للهُويّة إلى اعتباره مُكوّنًا من مُكوّنات الهُويّة في وجهها المركّب. ولنا في ذلك كلّه وقفة تأمّل لاحقا.
إنّ ما يعطينا مشروعيّة الانهمام بهذا المبحث الأنثروبولوجي في محدّداته الثقافية، يكمن رأسا في تدبرنا علاقة الأنا بالغير، لا من زاوية ذاتية هذه المرّة، بل ككيان ثقافي بامتياز. الأمر الذي يدفعنا نحو مساءلة طبيعة التواصل القائم بينهما من جهة الخصوصيّة والكونيّة واستتباعات ذلك على إمكان تحقق مطلب وحدة الإنسانيّة، بماهي هدف حركة التّاريخ وشرط تحقق الإنساني واكتماله.
وعليه، إذا سلمنا جدلا، أنّ التفكير في التخوم الإشكاليّة لهذا المبحث، يعزى في منطلقاته وإرهاصاته الأولى إلى سؤال الهويّة([4]) الذي يمثّل رأس إشكاليّات الخطاب الفلسفي، وبالتّالي لا فلسفة خارج اجتراح مفهوم الهويّة، تعرّفا إلى المدارات (les enjeux)المختلفة والداخليّة له([5]). وهو ما يعني أنّه على الفيلسوف استشكال مفهوم الهويّة، خروجا من “طور الفحص الأنثروبولوجي – الثقافي عن “الهويّة” (Identité) إلى طور المساءلة الفلسفيّة لسؤال “من نحن؟”([6])، إذا ما استعرنا عبارة الفيلسوف الأمريكي “رورتي”، بوصفه أمارة فينومينولوجيّة عن سؤال أنطولوجي لم يأت إليه الفلاسفة المعاصرون، إلّا بعد أن أخذوا في التحرّر شيئا فشيئا من سيادة براديغم (Paradigme) الذّات الدّيكارتيّة، ونعني سؤال “من أنا؟” الذي أصبحنا نشير إليه بعد “هيدغير” و”ريكور” بمصطلح الهويّة (Selbstheit Ipseité).
لعلّ، هذا من شأنه أن يساعدنا على تخليص مصطلح الهويّة من الاستعمالات الزّائفة والتوظيفات الخاطئة، ونكشف من ثمّ عن بلاغة الإيديولوجيا الكامنة وراء استخدام هذا المفهوم. وهناك يكون من الواجب أن ندرك خطورة الطرح الفاسد، بحسب عبارة المناطقة لسؤال الهويّة، أو التشبث بصورة خاطئة عن الهويّة. وعليه، “يجب أن نتفادى السؤال حول الهويّة، فلا نجعل منها مسألة رئيسيّة، حتى لا تتحوّل الهويّة إلى مرض يستحيل التخلص منه”([7]).
من الأهميّة بمكان، الإشارة هاهنا إلى جملة المفارقات التي اقترنت به في مستوى الواقع الإنساني، والمتمثلة في تنامي الدفاع عن الخصوصيّات بجميع أبعادها، تحصينا لها من كلّ محاولات الطمس أو التصدّع أو التذويب من ناحيّة، وأصالة الطّموح إلى تأكيد وحدة الإنسانيّة وسيادة معنى الإنسانيّ باعتباره هدفا من ناحيّة أخرى.
وتبعا لذلك، إذا علمنا فضلا عمّا أسلفنا بالقول، أنّ الخصوصيّ يستدعي أساسا الكثرة والتنوع والفوضى، فإنّ الكوني يحيل على الوحدة والنظام. وبالتالي، هل يعني ذلك، استحالة التفكير في هذا الإشكال، إلّا وفق ما تسمح به هذه الثنائيّات، أي الفردي في مقابل الكلّي والوحدة في مقابل الكثرة والفوضى في مقابل النّظام؟ أليس حريّا بنا الإقرار، أنّ هذه الثنائيات تترجم عن رؤية اختزاليّة، تنتهي عادة إلى الانتصار لقطب والتضحية بالآخر؟ ألا تتحول هذه الثنائيات على مستوى التّجربة البشريّة إلى مفارقات تتلخص في انشداد الفرد إلى خصوصيته وانفتاحه على تنوع أنماط الوجود الإنساني الممكنة من جهة، وتوقه إلى الكوني من جهة أخرى؟
وتبعا لما تقدّم، يبدو أنّ هذه المنطلقات والإشكاليّات الأوليّة من شأنها أن تقودنا إلى مساءلة الهوية في مساراتها بين هوس الخصوصي ورهان الكوني، تأكيدا لوجاهة التأسيس الفلسفي لمطلب الوحدة الإنسانيّة. وهنا، من الوجاهة بمكان اثارة طائفة من التساؤلات الحارقة تتعيّن كالآتي:
ما دلالة الهُويّة؟ وماهي مقوّماتها؟ هل مازال ممكنا اليوم النّظر للهُويّة من جهة ما هو خصوصي فحسب أم أنّنا إزاء فائض هُويّات لموسومة بالتّنوّع والاختلاف؟
أنّى لنا إذًا، مُساءلةُ الهُويّة في مساراتها؟ هل يمكن اٌعتبارها تعميما لخصوصيّة ما من خلال فرض لنموذج ثقافي مخصوص؟ ألا يقتضي ذلك البحث عن معنى مغاير للهُويّة يكون قادرًا على استيعاب ما في الإنسانيّ من تركيب؟ وإلى أيّ مدى يمكن اعتبار مطلب الهويّة المركّبة مشروعا ناجزا راهنا؟
إنّما غرضنا الأسمى في هذه الدّراسة، تدبّر مسألة الهُويّة في مساراتها بين هوس الخصوصي ورهان الكوني، عسانا نتبيّن على إثرها مدى اعتبار ذلك المشروع منجزا عمليّا. وهو أمر تُجليه مسائل البحث الخمسة، حيث نتناول بالدّرس والتّحليل في المسألة الأولى، ”مستويات التّوافق بين الكونيّ والخصوصيّ”، ونطرح في المسألة الثّانية، ”رهانات الهُويّة من أجل كونيّ إنسانيّ ثقافيّ مركّب”، ثُمّ نبحث في المسألة الثّالثة، ”الهُويّة في مُواجهة تحدّياتها والمنعطف الأنثروبولوجي”.
أمّا في المسألة الرّابعة، فإنّنا نثير جدل ”الكوني والخصوصي والمآل الأنثروبولوجي: حوار ثقافات أم صدام ثقافات؟”، وأفردنا المسألة الخامسة والأخيرة من عملنا هذا لتدبّر، “سُؤال الهُويّة بين مطلب وحدة الإنسانيّة وسياسة للحضارة، مشروعًا ناجزًا”.
قمين بالإشارة في نهاية هذا التّقديم، إلى أنّ استنطاقنا لموضوع هذا البحث في أبعاده الفلسفيّة العميقة، لاقتضى منّا الاستئناس بمنهج تحليلي مقارن، أساسه النّظر في مسألة الهُويّة في مساراتها بين هوس الخصوصيّ ورهان الكونيّ، استنادا إلى المساهمات الفكريّة المرجعيّة لنماذج من الطّروحات الفلسفيّة ذات المنزع الأنثروبولوجي الصّرف في هذا الصّدد.
المسألة الأولى:
في مستويات التوافق بين الكوني والخصوصي
يقتضي التفكير في فعل التوافق بين الكوني والخصوصي منهجيّا، النظر في دلالة الكوني وكذا ماهيّة الهويّة. فكيف ذلك يا ترى؟
1) في تحديد معنى الكوني واستشكال مقوّماته
يحمل الكوني في هذا السياق على معنى الكوني الإنساني (كوني الحياة)، الذي يمثل أفق لقاء الحضارات، يستبدل الصّدام بالحوار والتنميط بالإبقاء على الاختلاف. إنّه نداء إيتيقي، للقول بشموليّة القيم الإنسانية وعدم التمييز بين الأفراد على أساس الاختلاف العرقي أو الجنسي أو الطّبقي أو الدّيني. فالكونيّ إذن، هو النّظر في الإنسان ومنزلته في العالم والكيفيّة التي يتعيّن أن تكون بها علاقته بالآخرين، بدل النّظر إلى الفرد من زاويّة ذاتيّة أو اجتماعية ضيّقة. هذه إذن دلالة الكونيّ فأيّ معنى للهويّة؟ وما هي مقوّماتها وأبعادها؟
2) أنطولوجيا الهوية واحراج المعجم المفاهيمي: هُويّة أم فائض هُويّات؟
تتحدّد الهُويّة على معنى ما به يكون الشيء هو نفسه. فهي حقيقة الشّيء أو الشّخص المشتملة على صفاته الجوهريّة العينيّة ونجد في التّراث الفكري العربي أنّ الهُويّة تُشير إلى الخصوصيّة والوجود المنفرد الذّي لا يقع فيه اشتراك. فكلّ ما كان في جانب العينيّة والهُويّة الذاتيّة والوحدة يميل إلى التّطابق والمساواة والتّماثل. أمّا ما كان مخالفا للهُويّة والعينيّة والذّاتيّة فهو غير وسوى ومختلف. هذا ما يتوافق وما أورده الفارابي، بقوله: ”هُويّة الشّيء هي عينيّته ووحدته وتشخّصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له كلّ واحد. وقولنا إنّه “هو” إشارة إلى هُويّته وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذّي لا يقع فيه اشتراك”([8]). ذلك أنّ “الهُويّة هي من الموجودات وليست من جملة المقولات، فهي من العوارض اللاّزمة وليست من جملة اللّواحق التّي تكون بعد الماهيّة”([9]).
وتتعدّد الهُويّة في نظر الفلاسفة وتختلف بتعدّد الموضوع وأفق النّظر، وهي من ثمّة “الهُويّة العدديّة” (Identité numérique) تطلق على الشّيء من جهة ما هو واحد ومن جهة كونه هُوَ هُوَ، و “الهُويّة الشّخصيّة” (Identité personnelle) وتطلق على الشّخص باعتباره يبقى هُوَ هُوَ رغم ما قد يطرأ عليه من تغيّرات خارجيّة. و”الهُويّة الكيفيّة” (Identité qualitative) و”الهُويّة المنطقيّة”([10]) (Identité logique)، والهُويّة الغيريّة (Altérité) وفي مقابلها، ذلك أنّ الغيريّة هي كون كلّ من الشّيئين غير الآخر وضدّها العينيّة([11]) (Identité).
كما يمكن أن نفرّق بين الهُويّة الاجتماعيّة والهُويّة البيولوجيّة. وذلك أنّ الأولى تبنى على أساس التّنشئة الاجتماعية وفي ذلك الهُويّة الثقافيّة ومنها اللّغويّة التّي يكتسبها الأفراد نتيجة نشاطهم داخل المجتمع وفي خوضهم لجملة القضايا في علاقة بالقيم الاجتماعية التّي تُميّز المجموعات البشريّة عن بعضها البعض في حين أنّ الهُويّة البيولوجيّة وحدها تكون موروثا لدى الإنسان بحيث تولد معه([12]).
تتعيّن الهُويّة إذا كمسار، وتتحدّد ضمن علاقات التبادل مع الثقافات الأخرى. فالهُويّة في مدلولها الأصيل وأبعادها المُركّبة، لتحمل على معنى المرجعيّة الفكريّة والقيميّة المشتركة بين أفراد مجتمع ما من جهة الوظيفة. وتتحقّق في التّاريخ ضمن علاقات تبادل وتفاعل كشروط إمكان. وأخيرا تتّسم الهُويّة بالخصوصيّة والانفتاح في آن من جهة طبيعتها.
إنّ الهُويّة في مزاياها المتعدّدة، لغويّة ودينيّة، وحضاريّة، و ثقافيّة، واجتماعيّة ووطنيّة وسياسيّة وفكريّة وذاتيّة… وفي كلّ بعد من هذه الأبعاد يتجسّد معنى من معاني الهُويّة ولعلّها تتكامل، وإن تبدو للوهلة الأولى متعارضة، وبالتّالي، ينكشف لقارئها أنّ الهُويّة معنى وقيمة يشعر بها المرء ويتمثلها، ومن ثمّ، فالهُويّة ليست مفهومًا ثابتًا عبر التّاريخ، ولا هِيَ نموذج جاهز يستخدم في التّعريف بالذّات الجماعيّة أو الفرديّة، بل إنّ هذه الذّات تُساهم في بلورة صورة لهُويّتها عبر التّاريخ ووفقا للتحوّلات([13]). وهو ما يدعم تصوّرنا القائم على مُصادرة مفادها أنّنا إزاء فائض هُويّات مختلفة.
وحسبنا دليلا عمّا نزعم ههنا، ما ذهب إليه المفكّر الاقتصادي الهندي “أمرتيا كومار صن”(1933) (Amartya Kumar Sen) في مؤلّفه الموسوم “الهُويّة والعنف، وهم المصير الحتمي” الذّي بناه على فكرة أساسيّة مفادها أنّ الصراع والعنف يُدعّمها اليوم وَهْمُ وجود هُويّة متفرّدة. هذا مصداقا لقوله: “إنّ وهم الانفرادية له وقعه على الطّريقة التّي ينظر بها الى الهُويّات الكوكبيّة. فإذا كانت للإنسان هُويّة واحدة، فالاختيار بين القومي والعالمي يصبح منافسة تصل إلى حدّ “كلّ شيء أو لا شيء”. وكذلك المنافسة بين أيّ حسّ بالانتماء الكوكبي الذّي قد يكون لدينا وبين الولاءات المحليّة التّي قد تحرّكها أيضا. لكن، أن نرى المشكلة بهذه التّعبيرات الحادّة والقسريّة، فإنّ ذلك يعكس سُوء فهم عميق لطبيعة الهُويّة الإنسانيّة، وبشكل خاصّ تعدديتها التّي لا مفرّ منها. إنّ الاعتراف بالحاجة إلى تأمُّل مطالب هُويّة كوكبيّة، لا يحدّ من إمكان إلقاء المزيد من الانتباه أيضا للمشاكل المحليّة والقوميّة. ولا ضرورة لأن يأخذ دور العقل والاختيار في تقرير الأولويّات شكل: “إمّا هذا أو ذاك”([14]).
يرى “أمرتيا صُنْ” في سياق معالجته لمسألة الهُويّة من جهة مساراتها، أنّ الإنسان ليس له هُويّة واحدة، بل هُويّة الفرد لَمُتعدّدة الجوانب وبلغة “إدغار موران” مُركّبة ومتعدّدة المنابع، فهو يدخل في العديد من الانتماءات المتباينة، والهُويّات المختلفة. وعليه، استحالة اختزال كلّ هذا في هُويّة أحاديّة البعد، سواء أكانت دينيّة أو عرقيّة، كما يشدّد في الآن ذاته على أنّ الهُويّة ليست مسألة اكتشافيه بمعنى أنّ الإنسان في تقدير “أمرتيا صُنْ”، لا يكتشفها (الهُويّة) فجأة، إنّما هُوَ لَيَختارها وفقا لجملة تراكمات ووضعيّات يمرُّ بها ويعيشها. فالفهم الصّحيح لعالم من الهُويّات المتعدّدة من منظوره يستلزم دقّة التّفكير ووضوحه بالنّسبة إلى “التّعرّف على التزاماتنا وانتماءاتنا المتعدّدة، رغم أنّ هذا قد يتعرّض لإغراق دفاع وحيد البُؤرة عن منظور واحد أو آخر. إنّ تخليص العقل من الكولونياليّة يتطلب ابتعادًا قاطعًا عن إغراء الهُويّات والأولويّات المنفردة”([15]).
طفق “أمرتيا صُنْ”، يجوس في مُؤَلّفه هذا في بعض القضايا والأحداث التّي تمّ تصنيفها بالعنصريّة، مثل مسألة السّود أو الحرب الأهليّة في راوندا، أو النّزاعات بين المسلمين وغيرهم في الهند، بل ويتميّز الكاتب بجرأة شديدة وشجاعة لافتة في التصريح بآرائه حيث يتعرّض بالدّرس والتّحليل إلى وقائع العنصريّة وما رافقها من هكذا انتهاكات فاضحة من قِبل الغربيين ضدّ المسلمين، ونحو ذلك من القضايا الملتبسة والمربكة بشأن الهويات والانتماءات التّي يثيرها الكاتب. أمّا بخصوص الحلول الممكنة التّي يقترحها “أمرتيا صُنْ” للتحصّن من عنف الهُويّة لَتكمن في تقديره في: “القوّة المحرّكة لهُويّات منافسة، وهذه الهُويّات المنافسة يمكن بالطّبع أن تشمل المعنى العريض لإنسانيتنا المشتركة غير أنّها تشمل هُويّات أخرى كثيرة ينتمي إليها كلّ منّا في الوقت ذاته، ويقود هذا إلى وسائل أخرى لتصنيف النّاس، وسائل تستطيع كبح الاستخدام العدواني بخاصّة، ومنعه من استغلال تصنيفٍ بعينه”([16]).
إنّ الهُويّة في تقدير “أمرتيا صُنْ”، ليست مُجرّد انتماء، بل هي بناء وإنشاء تاريخي، ناهيك أنّ اعتبارها لا تاريخيّة يحوّلها إلى هُويّة قاتلة، لأنّ العنف بما هو يأس من العقل وانتصار لمنطق الوحدة ونفي لتعدّديّة القيم، وبما هو ادّعاء احتكار الحقيقة والكونيّ والإنسانيّ، يمثّل تهديدًا للهُويّة في ذاتها قبل أن يكون تهديدا للآخر، ذلك أنّ الهُويّة القائمة على العنف لتزول بزوال قدرتها على امتلاك العنف والتّحكّم فيه. وعليه فإنّ الاعتراف بالاختلاف والسِّلم والحوار بين الثّقافات هو الفضاء الأمثل لتشكّل الهُويّة المتحرّرة من العنف.
كلّ ثقافة تحمل خصوصيّة وهويّة ثقافيّة تميّزها عن بقيّة الثقافات وهو ما يتجلّى في خصوصيّة منظومة القيّم التي تشكلّها، بما يجعلها مختلفة ومتمايزة عن بقيّة الثقافات الأخرى، وهو ما يتجلّى في خصوصيّة القيم الأخلاقيّة والعادات والتّقاليد والعقائد والفنّ واللّغة والتّاريخ. وترتبط الخصوصيّة الثقافيّة بالإضافة لمشاعر التمايز والاختلاف بمشاعر الانتماء والاعتزاز بالانتماء لهذه الثّقافة. بهذا المعنى، تحيل الخصوصيّة على معنى الهويّة، على كلّ ما هو جوهري وثابت وأصيل ومميّز لمجتمع ما أو لأمّة أو للنّحن الثقافي، على أن لاتختزل في هذا التّصوّر الضيّق، وإنّما تتعيّن في هذا المستوى على الأقل، بوصفها: “هويّة مركّبة”([17]). على حدّ عبارة إدغار موران، مشروطة بقيم الحوار والاعتراف بالآخر المختلف فالهويّة إذن، تتّسم بالخصوصيّة والانفتاح في آن.
يقول “تايلور” في هذا السيّاق، معرّفا الهويّة الثقافيّة، بوصفها: “…ذلك الكلّ المعقّد الّذي يشمل المعرفة والعقيدة والفنّ والأخلاق والقانون…العرف وكلّ القدرات والعادات الأخرى الّتي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع”([18]).
نستجلي من هذا التّحديد، أنّ الهويّة الثقافيّة في تقدير “تايلور” إذن، تشمل في مدلولها الواسع الفنّ، القيّم الأخلاقيّة والدينيّة للجماعة، جملة التّمثلات، التقاليد، العادات أو ما يصطلح على تسميته: بالرّمزيّة الاجتمـاعيّة. على أنّ “الكلّ” في تعريف “تايلور” متّصل بالتّاريخ والجغرافيا وبأنماط السّلوك الإنسانيّ المتعامل معها. والكلّ هو ما يصدر عن الأفراد والجماعات في الصيّغ الرّابطة بينهما (التّأثر، والتّأثير، الفعل والانفعال) على الصعيدين الماديّ والذهني.
لعلّه، بالإمكان الآن وفي هذا المستوى من التّحليل التّأكيد، على أنّ هذا الاستنطاق الفلسفي لمسألة الهويّة في مساراتها، لا يتّصل فحسب بالتّلميح إلى التّحديدات المفهوميّة، وإن كان العمل المفهوميّ من مهامّ الفلسفة والفيلسوف الأولى، بل خليق بنا، الإشارة إلى الأبعاد الإشكاليّة. وعليه، بأيّ معنى يمكنّنا اعتبار الكونيّ محصّلة لقاء خصوصيّات ثقافيّة متنوّعة وأفق تحقّق وحدة الإنسانيّة عموما؟
3) في سياسات الهُويّة والمنجز الأنثروبولوجي
بمستطاعنا اختزال جملة التمظهرات المتصلة بفعل التّوافق بين الكونيّ الإنسانيّ وما هو خصوصي في المستويات التّالية:
- على مستوى أنثروبولوجي
تتعيّن صوّر التّوافق بين الكونيّ الإنسانيّ وما هو خصوصي أنتروبولوجيا، في واقع اللّقاء المثمر بين الخصوصي والكونيّ، المتمثل في الطّابع المركّب للكونيّ الثقافيّ. من هذا المنطلق، يتراءى لنا أنّ الهويّة الثقافيّة في وعيّها الحقيقي بخصوصيتها، لا تنفصل عن الكونيّ، باعتبارها، ليس مجرّد انتماء، بقدر ما هي تثاقف وقرار فردي يتّخذه المرء إزاء ثقافته وثقافة الآخرين. والنتيجة إذن، أنّ الكونيّ يتأثّث هاهنا، بوصفه موضع اتّفاق بين الخصوصيّات الثقافيّة وهو محصّلة فعل المثاقفة بينها: فالخصوصيّات تساهم على امتداد التّاريخ في بناء إرث إنسانيّ مشترك ماديّ ومعنويّ.
هذا مصداقا لما ذهب إليه “تايلور” بقوله: “إنّ انبثاق الفكر الإنسانيّ، لم يكن دوما فرديّا ينجزه كلّ شخص على هواه، بقدر ما كان دوما انبثاقا حواريّا”([19]).
نتبيّن على هذا النّحو من النّظر، أنّ الهويّة الثقافيّة تغتني بلقاء الهويّات، باعتبارها هويّة مرنة قادرة على استيعاب المكاسب التي راكمتها الإنسانيّة، إذ” لا يمكن لأيّ مجتمع بشري أن يحيا ويسايّر مجرى التّاريخ ما لم يتّصل بالمجتمعات الأخرى”. ويبدو أن “كلود ليفي ستروس” كان على حقّ في مقارعته لفكرة المركزيّة الثقافيّة، والتّصنيف العنصري بين مجتمعات متحضرة وأخرى متوحّشة، إرساء لنموذج تفسيري يكشف ثراء التنوّع ويدافع عن خصوصيّات الشعوب وحقّها في اختلاف بعضها عن بعض. لذا يطرح ستروس ما يسمّيه ” بالنسبيّة الثقافيّة”، أو تحالف الثّقافات، الّذي يسمح لكّل ثقافة بالتّفاعل مع ثقافة أخرى، دون أن تفوّت في خصوصيتها. يقول ستروس في هذا السيّاق:” إنّ مقولة تنوّع الثقافات البشريّة لا ينبغي أن تفهم على نحو ساكن”([20]).
إنّ الثّقافة الميّتة على هذا النّحو، هي الّتي تخشى الالتقاء بالآخر والتّفاعل معه، أمّا الثّقافة الحيّة، فهي تلك التّي تملك القدرة على اللّقاء بالآخر، دون أن يكون هذا اللّقاء قاتلا. هذا ما عبّر عنه “ريكور” بقوله:” إنّ الثّقافة الحيّة الّتي تكون في ذات الوقت وفيّة لأصولها وفي حالة فعل إبداعي على صعيد الفنّ والأدب والفلسفة والحياة الروحيّة، هي وحدها الثّقافة الّتي يكون بمقدورها الاضطلاع بلقاء ثقافات أخرى، بل إنّها لا تكتفي فحسب بالاضطلاع بهذا اللّقاء، بل تضفي عليه معنى”([21]).
نستخلص من هذا الإقرار، تأكيد “ريكور” على سنّة المثاقفة، كأفق تعمل كلّ ثقافة من خلاله على الاستعانة والاستفادة من تجارب ثقافات أخرى، دون أن تتنازل أو تفقد خصوصيتها الثقافيّة. فليست الهويّة هاهنا إذن، ما يميّز فردا ما أو شعبا عن غيره، بل هي ما يجعلنا نقف عند حدود الإنسانيّ لنفهم من خلاله:
أوّلا: أنّ الاختلاف المفترض بين الثقافات لا يحمل على معنى “اختلاف متوحشّ” يقصي ثقافة الغير المختلف، ويعلن قطيعة مبرمة معها باسم الهويّة والخصوصيّة، وإنّما ينشأ في ظلّ هويّة كونيّة للإنسان وفي إطار وحدة الطبيعة الإنسانيّة([22]).
ثانيا: إذا كان مفهوم الهويّة يشير إلى شعور جماعة إثنيّة معيّنة بخصوصياتها الثقافيّة ووحدة تاريخها ومصيرها، وذاكرة أفرادها المشتركة، فإنّها لا تتشكّل في عزلة عن تواريخ وذاكريّات وجغرافيّات ثقافيّة أخرى، فالهويّة تتكوّن من “آلاف الأوطان” على حدّ عبارة الكاتب الإيطالي: “كارلو ليفي”، فالهويّة “محض حكاية” تعجّ حسب “ريكور” بأصوات وأمكنة وتواريخ متواشجة.
وعليه، يشكّل الاعتراف بالاختلاف الثقافي فرصة لتعايش الثقافات، ودعما لوحدة الإنسانيّة، لا مدعاة لتنابذها وصراعها.
- على المستوى الإيتيقي
يتحدّد الكونيّ الإنساني في هذا المستوى الإيتيقي، بما هو نقطة تقاطع وإلتقاء الخصوصيّات، من خلال المراهنة المطلقة على منزلة فعاليّة التّواصل، والدّفاع عن قيم كونيّة التي يسعى الإنسان في طلبها وهي قيّم: الحقّ والخير والجمال والتّسامح، بما هو ركيزة ثقافة الاختلاف.
لكن، ينبغي أن نشير أيضا، أنّ الوحدة الإنسانيّة، ليست معطى، بل مشروع يتحقّق عبر إرساء إيتيقا الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان، وهو ما يسمح بإدماج البّعد الكوني في صلب الهويّة. يقتضي حوار الحضارات أن يتعايش الأنا الثقافي مع الآخر الثقافي وأن يعترف بغيريته ويقبله في اختلافه. يقتضي الحوار استعداد كلاّ من الأنا والآخر لتبادل الأدوار والمواقع بحيث يكون الأنا مستعدا وقادرا على أن يكون آخرا، أي يصغي ويتفهم مشاغل وتوجسّات الآخر وأن يكون هذا الآخر قادرا بالمثل على أن يقوم بنفس العمليّة، فيكون هو كذلك قادرا على أنّ يتحوّل إلى أنا الآخر لينصت له ويتفهم توجساته، فيتحقّق بذلك التّواصل بين الأنا والآخر على أساس انفتاح كلّ هويّة على هويّة الآخر دون أن تفقد خصوصياتها ولا أن تسعى لممارسة الهيمنة والتّسلّط.
إنّ وحدة الغاية الّتي من أجلها يسعى الوجود الإنسانيّ، هي وحدة ما هو إنسانيّ، في الإنسان بوصفها وحدة البؤرة الروحيّة المشتركة بين جميع الثّقافات على اختلافها وتباينها.
ولنا تخريج نميل إليه، مفاده أنّ الكونيّ في مدلوله الإيتيقي، هو ما به نصالح بين الخصوصي والإنسانيّ، اعتبارا أنّ كونيّ الحياة يتأسّس أيضا على مشروعيّة محافظة كلّ منّا على خصوصيته، دون نفي للآخر ونفي حقّه في أن يعيش خصوصيته، ودون رفض الوقوف على أرض مشتركة قوامها، قيم كونيّة ينبغي احترامها والدّفاع عنها [كرامة إنسانيّة]. ومشاكل كونيّة تجمع الإنسانيّة في همّ واحد ومصير واحد (قضايا إيكولوجيّة، قضايا الهجرة، تنامي الفجوات التنمويّة والرقميّة، صراع المصالح، تنامي النزعات الأصوليّة النابذة للآخر المختلف…).
ولكن، ما هي جملة الاستتباعات المترتبة على القول بفعل التوافق بين الكونيّ الإنسانيّ وما هو خصوصي؟
المسألة الثّانيّة:
في رهانات الهويّة: من أجل كوني انساني ثقافي مركّب
يترتّب عن فعل التّوافق بين الكونيّ الإنسانيّ وما هو خصوصي، جملة من المزايا، يمكن حصرها في المستويّات التّاليّة:
- أوّلا: في المستوى الثّقافي
تتمثل مزايا التّوافق أساسا، في تيسير التّثاقف والتّواصل، كبديل عن العنف بين الثقافات والأمّم. تحرّرا من الأحكام المسبقة، الّتي تجعل من الآخر الثّقافي عدّوا أو متوحّشا، اعتبارا، أنّ الحوار إفساح للمجال أمام البّشر للتعرّف والتّعارف المتبادل كمقدّمة للفهم والتّفاهم. ذلك أنّ: “إتيقا الحوار، إتيقا مسؤوليّة وتضامن وعدالة([23]) على نحو ما علّمنا كارل أوتو أبل.
- ثانيا: في المستوى الأنطولوجي
الاهتمام بالشأن الإنسانيّ والالتزام برفع جميع أشكال الظّلم والفقر عن كلّ إنسان حيثما وجد وبغضّ النّظر عن جنسيّته أو ثقافته. كما تظهر هذه النزعة الإنسانيّة في الاهتمام بالقضايا والمشاكل الّتي تهدّد البشريّة جمعاء، وبغض النّظر عن التّقسيمات العرقيّة أو الثقافيّة: كمشاكل التّلوث والاحتباس الحرّاري والتسلّح النووي، قضايا الهجرة، وتجسير الفجوات التنمويّة والرقميّة المفتعلة بين الأمّم أو الشّعوب، بما يساعد على تأصيل طقوس العيش المشترك واستبدال العلاقات القائمة على المصالح بأخرى أساسها القيم في بعدها الإنسانيّ، والّتي تضع في اعتبارها المصالح. وعند هذا المنعطف، تحمل الفلسفة ملمحها النّضاليّ، الّذي يبدو في قبول “الآخر صديقا”، من خلال بيداغوجيا التّسامح والعيش سوّيا، عبر تفعيل ثقافة التّضامن الأنطولوجي بين متساكني الأرض، بعيدا عن منطق التعصّب والنزعات الأصوليّة النّابذة للآخر المختلف، بما أنّ: “جميع النّاس ينتمون إلى النّوع نفسه، ولهم الحقّ في الكرامة بالدّرجة عينها”([24]). وفقا لما أقرّ به تودوروف.
- ثالثا: في المستوى الإيتيقي
تكمن المزايا في هذا المستوى الإيتيقي، في التّأسيس لمشروعيّة المواطنة العالميّة، وما تفترضه من فضاء سياسي كوني، ضامن لقيم الحقّ والحريّة والمساواة والتّسامح بين الشعوب، ترسيخا لعلويّة منزلة الإنسان ومسؤوليته إزاء الإنسان (المواطن العالمي هو الإنسان). إضافة إلى كون اللّقاء الإنساني باعتباره واقعا يمكن تفعيله وتوظيفه في تحقيق التّعايش السّلمي. الأمر الذي بمقتضاه، ترتبط المواطنة العالميّة رأسا، بتكريس منظومة حقوقيّة كونيّة وقيميّة، تنأى عن كلّ أشكال الميّز العرقي أو العقائدي أو الطائفي. وهذا ما يفيد التكامل بين الخصوصي والعالمي. يقول تودوروف في هذا السيّاق: “المساواة في الحقوق مسألة غير قابلة للتفاوض أصلا”([25]).
بهذا المعنى يتراءى لنا، أنّ التّأكيد على كونيّة فلسفة حقوق الإنسان على نطاق كوكبي دون مفاضلة عنصريّة بين البّشر، إنّما تجسّد في أبعادها الواسعة الطّابع الكوني للإنسان عامّة، بما هو مواطن هذا العالم، على حدّ العبارة “السقراطيّة الشهيرة”. لكن مواضع الاتفاق بين الكوني وما هو الخصوصي وما أفرزته من مزايا دعّمت إمكانات تحقيق وحدة الإنسانيّة، لا تحجب عنّا إمكان التّعارض بينهما.
المسألة الثّالثة :
الهُويّة في مواجهة تحدّياتها والمنعطف الأنثروبولوجي
إنّ الوقوف عند أوجه التعارض بين الكوني العولمي وما هو خصوصي واستتباعات ذلك على إمكان تحقيق مطلب الوحدة الإنسانيّة، يقودنا في بادئ الأمر إلى حدّ معنى الكوني العولمي، وكذا الأمر بالنّسبة للخصوصي، ضمن هذا السيّاق بالذّات.
1) الكوني-العولمي، أيّة دلالة؟
يتحدّد الكوني العولمي على معنى الكوني المطلق، المتعالي، الّذي ينكر التنوّع والاختلاف ويفيد التجانس، إذ يقوم في أساسه على إرادة الهيمنة وإدماج كلّ الثقافات في ثقافة واحدة. (محو الفوارق، خلق التشابه، سيادة رأس المال…). هذا معنى الكونيّ العولمي إذن، فأيّ دلالة لمعنى الخصوصيّ وفقا لهذا السيّاق؟
2) ما الخصوصي؟
يتحدّد الخصوصي في هذا السيّاق، على معنى جملة المعطيات الثقافيّة التي تصنع وحدة مجموعة بشريّة وتماسكها:(العرق، الدين، اللّغة…). ويتأسّس على منطق التجانس والتماثل. ويفترض الثبات والوحدة اعتزازا بالهويّة، تشبثا بالجذور وانفصاله عن المغاير والمختلف.
ولكن، بأيّ معنى يمثّل الكوني العولمي/ الهيمني إيذانا بنهاية الخصوصي وانسدادا لإمكان تحقّق مطلب وحدة الإنسانيّة؟
3) مطارحات فلسفيّة حول أزمة الهويّة وميكانيزمات تمظهرها
في مسلكيات عنيفة وقاتلة: لمن تعود المسؤوليّة؟
قصدنا رصد مظاهر أزمة الهويّة من جهة النظر في التّعارض بين الكوني العولمي والخصوصي في مستويات مختلفة، تبرز كالآتي:
- المجال الثّقافي
يتجلّى فعل التّعارض ها هنا، في سيادة المركزية الثقافيّة والاثنيّة وما تؤول إليه من إلغاء للتعدّد ومن إدانة للتنوّع والاختلاف ونفي للخصوصيّات وطمس للهويّات. وذلك، بنمذجة الثّقافات المحليّة وإخضاعها للنّمط الثقافي المعولم.
إنّ العولمة إذن بما هي فرض نمط موحد من الوجود تتعارض مع كونيّة فكرة الإنسانيّ وإمكانيّة تهميش الخصوصيّات الثقافيّة. فالعودة إلى سياقها التّاريخي والمفهومي بما هي ظاهرة مركبّة يتداخل فيها الاقتصادي بالسياسي وبالثقافي. وتحديدها عبر التمييز بين ما تدعيه من تطلّع لإلغاء المسافات والحواجز بين الشّعوب في اتجاه تحويل العالم إلى فضاء حرّ لتبادل المنتجات المادّية والرّمزية. وما يكشفه راهن العولمة من نزعة سلطويّة تجسّد سعي الأقوى إلى تحويل خصوصيّته إلى نموذج يجسّد كونيّة مزعومة باعتبارها مثلا أعلى. هذا ما ذهب إليه ميشال سار بقوله:” إنّ العولمة قد تقرّبنا من بعضنا البّعض، لكنّها تعزّز الفوارق الاجتماعيّة والماليّة ولا سيّما الثّقافيّة الّتي تبعدنا عن بعضنا.”([26]).
نستجلي من هذا القول، أنّ الكوني العولمي قناع إيديولوجي للهيمنة وطمس خصوصيّات الشعوب، تجسيما للمركزيّة الثقافيّة وترويجا لنمط عيش أو وجود لا يعترف بالتنوّع الحضاري أو الاختلاف، وإنشاء مجتمعات استهلاكيّة تابعة.
في هذا الإطار، يرى جاك دريدا: “أنّ الصّورة المثاليّة أو المبالغة في الإيجابيّة التي نرسمها عن العولمة على أنّها انفتاح باتّجاه تعميم نموذج، هذه الضرورة يجب أن يعاد النظر فيها جديّا وبكل تبصّر ولا يعود السبب في ذلك إلى أنّ تعميم النموذج الواحد في حال حصوله يحمّل في طيّاته فرصة طيّبة وخطرا داهما في آن، وإنّما أيضا لأنّ إلغاء الفروقات في الظاهر غالبا ما يخفي عدم المساواة والهيمنة وهو ما أسمّيه “تجانس الهيمنات” القديمة والحديثة، والتي علينا أن نتبيّنها ونحاربها في ملامحها الجديدة”([27]).
نستخلص من هذا الموقف، دعوة دريدا إلى ضرورة الوعي بمخاطر العولمة وتهديدها للإنساني في مجالات مختلفة، نظرا لارتباطها بأهداف إيديولوجية واستعماريّة. وهو ما يؤكّد ضرورة مواجهة كلّ أشكال الهيمنة والتنميطـ اعتبارا إلى أنّ الانفتاح على الكوني، لا يفيد التفريط في الخصوصي ضرورة.
- المجال الإيتيقي
يتجلى فعل التعارض بين الكوني العولمي وما هو خصوصي إتيقيّا، من خلال سيادة منطق المنفعة وسلعيّة القيم. ذلك أنّنا: “نعيش في اللحظة العابرة، في الزائل المتسارع، في النزوة الذاتيّة، كما لو أنّ القيم الأكثر قدسيّة والتي صارت بلا أساس يمكن أن تعرض في هذا السوق الكبير للسلع المنقولة وأن يكون لها بدورها سعر متأرجح”([28]).
إنّ هذا الوجه اللاّإنساني للكوني الإيديولوجي بما هو كوني هيمنة، يبرز في هيمنة تتخذ من الكونـــــــي أداة لتحقيق الهيمنة، ليتحرّك الكــــــوني بذلك ضمن أفق العقل الأداتي، أو الحسابي، أفق المصلحة بدل الحقيقة، أفق النّجاعة بدل القيم، وهو ما عبّرت عنه العولمة التي تبشر بالوحدة على حساب الكثرة، وباسم الوحدة تتلف الخصوصيات وهو ما يؤشّر على أزمة تواصل، إذ بقدر ما تشتدّ أساليب الهيمنة العولميّة أو الكوني العولمي، بقدر ما تشتدّ مقاومة الخصوصيات وتشتدّ مبررات انغلاقها، ليتحول الدفاع عن الخصوصيّة مواجهة للهيمنة، بما تعنيه المواجهة من سيادة منطق الصّراع والصّدام، وغلبة منطق القوّة واللامعقول، وحلول لغة العنف بدل الحوار، ألا ينبغي أن يفهم من هذا أنّ الدّفاع عن الخصوصيّة، لا ينبغي أن يحمل على معنى رفض الكوني، وإنّما رفض الكونــــــيّ الهيمني أو كوني الموت دفاعا عن كوني الحياة أو كوني كليّة الإنسان ووجوده النّوعي؟
وعلى نفس الصعيد الإشكالي حقيق بنا، الإشارة إلى ما قال به بودريار: “في مواجهة نظام عالمي لا بديل له، وعولمة لا مفرّ منها، وسير الخصوصيات نحو التلاشي أو على نقيض ذلك نحو البروز المتشدّد، فإنّ مفاهيم الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان، تبدو باهتة، لأنّها ليست سوى أشكال وهميّة لكليّة اندثرت ([29]).
إنّ الكوني العولمي في تقدير جان بودريار، قد أدّى إلى طمس الخصوصيّات وتلاشيــــــها، أو هو إعلان عن ولادة “هويّات قاتلة”([30]) على حدّ عبارة أمين معلوف وانعكاسات ذلك على فتور القيم الإنسانيّة.
إنّ الكلام على الهُويّة مقترن بالكلام على الأزمة ولعلّ التّعرض للهُويّة ينبع عن الأوضاع المتأزمة التّي تمرّ بها المجتمعات ولقد دلّ التّاريخ على أنّ الحضارات القديمة لم تعلن السّؤال العاتي: “من نحن؟” أو على مستوى الفردي: “من أنا؟”، إلّا عندما تصطدم بالعراقيل والعقبات الاقتصادية والاجتماعية ويتسنى أن نقرأ كتاب “أمين معلوف” (1949) “الهويّات القاتلة” على أساس أنّ الهُويّة في ذاتها علامة على التّحوّلات غير المتدرجة تدرجًا طبيعيًا. فالسّؤال الأوّل المطروح مع كتاب أمين معلوف هو كيف تتحوّل الهويّة إلى هويّة قاتلة؟
يثير الكتاب مسألة الانتماء ويجوس خلالها من الزّوايا المتعدّدة المحيطة بها كالزّاوية الثّقافيّة أو الدّينيّة أو الوطنيّة، وهي الزّوايا المشروعة الطّبيعيّة وهي لا تشكّل إشكالا في دائرة ما يسعى إليه الإنسان على المستوى الجماعي أو الفردي إلّا أنّها تتحوّل إلى معضلات في الحين الذي يتجاوز سؤال الهُويّة النّطاق المنطقي ليصل إلى لبس ملخّصه لماذا يلازم الهُويّة نوع من الخوف من “الآخر” أو في درجة أدنى السّعي إلى إقصاء الآخر ونفيه؟ وإذا كانت اللّغة والدّين واللّون من مرتكزات الهُويّة الطبيعيّة فما العمل إذَا أدّى الخوض في هذه العناصر إلى العنف المتبادل بين المجتمعات المختلفة في مستوى الهُويّة والوسائل المؤدية إليها؟ ([31])
خاض “أمين معلوف” في مسألة الهُويّة من زاوية تتميّز بالجديّة في الطّرح وسعى إلى الإبانة عن الهُويّة إذ لا يمكن أن تكون معطى جاهزا ثابتا لا وجه إلى التّعامل معه على قاعدة التّفاعل مع الظّرف الزّماني وهو متغيّر. الهُويّة في نظره فعل يتبلور بشكل قابل للتغيّر وليس من المنطقي الرّكون في طلبها إلى الثّوابت بل إلى النّواة التي لا تصان إلّا بالحركة. وقد يبدو النّظر بهذا الشكل اتّهامًا للثوابت أو دعوة إلى الكسر و الدّحض إلّا أنّه في الإطار الذّي اٌختاره “أمين معلوف” أساسي للتمييز بين الثّقافة الفاعلة المتحركة والثّقافة السّاكنة المتواكلة([32]). فالمسألة مهمّة قد تصبح خطرة إذا توهم أصحاب الهُويّة أنّ العناصر المكونة سرمدية أو في مستوى أبعد خطرًا مقدسة وهي عندئذ تتحوّل إلى عنصر صدام بين الثّقافات أو الحضارات وقد تؤدي إلى الحروب الأهليّة أو القطرية أو الكونيّة.
ولقد ضرب “أمين معلوف” أمثلة عديدة على هذه المخاطر كالحرب الأهليّة التّي دارت رحاها في لبنان أو الحرب العرقيّة الدّينيّة التّي دارت رحاها في البوسنة والهرسك كما عالج ظاهرة الانتماء عبر الدّين واللّغة وأشار إلى المخاطر الكامنة فيهما وأبدى ملاحظة جديرة بالاهتمام وملخصها أنّ: اللّغة عنصر جوهري من عناصر الهُويّة وفعل أساسي في رسوخ الانتماء وهي في الآن نفسه وسيلة مهمّة من وسائل التّواصل والاتّصال بين المجتمعات مهما اٌختلفت العقائد أو الثّقافات أو الحضارات إذ لا ينحصر التلفظ بها في قوم دون آخرين. أمّا الدّين فهو عنصر تباين ويعسر على العرق الواحد وكذلك على المتكلمين بلغة واحدة التّغافل عن رابطة الدّين والاعتقاد. كذا شأن الصرب والكروات وهما ينتميان إلى هُويّة لغوية واحدة إلى دين واحد ولم يكن الدّين حاميًا لهما من الحرب وقس على ذلك الحرب في البوسنة و الهرسك و للدّين دور في العداء لا يخفى([33]).
وينضاف إلى العناصر التقليديّة المتعلقة بالهُويّة عناصر أخرى ارتقت إلى المنعطفات التّي أنشأتها الحداثة وما تناسل عنها من الظواهر كالتكنولوجيا المتطورة والعولمة والكونيّة. فهل تُنكر الهُويّات المختلفة على أهلها النّهل من المُخترعات والمُكتشفات وهل يوضع في ميزان التّأثر والتّأثير بين أصحاب الهُويّات المختلفة الانتماء إلى الانفصال ورفض مآثر الآخر فتصبح الهُويّة هُويّة فصل وقطيعة ولئن بدا الافتراض آنيّا غير ذي منطق بعيدًا عن السّلوك المشاهد بين الأمم والشّعوب رغم ما تأجّج من الحروب ومن الصّراعات فإنّ الافتراض المخالف المتمثل في مقاطعة المنتجات من الآخر المغاير أو المُعادي ليس مستحيلا.
ولقد تفطن “أمين معلوف” إلى المعضلة حيث يقول: “إنّ اعتقادي وهو اعتقاد عميق أنّ المستقبل لن يكون مدوّنا؟ أيًّا كان إنّه لن يكون سوى ما نُنجزه نحن … وما المصير؟ وهو سؤال بعض النّاس الّذين يسترقون النّظر إليّ بوصفي مشرقيا والجواب عندي وهو العادي، أنّ المصير للإنسان كالرّياح بالنسبة إلى صاحب المركب، ولن يستطيع من بيده الشّراع أن يتصرّف بنفسه في حركة الرّياح فضلا عن اتّجاهها وإنّما له أن يتحكّم في شراعه وأن يوجهها حيث يشاء… والقياس على الرّياح يعني أنّ رياح العولمة التّي تهبّ على المعمورة شبيهة برياح الملاّح وليس من المعقول التّصدي لها على أنّه إذا أبحرنا بالحذق المطلوب بأن نحافظ على المرسى وأن نتجنب المزالق فإنّه يمكن أن نصل إلى شواطئ السّلام”([34]).
فضلا عن إشعال فتيل الحروب وعلى هذا النّحو تصبح الثّقافة دحرًا للطّبيعة لا إضافة مُبدعة إليها، والمجال إلى نقض معنى الثّقافة نقضًا فظيعًا مع الهُويّات القاتلة فسيح يستدعي اليَقظة والوعي المبين لأنّ المخاطر جسيمة والعواقب شديدة.
ويدعو معلوف في هذا الكتاب إلى مفهوم في العلاقات الإنسانيّة داخل الهويّة الواحدة أو على نطاق العلاقات البشريّة مشبّع بالانسويّة وهي الإنسانيّة التي تجعل الإنسان مركزا في الوجود وليس للغيبيّات فيها أثر إلا في مستوى الاختيارات الذاتيّة وهي انسويّة مفتوحة ترفض تشكيل العالم على النّمط الواحد كما تقصي العودة إلى القبيلة بوصفها إطارا للعصبيّة مغلقا.
الهويّات القاتلة هي المنغلقة إيديولوجيّا الزاحفة إلى المجتمع الإنساني بقوّة السّلاح وبذهنيّة الرّفض فتصبح الثقافة معها عنصرا فاعلا في التباغض والتناحر.
قمين بالملاحظة إلى اسهامات الأنثروبولوجي الأمريكي “هيرسكوفيتس” (1895-1963) في مُحاربته لمنطق المركزيّة الثّقافيّة، ولكلّ أشكال الخطاب الهَوَوي وما اٌرتبط بهما من سلوكات تعصّب، ورفض الآخر المختلف وعدم الاعتراف بالقيم الثّقافيّة والحضاريّة في تنوّعها. وهو ما عبّر عنه مُؤلّفه الموسوم “أسس الأنثروبولوجيّا الثّقافيّة”، أين يُلفى القارئ لهذا الكتاب القيّم، تشريع صاحبه، سيّما في الفصل الأخير منه: “لمبدأ النسبيّة الثّقافيّة التّي تسود صراحةً أو ضمنًا الحركات التّي تهدف إلى بناء مجتمع عالمي تُعطينا مثالا (…) عَلَى أنّها فلسفة مبنيّة على الوقائع التّي تُبرز التّشابهات بين الثّقافات تلك التشابهات التّي أُغْفِلَتْ عن قصد من أجل التّأكيد على الاختلاف. إنّ هذه الوقائع تُبيّن أنّ لكلّ ثقافةٍ قِيَمًا وتفرض قيودًا لا يُمكن رفضها حتّى لو كانت تختلف عن قيم وقيود ثقافة الباحث.
إنّ النّسبيّة الثّقافيّة التّي تُؤكد على العناصر المشتركة في تجربة الإنسان كنقيض للمفاهيم العنصريّة عن القيم المطلقة لا تُهمل القيود التّي يفرضها كلّ نظام أخلاقي على أولئك الذّين يعيشون وفقا لتعاليمه”([35]).
نستجلي من هذا القول، تأكيد “هيرسكوفيتس” على أنّه، لا معنى لمقاربة الهُويّة خارج معقوليّة الاختلاف وإيتيقيته وأبعاده الكونيّة، لأنّ المقاربة الاختزاليّة للهُويّة هي التي تفرز العنف الهَوَوِي وليس الاختلاف.
ومن هنا، فإنّ وجود نظرة معياريّة تفاضل بين الخصوصيّات وتبرّر الاستعمار، تؤول في نظره إلى تكريس مركزيّة ثقافيّة متمحورة حول ذاتها، بما يُؤدي إلى السّقوط في التعصّب والانغلاق والوثوقيّة والعنف والهيمنة بدل الحوار والتثاقف والترويج حينئذ لخطاب يخلط بين الكونيّ والعولميّ ويسوّق لوحدة زائفة، وهو ما يفرز تفقيرًا للإنسانيّ واختزاله في نمط واحد يقضي على الخصوصيّات ويُزيّف الكونيّ. ويضيف “هيرسكوفيتس”، قائلا: “إنّ الاعتراف بأنّ “الحق” و “العدالة” و”الجمال” يُمكن أن تتّخذ أشكالا بقدر ما هناك من ثقافات، إنّما هو تعبير عن التّسامح، لا عن نزعة عدميّة نِهلِسْتيَّة إنّ هذا المبدأ الذي يُعتبر أكبر إسهام للأنثروبولوجيّا الثقافيّة، يدفع الإنسان خطوة إلى الأمام في البحث عمّا يجب أن يكون عليه وذلك على ضوء الوقائع التي نعرفها عن الإنسان على ما هو عليه في وحدته كما في اختلافاته”([36]).
إنّ الهُويّات في تقدير “هيرسكوفيتس”، لا تضمن حياتها وتطوّرها وثراءها، إلّا من خلال قدرتها على الانفتاح والاعتراف بالمختلف وتكريس قيم العقل والتّسامح والحوار الخلاّق. ومن هنا، فإنّ الإقرار بالطّابع المركّب للثّقافة الإنسانيّة على المستوى الأنثروبولوجيّ، باعتبارها واحدة ومتعدّدة في آنٍ، ليسمح بتجاوز منطق الصّدام بين الحضارات إلى منطق الحوار والتّحالف وإحلال التّثاقف بدل الاختراق. وعليه، اٌستحالة فهم الكونيّ الإنسانيّ المُركّب على معنى التّعميم لنموذج حضاري مخصوص، بل على معنى اٌعتباره وحدة مركّبة قادرة على اٌستيعاب ما في الإنسانيّ من تركيب، علما وأنّ هذا الأخير، ليس تجميعًا لأجزاء متناثرة، وإنّما هو مبدأ تعقّل وحدة ما هو إنسانيّ، بما يستلزمه من تعدّد واختلاف وتنوّع وهو ما يتجسّد في قيم كونيّة: كالحريّة، التّقدّم، المواطنة، العدالة والسّلم… ونحو ذلك.
يرى “هيرسكوفيتس”، أنّ الكثرة لا تنفي ضرورة الوحدة وأنّ الاختلاف في اعتقاده ليفترض تحويل الصّراع من صراع بين الخصوصيّات إلى صراع مشترك من أجل أمل جماعي في الحياة. فالاختلاف عندما يقترن بالتّعصب والانغلاق يُؤدّي إلى انسداد أفق التّواصل الإنسانيّ، أمّا عندما يقترن بالتسامح والانفتاح فيؤدي إلى التّواصل. الأمر الذّي بموجبه، طفق “هيرسكوفيتس” في تقريظ مقولة الاختلاف بدل ازدرائه من جهة كونه تحقيقًا لما هو إنسانيّ في الإنسان، على نحو ما ألفيناه لدى زمرة من الفلاسفة والأنثروبولوجيين، كما سبق وأن تعرضنا إلى البعض من طروحاتهم آنفا. وذلك على جهة نظرهم إلى الاختلاف، لا على أنّه فروقات يجب القضاء عليها، بل بما هو فروقات ولودة ومبدعة. والنّتيجة إذا، أنّ الهُويّة المنغلقة ليست فقط عنيفة، بل لهي مهدّدة بالموت العنيف، ما دامت الهُويّة في مساراتها الأصيلة، إنّما هي لكيان تاريخيّ يتشكّل عبر المراس والبناء والتغيّر والتجديد والإبداع وهو ما يقتضي الوعي والإرادة والاختيار. لتكون ساعتها (الهويّة الانسانيّة)، ووفقا لهذا المنطوق، لتفيد الوحدة في الكثرة، أو بعبارة أدّق، لهي كينونة قوامها وحدة الكثرة وكثرة الوحدة.
- المجال الاقتصادي والسيّاسي
يتمثّل مشروع العولمة في العمل على توحيد جميع الثّقافات الإنسانيّة في ثقافة واحدة، من خلال عولمة الاقتصاد والإعلام والثقافة. يجد هذا المشروع مبرّره من جهة في العمل على تجاوز النّزاع والصّراع بين مختلف الثقافات من خلال توحيدها في ثقافة واحدة تتجاوز التنوّع المفضي للصّراع من جهة، ومن جهة ثانيّة اعتبار أنّ الثقافة الغربيّة عامّة والأمريكيّة خاصّة أساس هذا المشروع التّوحيدي بالنّطر لكون قيّم هذه الثّقافة: الحرّيّة، الدّيمقراطيّة، حقوق الإنسان…) قيما كونيّة. وأنّ هذه الثّقافة قد أثبتت نجاعتها من خلال القدر الكبير من الرفاهيّة الذي حققته لأفرادها، فتكون هذه الثقافة هي المؤهلّة لتحقيق الرفاهيّة على صعيد العالم. ولكن ماذا لو اتّضح، أنّ الوقائع والسياسات الفعليّة، قد أبرزت أنّ مشروع العولمة ما هو إلاّ مشروع سلطوي، يهدف للهيمنة على الإنسانيّة وتسخير مواردها لصالح هذه الثّقافة من خلال تنميط الوجود الإنسانيّ في ثقافة الاستهلاك كقيمة عليا.
وعليه، “إنّنا نسير نحو عمليّة توحيد واستيعاب وإعادة بناء لكلّ التّجارب التي يتشكل من خلالها الفرد وتتكوّن القدرة على الفعل، وبالتّالي على مقاومة هذا العالم اللاّشخصي الجماعي، المصلحي، الّذي يمثّل عالم السّلطة بكلّ وجوهها”([37]). كما أنّ “السمّة المميّزة للمجتمعات الغربيّة هو بمثابة الصّورة الأخرى للشموليّة الّتي يتستّر عنها بطريقة ماكرة عبر مظاهر الديمقراطيّة، ذلك أنّها إيديولوجيا واحدة نشأت من الّطموح المقتصر على النّجاح المادّي”([38]).
نستخلص من هذا الإقرار أنّ مخاطر الكونيّ العولمي، تتعيّن رأسا، في فرض نموذج اقتصادي رأسمالي متوحشّ، تكريسا لمنطق اقتصاد السّوق وهيمنة الشّركات العابرة للقارات، ونهب ثروات الشعوب وإثقال كاهلها بالدّيون. وبالتّالي، الانزياح بدلالة الكونيّ إلى العولمي، واختزال وحدة الإنسانيّة في وحدة السّوق الاقتصادية. الأمر الّذي بموجبه، استحال: “تاريخ العولمة إلى إرسال كلّ أنواع السيطرة والتسلّط السياسي والاقتصادي أو الثقافي”([39]).
وعندئذ، مثّل الكوني العولمي القناع الإيديولوجي للهيمنة الاقتصادية الرّأسماليّة الّتي تستهدف تطويع الشعوب لخدمة أغراض لا إنسانيّة بنهب خيراتها وإلحاقها شعوب العالم بمؤسّسات غرضها الأوحد: الربّح، إضافة إلى التحكّم في مصير العالم وخرق سيادة الدّول وتغذية الحروب. وما دعّم ذلك، اتّساع الفجوة الرقميّة وهيمنة الافتراضي وتأزّم التّواصل، رغم الثّورة الاتّصاليّة والمعلوماتيّة.
يقول بودريار: “علينا الصّمود في وجه العنف الفيروسي الّذي تتسّبب فيه العولمة هذا العنف الذي يطال الفرديّات عن طريق الكليّة، والكليّة عن طريق العالميّة، والنّوع عن طريق المعالجات الجينيّة، فلا نواجهه بعولمة القيّم الكليّة المتهاويّة وإنّما بالفرديّة الجذريّة، بواقعة الفرديّة”([40]).
إنّ تأصيل فكرة مقاومة الكونيّ العولمي في تقدير بودريار، مردّها الأساسي، التفكير في شروط أنسنة العولمة بدل عولمة الإنسان، إنقاذا للإنسانيّ، وانتصارا للكونيّ وإعلاء لشأن الخصوصي. ولكن، ماهي مخاطر فعل التعارض بين الكوني الهيمني وما هو خصوصي؟
المسألة الرّابعة: الكوني والخصوصي والمآل الأنثروبولوجي
حوار ثقافات أم صدام ثقافات؟
لعلّنا، لا نجانب الصّواب عندما نقول، أنّ من أبرز تبعات القول بالتّعارض بين الكونيّ والخصوصي، تتمثل في التّعصب للهويّة بالدّفاع عن الخصوصي، وباسم هذه الخصوصيّة، يقع الدّفاع عن انغلاق الهويّة الثقافيّة على مختلف الثقافات، إذ باسم الانغلاق ينظر إلى كلّ ما هو آت من ثقافة أخرى على أنّه غريب وغيريّة، ينبغي رفضها وإقامة جدار عازل يحول دونها والتأثير فينا أو غزونا خشيّة تحوّلنا عمّا نحن عليه، أي خشيّة فقدان مقوّماتنا فنفقد هوّيتنا أو نعيش أزمة هويّة.
ولا شكّ في أنّ هذا الموقف القائل بالانغلاق دفاعا عن الخصوصيّة، ينتج عنه رفض كلّ تواصل مع الآخر المختلف ذاتا كان أو ثقافة وإحلال العنف محلّه، بما يعنيه من يأس من الإنسانيّ أو ادّعاء احتكاره وادّعا الأفضليّة والاعتراف بضرب واحد من التّعامّل يحكمه منطق الصّراع أو الصّدام ويترجم عن منطق مركزية الأنا أو النّحن، عبر إضفاء طابع القداسة على الخصوصي وما يؤول إليه من سيادة التّعصّب وشيوع منطق الهيمنة والرّغبة في إلغاء الآخر عموما. ومن المحاذير الأخرى أو المطبات نخصّ بالذكر أساسا :
تراجع القدرة الإبداعيّة الخلاّقة للثّقافات في ضوء واقع معولم، تراجعت فيه الخصوصيّات الثقافيّة لتترك المكان لقيم المنفعة والتّبادل والسّوق.
أفضى الكونيّ المعولم إلى جعل الأنظمة الرمزيّة مدار صدامات بين الهويّات بما يعطّل التّطلّع إلى كونيّ قائم على الاعتراف بالكثرة والتعّدّد والاختلاف، مادام واقع لقاء الثّقافات مازال محكوما بقانون البّقاء للأقوى. واقتداء المغلوب بالغالب على حدّ عبارة ابن خلدون.
لا يبدو الإنسانيّ أفقا في كلّ وجوهه، بل قد يستثمر لممارسة الهيمنة والوصايا وطمس الخصوصيّات وعولمتها، باسم الحرّيّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان. وهو ما يترجمه الوضع المعاصر المحكوم بالعولمة، الّتي أدّت إلى “كابوس” تاريخي يبيح استهداف الخصوصيّات وانتهاك الهويّات.
يقود هذا التّعارض بين الكوني الهيمني والخصوصي إلى أزمة الكونيّ وأزمة تواصل بين الثّقافات. ونزوع بعض الهوياّت إلى فرض تصوّراتها على الإنسان والعالم وقيمها على الثّقافات الأخرى، بدعوى كونيتها وقدرتها على الانتشار العالمي. وهو ادّعاء غير ممكن أخلاقيّا وحضاريّا، لأنّه مجرّد تبرير أيديولوجي مغالط، إذ يبدو في الظّاهر ناشرا لقيم كونيّة. وهو في العمق شكل جديد لتصوّر قديم، أساسه التوسّع والهيمنة والتدّخل في شؤون الآخرين. هذا ما قصده جان بودريار بقوله: “إنّ الاستعباد والتهميش ليس نتيجة فرضيّة، وإنّما هما في صلب منطق العولمة”([41]).
إنّ العولمة تدفع باٌتّجاه تأسيس سياسة عالميّة وفق منطق الغلبة للأقوى اقتصاديا وماليّا وعسكريّا وإعلاميّا، فتصبح سيادة الدّول وكلّ الخصوصيّات الثقافيّة والدينيّة واللّغويّة والاتنيّة والطّائفيّة وفق هذا التصوّر عائقا يجب تحييده وإخضاعه لآلة السّوق والاستهلاك ودورة رأس المال. وفي هذا السيّاق، يرى السّياسي الفرنسي المعروف: “فيليب سُغان” (1943-2010) (Philippe Segun) أنّ “خطر العولمة ليكمن في اٌستهدافها الأنشطة ومواطن الشّغل، وبالتّالي في تآكل النّظام الاجتماعي مع تدهور مستمر في الأجور وفي ظروف العمل وتفاقم الفوارق، ذلك أنّ وسائل الاتّصال الحديثة وقد محت المسافات ودعمت فتح الحدود والأسواق، أدّت إلى العولمة العشوائيّة وتسببت في فوارق بين الأمّم وفي صُلب الأمّم ذاتها بل إنّها عمّقتها” ([42]).
إنّ العولمة في تقدير “سُغان”، لتحدّ من سيادة الدّولة إذ تطرح إيديولوجيا العولمة حدودا أخرى غير مرئيّة ترسمها الشبكات العالميّة قصد الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسّلوك، بما يؤول بالنّهاية إلى تزايد حدّة الفجوات التنمويّة والرّقميّة والاقتصاديّة المفتعلة بين دول المركز ودول الأطراف أي بين العالم المتقدم والعالم النّامي. والنتيجة إذا: “إنّ الإنسان أصبح اليوم أكثر قدرة وأوسع معرفة، لكنّه بالمقابل أصبح أقلّ سعادة وأقلّ أملًا بل أخلاقًا”([43]).
إنّ العولمة وفقا لهذا المنطوق هي تعميم لنمط حياة مخصوص على الكلّ إنّها إرادة هيمنة ونفي للمختلف واختراق له وسلب لخصوصيته. في حين أنّ طلب الكونيّة /العالميّة في المجال السياسي كما في غيره من المجالات طموح مشروع ورغبة في التثاقف وفي التعارف والحوار.
إنّ الإنسانيّة بمستطاعها إنتاج مضادات إتيقيّة تقي من مخاطر العولمة، تجاوزًا في ذات الوقت للموقف إمّا المناهض أو الممجّد للعولمة، والمراهنة بالنّهاية على مقاربة نقديّة ترصد صلاحيّة العولمة وحدودها وطرح جملة الشّروط التي تنظّمها، المتعيّنة في تقديرنا في إمكان التّلازم بين بعديها التّقني-الاقتصادي والإنسانيّ وإخضاع مسار العولمة للتنظيم اٌنطلاقا من سياسة للحضارة، تُنمّي خصال الحياة وتطوّرها وتضع حدّا للسّباق نحو الهيمنة ونبذ كلّ أشكال الإقصاء. وهنا، “تبدو العولمة في حاجة ماسة إلى الأنسنة والحيلولة دون الانحرافات التي تهدّد العالم من سحق للقيم والفضائل والمثل التي كانت ولا تزال تمثّل حصاد تراكم الحضارات والفلسفات والدّيانات”([44]).
إذا كانت العولمة مشروعًا حضاريًا، فإنّه ينبغي علينا تحصينه من كلّ اٌنحراف والدّعوة إلى عولمة بديلة ذات اتّجاه إنسانيّ.
يدين بودريار إذن العولمة، بما هي فرض نمطّ موحّد من الوجود، تتعارض مع كونيّة فكرة الإنسانيّ. ولكن، تقصي جملة التبعات، تعطينا مشروعيّة تدبّر شروط إمكان التحرّر منها. فكيف ذلك؟
المسألة الخامسة: سُؤال الهُويّة بين مطلب وحدة الإنسانيّة وسياسة للحضارة، مشروعا ناجزًا؟
إنّ تجاوز مظاهر التّعارض بين الكونيّ والخصوصيّ، تأسيسا لسيادة الإنسانيّ، يرتهن بتوفر جملة من المقتضيات، تبرز كالآتي:
- المقتضى الثقافي
ننطلق فيه من سؤال طرحه بول ريكور مفاده: “كيف يكون تفاعل ثقافات متنوّعة أمرا ممكنا، نقصد تحالفا لا يكون قاتلا للجميع؟”([45]).
هذا ما يقتضي أساسا ضرورة رسم ملامح ثقافة الحوار وتكافؤ الفرص بين الأفراد والثّقافات، اعترافا بالتنوّع الثقّافي والحفاظ عليه من ناحيّة. وتجاوزا لمنطق المركزية الثقافيّة، إقرارا بالقدرة الإبداعيّة لأيّ شعب أو أيّة ثقافة من ناحية أخرى. هذا ما قصده شتراوس بقوله: “إنّ تنوّع الثقافات الإنسانيّة لا ينبغي أن يدعونا إلى نظرة مجزّأة أو مجتزئة، إذ أنّه نتيجة للعلاقات الّتي تجمع ما بين الجماعات أكثر ممّا هو بفعل انعزالها عن بعضها البعض”([46]).
اضطلاع الإنسانيّة بتصوّر بديل للوحدة والتنوّع، تأكيدا لوجود وحدة إنسانيّة داخل التنوّع ووجود التنوّع داخل الوحدة، أو الاعتراف بالاختلاف وراء التّماثل والتّماثل في الاختلاف، من ذلك أنّ البّشر متماثلون باللّغة مختلفون بالألسن أو متشابهون بالثّقافة متنوّعون بالثّقافات. بهذا المعنى، ضرورة التّعامّل الإيجابي مع التّناقض بإدماج التنوّع في الوحدة، والنسّبي في المطلق، انطلاقا من النظّر إلى الهويّة بما هي هويّة مركبة وتاريخيّة، متعدّدة المنابع في جوهرها، بوصفها نتاج وحدة الكثرة وكثرة الوحدة، وكذلك الوعي بالطابع المركّب للكائن البشري، مع الحذر من كثرة دون وحدة، ووحدة دون كثرة، فالوحدة دون كثرة تنتهي إلى دغمائيّة، والكثرة دون وحدة تنتهي إلى ريبيّة. وعليه، فإنّ تحصيل هذا الرّهان، يستوجب ضرورة انخراط الأفراد والثّقافات في ممارسة نقديّة فعليّة وتفعيل النّقد الذّاتي تصحيحا لمنزلة الآخر، بما هو المختلف والشبيه والصّديق، لا الغريب أو العدو، وهو ما يفيد وجود قواسم مشتركة أو إمكانية التّحرك في نفس المجال الإنسانيّ. هذا ما طالعنا به ريكور، بقوله: “إنّ إحساس الإنسان بغرابة إنسان آخر ليس إحساسا مطلقا(…) رغم إحساسنا بأقصى درجات الغربة نشعر بأنّنا لم نخرج عن دائرة النوّع البّشري”([47]).
نستخلص من هذا التصريح، أهميّة الوعي بأنّ الإنسان مهما بدا غريبا عن الإنسان، فهو شبيهه على الدّوام اعتبارا: “أنّ الإنسان قد أشكل على الإنسان”، على حدّ عبارة التّوحيدي.
- المقتضى الإتيقي
إنّ التّفكير في الشّأن الثّقافي، لا يستوفي معناه الإنسانيّ، إلاّ بتحريره من تسلّط “العقل الأداتي”، وتأسيسه على عقلانية حواريّة، أي التّشريع لإيتيقا التّواصل: الحوار الكونيّ: مواجهة “العقل الأداتي” بـ “العقل التّواصلي”، وهو العقل الّذي يحوّل طاقاته النقديّة إلى قوى دفع للتّواصل المحقّق للاتفاق دونما إكراه، أي قوّة الاتّفاق البينذاتي والثّقافي، بما هو البديل عن استعمال العنف في حال الصّراع، على نحو ما علمنا هابرماس. من هذا المنطلق، حرّي بنا التّأكيد على ضرورة تنميّة التّواصل في أبعاده الإيتيقيّة والإنسانيّة، بما يقلّص البعد الأداتي، ويسهم في إنتاج الشّروط الإنسانيّة للبينذاتيّة والبينثقافيّة. تأكيدا على منزلة فعاليّة التّواصل ومشاعر الحبّ والاحترام كمتطلبات جوهريّة لتحقيق الوحدة الإنسانيّة. هذا ما ذهب إليه إيريك فروم، بقوله: “ينبغي تنميّة مؤهلاتنا بالقدرة على الحبّ: حبّ الحياة، حبّ الغير، حبّ العمل، حبّ الخير، حبّ الحقيقة والمعرفة وحبّ الإنسانيّة”([48]). ويضيف في نفس السيّاق، قائلا: “إنّ ما تفعله من سوء للغير، هو كما لو أنّك تفعله لنفسك ولإنسانيتك”([49]).
إنّ الإيتيقا مشروع إنسانيّ يعبّر عن وفاق، بين الإنسان وذاته والإنسان وغيره من جهة أخرى. ما يقتضي إذن، ثورة ثقافيّة، تشمل الفرد والمجتمع والنّوع الإنسانيّ، فتحا لآفاق جديدة للتعامل الإنسانيّ بين البشر، وإرساء لإنسانيّة كوكبيّة حاملة لقيم كونيّة، أساسها احترام الغير والتضّامن الإنسانيّ والتّعايش السّلمي بعيدا عن الصراعات الحضاريّة المهدّدة للنّوع الإنسانيّ.
وعليه، لا تكتسب الكونيّة ووحدة الإنسانيّة بمجرّد ادّعاء خصوصيّة ما امتيازها وقدرتها على الانتشار العالمي، اعتبارا أنّ استحقاقاتها الاتيقيّة، لا تكون إلاّ بلقاء مثمر بين الحضارات يغيب فيه منطق الهيمنة. والاعتراف بإسهامات كلّ ثقافة في الكونيّة عبر ابداعاتها الفكريّة، العلميّة والجماليّة ذات الأبعاد الإنسانيّة. ويكمن هذا البّعد الاتيقي للكونيّ في اعتراف الآخرين بهذه الكونيّة، عبر التّعاطف وفعل التّرجمة، لا عبر السّيطرة والهيمنة والادّعاء الكاذب. هذا ما عبّر عنه ريكور بقوله: “لا يجب تخيّل العلاقات بين الثقافات من خلال مصطلحات “الحدود” وإنّما من خلال مصطلحات التأثيرات المتداخلة بين مراكز لا يقيم إشعاعها وزنا للحدود ([50]).
إنّ الكونيّ إذن، أفق ومشروع إنسانيّ تلتقي ضمنه الثّقافات ويثري بعضها البعض.
- المقتضى السياسي الحقوقي
إنّ وحدة الإنسانيّة بما هي شرط تحقّق الإنسانيّ واكتماله لا تقوم على مقتضيات تواصليّة إتيقيّة فحسب، بل أنّ الشّرط الأساسيّ لتحقيقها هو التّواصل المفضي إلى إقامة نظام سياسي كوني، قوامه الحقّ والعدل والحريّة والسلّم، وجعل السيّادة الإنسانيّة فوق جميع أشكال السّيادة، وبناء عليه، فإنّ القول بالعلاقة التلازميّة بين هذه المقتضيات، وحدها، تحرّر الإنسانيّة من العنف وآفات الحروب وأزمات التّواصل. وترسم آفاق تحقّق وحدتها، في ظلّ واقع يسوده صراع المصالح وتتزايد فيه حدّة الفجوات ثقافيا، تنمويا، اقتصاديا، رقميّا، عسكريا وعلميّا…ولكن، ذلك، لا يمنع من القول، أنّ وحدة الإنسانيّة تقوم مقام الشرط وليست مجرّد غايّة طوباويّة.
إنّ تحصيل هذه الأهداف والاستحقاقات الإتيقيّة في بعدها الإنسانيّ الصّميم، يشترط المراهنة على دور الفلسفة بفعاليتها النقديّة، تأمّلا وتدبيرا، في تشخيص أمراض الواقع وقدرتها على كشف الأقنعة عن السّلطوي، بما هو مصدر اغتراب الإنسانيّ في تفردّه وتنوّعه. وإقامة الحدود بين العولمة والكوكبيّة بما هي واقع يكرّس الهيمنة والتي تظهر بمظاهر الكوني، والكونيّ الإنسانيّ، بما هو أفق لقاء الحضارات والمآل الإتيقي المساعد على تجنّب خطر الانغلاق على الذّات وخطر الهيمنة أو الوقوع في الهيمنة، استبدالا للصّراع بالحوار والتّنميط بالإبقاء على الاختلاف. والإيمان في النهاية بهذه الهويّة المركبة كحّل لأزمة الكوني وأزمة عدم التفاهم الّتي تسود العالم ولنزعة الإقصاء والتمييز.
“إنّ قطرة الماء تشارك في عظمة المحيط حتّى وإن لم تكن تعي ذلك. لكن بمجرّد أن ترغب في الانفصال تجفّ تماما.”/ غاندي:”كل البشر إخوة”.
” إنّ الدّولة أو المجتمع الذي يغلق حدوده في وجه إبداعات المجتمعات الأخرى في الفكر والعلم والدّين والفلسفة والفنّ أو يحرمها من إبداعاته هو مجتمع أنكر إنسانيته”./ كارل ياسبرز:”تأريخ الفلسفة بنظرة عالميّة”.
في المحصّلة، ننتهي إلى التّأكيد بعد هذا التّأمّل الدّائر حول الهوية في مساراتها بين هوس الخصوصي ورهان الكوني، على أهميّة المثاقفة، تحرّرا من الأحكام المسبقة التي تجعل من الآخر الثّقافي عدوّا أو متوحشّا، تخلّصا من منطق المركزيّة الثقافيّة وتأكيدا على قيمة العيش المشترك في تشكيل كونيّ إنسانيّ يقوم على النّظر إلى الهويّة الإنسانيّة بما هي هويّة مركبّة.
وفي ذات السيّاق، خليق بنا الإقرار، أنّ وحدة الإنسانيّة بما هي شرط تحقّق الإنسانيّ واكتماله تقوم على مقتضيات تواصليّة، إتيقية وسياسيّة وحقوقيّة. وبلوغ هذا المطلب، يرتهن رأسا بتخطي التّعارض بين الخصوصيّات الثقافيّة والدينيّة وبين مبدأ الكونيّة الذي تقرّه المنظومة الدوليّة لحقوق الإنسان. فمع الإقرار بحقّ الاختلاف الذي يرجع إلى اختلاف الثقافات والدّيانات والحضارات بين الأقاليم والمجموعات والفئات أو الأفراد، إلاّ أنّ هذا الاختلاف، لا يكون مثريّا إلاّ في ظلّ ثقافة مبدعة ويمكن أنّ يشكلّ تهديدا في ظلّ ثقافة ميّتة أو هويّة منغلقة تعبّر عن أزمة هويّة. على أنّ الاعتراف بالاختلاف من جهة الواقع ومن جهة الحقّ هو أساس تحقّق الكونيّ ولا يمكن أن يؤدي إلى الاستنقاص من الحقوق والمعايير الدوليّة الّتي أقرّتها المجموعة الدوليّة واتّفقت بشأنها الدّول باعتبارها الحدّ الأدنى المشترك لكافة البّشر دون تمييز. ومن هذا المنظور، تصبح الخصوصيّات مصدرا لإثراء هذه المنظومة الحقوقيّة القيميّة، الّتي أقرّها المجتمع الدّولي، وإطارا فعّالا لتحديد معايير أكثر فعاليّة وأكثر حماية لحقوق الإنسان.
لقد دافع كثير من مثقفي نظريّة ما بعد الاستعمار عن التعدديّة الثّقافيّة، و رفضوا التمركز الثّقافي الغربي و الثّقافة الواحدة المهيمنة، كما رفضوا سياسة التّدجين و التغريب والإقصاء، و نادوا بالتّنوّع الثّقافي و الانفتاح الثّقافي، و ذلك عبر آليات المثاقفة: التّرجمة والنّقد والتّفاعل الثّقافي. بمعنى أنّ ثمة ثقافات جديدة إلى جانب الثّقافة الغربيّة المركزيّة، كالثّقافة العربيّة، و الثّقافة الآسيويّة، و الثّقافة الأفريقيّة، و الثّقافة الأمازيغيّة (…) بمعنى أنّ ليس هناك ثقافة مهيمنة وحيدة، بل هناك ثقافات هجينة متعدّدة و مُتداخلة ومُتلاحقة([51]).
إنّ انفتاح الأنثروبولوجيا المعاصرة على المجتمعات الموسومة “بالبدائيّة” أو “اللاّكتابيّة” أو “التّوحش” مثل “الآرابيش” و”تشامبولي” و”المندوقهور” و”الماوري” و”الوانتو” كلّ هذه الأبحاث الميدانيّة جعلت الخطاب الأنثروبولوجي المعاصر يُشكّك في سلطة الأنا المركزي الأوروبي.
عمد العقل الأنثروبولوجي المعاصر إلى وضع عقدة التفوّق والتمركز حول الذات موضع التّساؤل، ذلك أنّ هذا العقل اٌكتشف أنماطا مختلفة من السّلوكات وتقنيّات الاجتماع والتّأهيل المتباينة. هذا التّناثر المجتمعي جعل الأنثروبولوجيين لا يعتبرون الإنسان الأوروبي ولا أوروبا مركزا للعالم ولا نمط حياتها هو النّمط الوحيد الممكن، ذلك أنّ كلّ هذه المجتمعات لها تقنياتها الخاصّة واستجاباتها الوجدانيّة والعاطفيّة والانفعاليّة وأطر أسنادها الذاتيّة، حتّى وإن نُعتت هذه المجتمعات بالمجتمعات الباردة أو البسيطة في مقابل المجتمعات “البروميثيوسيّة”. إلاّ أنّ هذه المجتمعات الموسومة بالدونيّة تمتلك تقنياتها الخاصّة للسيطرة على حاجياتها الأساسيّة التي أطلق عليها الأنثروبولوجي الوظيفي: “مالينوفسكي” في مُؤلّفه الموسوم بـ “النظرة العالميّة للثقافة”، الأسّس البيولوجيّة للثقافة.
يدحض كلّ من “ليفي شتراوس” و”رايف بيلز” فكرة المجتمعات البسيطة، فلا وجود لثقافات بسيطة ومجتمعات بسيطة، ومن هنا تهدف الأنثروبولوجيا الثقافيّة إلى نقد أحكام القيمة التي أنتجها الخطاب الأنثروبولوجي الاستعماري الذي صنّف الشعوب وفق تصوّره الخاصّ وانطلاقا من وعيّه بمسألة التقدّم و التأخر أو التمدّن والتوحش([52]).
لقد توصلت الأنثروبولوجيا وخاصّة على يد “كلود ليفي ستراوس” كما سبق وأن تعرضنا إلى ذلك آنفا إلى محاربة فكرة المركزيّة الثقافيّة وميكانيزمات تمظهرها في مسلكيات عنيفة وقاتلة والتشريع في المقابل إلى مبدأ النسبية الثقافيّة وتقريظ الاختلاف، بما يمكّن من إرساء كونيّة فعليّة على أسّس جديدة: كونيّة العقل والحوار والتّسامح والاعتراف المتبادل بين الهويّات في تنوّعها. وهو ما يجعل من الأنثروبولوجيا البنيويّة اٌحتجاجاً نظريًّا على احتكار الثقافة([53]).
يرتهن تحصيل هذه الاستحقاقات الإنسانيّة إذا، بالقيمة النقديّة للتفكير الفلسفي في تمييزه بين الكونيّ الإنسانيّ والكونيّ الهيمني (العولمي)، بما يفتح أفق الوجود الإنسانيّ على ممكنات جديدة للتحرّر.
الهوامش
باللّسان العربي:
- إبراهيم (محمود): العولمة هل هي انفجار الهويّة، مجلّة الفكر العربي، العدد 93، 1998.
- — ، الإسلام و الغرب، آفاق الصّدام، ترجمة مجدي شرشر، مكتبة مدبولي الطبعة الأولى، 1995.
- — ، الخطاب العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت- لبنان، ط1، 1982.
- بن أحمودة (محمّد): الأنثروبولوجيا البنيويّة أو من الاختلاف من خلال أبحاث ك.ل.ستراوس، دار محمّد علي الحامّي – صفاقس، تونس، الطّبعة الأولى، ماي 1987.
- بودريار (جان): عنف العالمي من كتاب السّلطة الجهنيّة، ترجمة بدر الّدين عرودكي، مجّلة الفكر العربي المعاصر عدد 134-135 مركز الإنماء القومي، بيروت- لبنان 2006، ص42-48.
- بوطالب (محمّد نجيب): الحوار بين الحضارات، الأبعاد والآفاق والتحدّيات، سلسلة كتب شهريّة تصدرها جريدة “الحرّيّة”، أوربيس، تونس 2008.
- بوطالب (محمد نجيب): المنزع الحواري في الثقافة العربيّة، ضمن كتاب الثقافة والآخر، تكريما للطاهر لبيب، الدار العربيّة للكتاب، 2006.
- تايلور (تشارلز): التعددية الثقافيّة الاختلاف والديمقراطيّة، أوبيي، 1994.
- تودوروف (تزفيتان): روح الأنوار، تعريب حافظ قوبعة، دار محمد علي للنشر، الطبعة الأولى، 2007.
- الجابري (محمد عابد): نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، ط6، 1993.
- الجراري (عباس): هويتنا والعولمة، منشورات النادي الجراري، الرباط، 2000.
- الحذيري (أحمد): الهويّة ومؤتلف الاختلاف، الحياة الثقافيّة، العدد 190، فيفري 2008.
- الدّاوي (عبد الرّزاق): الهويّة الثقافية جدليّة الثقافة والمثاقفة، مجلّة المناهل المغربيّة العدد 71-72، 2004.
- دولة (سليم): ما الفلسفة؟ ما الثّقافة؟، بيرم للنّشر، تونس، الطّبعة الثالثة ديسمبر 1989.
- سبيلا (محمد): مدارات خطاب الهويّة، ضمن أعمال ندوة الهويّة والتقدّم، منشورات جامعة الزيتونة، المعهد العالي لأصول الدّين، 1993.
- سبيلا (محمد) وبنعبد العالي (عبد السلام) : دفاتر فلسفيّة، إعداد وترجمة، دار توبقال، المغرب، 2004.
- سعيّد (جلال الدّين): معجم المصطلحات والشواهد الفلسفيّة، دار الجنوب للنّشر، تونس، 2004.
- سغان (فيليب): أوروبا والعالم العربي في مُواجهة تحديّات العولمة، في الحوار الثقافي العربي، ندوة الألكسو، معهد العالم العربي، باريس – تونس، 2002.
- شتراوس (كلود ليفي): العرق والتاريخ، ترجمة سليم حدّاد، المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1988.
- صُنْ (أمرتيا): الهُويّة والعنف، وهم المصير الحتمي، ترجمة: سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة، العدد 352، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب – الكويت، 2008.
- عمران (كمال): مداخل إلى الثقافة، سلسلة كتب شهريّة تصدرها جريدة “الحريّة” ، أوربيس، تونس، أفريل 2008.
- الفارابي (أبو نصر): كتاب التعليقات، طبعة حيدر آباد، الهند ١٣٤٦هـ.
- القيم إلى أين؟ مداولات القرن الحادي والعشرين، إشراف جيروم بندي، ترجمة زهيدة درويش جبّور، جان جبّور، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة) ومنشورات اليونسكو.
- الكحلاوي (محمّد): الهُويّة والتّحديث، سلسلة كتب شهريّة تصدرها جريدة “الحريّة”، أوربيس، تونس، 2010.
- كوبر (آدم): الثّقافة التفسير الأنثروبولوجيّ، ترجمة: تراجي فتحي، مراجعة: د. ليلى الموسوي، عالم المعرفة، العدد 349، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، مارس 2008.
- مجلّة الحياة الثقافيّة، العدد 213، محور العدد: اللّغة والهُويّة، أوربيس، تونس، ماي 2010.
- مسألة الهويّة والعروبة والإسلام والغرب، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط2، 1997.
- المسكيني (فتحي): الهويّة والزّمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة النّحن، دار الطليعة، بيروت، 2001.
- معلوف (أمين): الهويّات القاتلة، ترجمة نهلة بيضون، دار الفارابي ANEP، الطبعة الأولى، 2004.
- ميلفيل جون (هيرسكوفيتس): أسس الأنثروبولوجيّا الثقافيّة، تعريب د. رباح النفاخ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد، دمشق-سوريا، 1973.
- هنتنغتون (صامويل): صدام الحضارات، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت 1995.
- ياسبرز (كارل): تأريخ الفلسفة بنظرة عالميّة ترجمة عبد الغفّار مكاوي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة 1994.
باللّسان الأجنبي:
- Appel (Karl Otto) : Discussion et responsabilité, l’éthique après Kant, traduit de l’allemand par Christian Bouchindhomme éd. du cerf, Paris 1996.
- Ethique de la discussion, traduction de l’allemand par Mark Hunyade, éd. du cerf, Paris 1974.
- Fromm (Eric) : Un homme pour lui-même, éd. sociales Française, Paris, 1967.
- Fukuyama (Francis) : la fin de l’homme les conséquences de la révolution biotechnique, éd. la table ronde, 2002.
- Huntington (Samuel) : Le choc des civilisations, trad. Française Odile Jacob, 2000.
- Ricœur (Paul) :– Histoire et Vérité, é Seuil, Paris, 1997.
- La mémoire, l’histoire, l’oubli, é Seuil, Paris, 2000.
[1] الكحلاوي (محمّد): الهُويّة والتّحديث، سلسلة كتب شهريّة تصدرها جريدة “الحريّة”، أوربيس، تونس، 2010، ص 7.
[2] عمران (كمال): مداخل إلى الثقافة، أوربيس، تونس، ط1، أفريل 2008.
[3] الكحلاوي (محمّد): الهُويّة والتّحديث، ص 7.
[4] سبيلا (محمّد)، مدارات خطاب الهويّة، ضمن أعمال ندوة الهويّة والتقدّم، منشورات جامعة الزيتونة، المعهد العالي لأصول الديّن، 1993، ص 44.
- لعلّه من الوجيه أن يبدأ تعريف الهويّة وتحديد معناه من تصحيح لدلالة هذا المصطلح وطريقة نطقه، فالهويّة “بضمّ الهاء وليس بفتحها، وبكسر الواو وليس بفتحه، لأنّ الهويّة بفتح الهاء وكسر الواو هي البئر العميقة وجمعها هويّات”. راجع، الجرّاري، (عباس)، هويّتنا والعولمة، منشورات النّادي الجرّاري، الرّباط، 2000، ص11، ص449 وانظر لسان العرب مادّة هـ.
- نلفت الانتباه إلى ملاحظة هامّة، مفادها أنّ اسم الهويّة ليس عربّيا في أصله من جهة الاشتقاق، قال ابن رشد:” وإنّما اضطرّ إليه بعض المترجمين، فاشتق هذا الاسم من حرف الرّباط، الذي يدّل عند العرب على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره، وهو حرف هو في قولهم: “زيد هو حيوان أو إنسان” راجع، ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة ص 557، نقلا عن جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج2، الشركة العالميّة للكتاب، بيروت، ص529-530. ويرى جميل صليبا أنّ اسم الهويّة مرادف لاسم الوحدة والوجود، وهو دالّ على ذاتّية الشيء. وللهويّة عند القدامى معان عدّة، منها التّشخّص، والشّخص نفسه والوجود الخارجي فهي ما يكون به الشيء هو هو، وباعتبار تحقّقه يسمّى حقيقة وذاتا، وباعتبار تشخّصه يسمّى ماهيّة”.
- وهذا استنادا إلى ما قال الجرجاني في تعريف الماهيّة: “ماهيّة الشّيء، ما به الشّيء هو هو”. انظر، صليبا (جميل)، المعجم الفلسفي، ج2، ص530. وراجع أيضا، الجرجاني، التّعريفات، مكتبة لبنان، بيروت 1990، ص205. لمزيد التوسّع حول تحليل مبدأ الهويّة وتفكيكه، راجع:
Y.BEN AHMED, De la Diaphorologie. La pensée. De la différence selon Martin Heidegger Du principe” .L’identité”, Tunis centre de publication universitaire, 2007.PP117.
وانظر أيضا: الكندي رسالة في الفلسفة الأولى، دار كيون، دمشق، 2007، ص52. والحذيري، (أحمد)، الهويّة ومؤتلف الاختلاف، الحياة الثقافيّة، العدد 190، فيفري 2008، ص27.
أنظر في ذات المجال: سلسلة مفاهيم عالميّة / الهويّة: من أجل حوار بين الثقافات بمشاركة مجموعة من الباحثين العرب والغربيين، ترجمة عبد القادر قنيني، المركز الثّقافي العربي، بيروت، الدّار البيضاء، ط1، 2005.
ظهرت أطروحات تماهي بين الهويّة والثّقافة وتماثل بينهما من حيث أنّ الأولى نتيجة للثانية. وبرز مصطلح المثاقفة Auclturisation كفاعليّة نظريّة وعمليّة يتحقّق من خلال التّداخل بين الثقافات وبالتّالي التّواصل بين الهويّات. راجع، الدّاوي، (عبد الرّزاق)، الهويّة الثّقافية: جدليّة الثّقافة والمثاقفة، مجلّة المناهل المغربيّة العدد 71-72. السنّة 2004، ص76-77.
[5] سبيلا (محمّد)، المرجع السّابق، ص42.
[6] المسكيني (فتحي)، الهويّة والزّمان، تأويلات فينومينولوجيّة لمسألة النّحن، دار الطّليعة، بيروت، 2001، ص16.
[7] المؤدّب (عبد الوهاب): تساؤلات حول الهويّة العربيّة، بحوث ومقالات لمحمّد أركون وعبد الوهاب المؤدّب وعلي زيعور وجمال الدّين بن شيخ، ومالك شبل وآخرين، دار بدايات، سوريا،2008، ص154.
[8] الفارابي (أبو نصر): كتاب التعليقات، طبعة حيدر آباد، الهند ١٣٤٦ هـ، ص21.
[9] الفارابي (أبو نصر): فصوص الحِكم، نشرة ديتريش، لايدن، ١٨٩٠، ص66.
[10] سعيّد (جلال الدّين): معجم المصطلحات والشواهد الفلسفيّة، دار الجنوب للنّشر، تونس، 2004، ص494-495.
[11] المرجع نفسه، ص318. ينضاف إلى ذلك، أنّ “الهُويّة (Identité) بالفرنسيّة أصلها يونانيّة (Identitas) وتعني حسب الفيلسوف اليوناني أرسطو “الشّيء المماثل لذاته”. والهُويّة بالنّسبة إليه فطريّة أي طبيعيّة أي تتولّد لدى الفرد منذ الولادة: وربّما هي مجموعة طباع تنشأ بالوراثة وتتأثر البيئة الاجتماعيّة للفرد. والهُويّة تُميّز البشر بعضهم عن بعض كما تميّز المرأة عن الرّجل أي تميّز الذكر عن الأنثى والتّمايز بين الأشيّاء. وحسب “مارقريت ميد”، إنّ الهُويّة تُبنى بالتّماثل والاختلاف بحسب ما يريده الفرد وما يميّزه عن غيره من النّاس”. راجع، العربي (البشير)، اللّغة بين الخصوصيّة الثقافيّة وإثبات الهُويّة، مجلّة الحياة الثقافيّة (محور العدد: اللّغة والهُويّة)، العدد 213، وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، تونس ماي 2010، ص32.
[12] المرجع نفسه، ص 32.
[13] الكحلاوي (محمّد): الهُويّة والتّحديث، م.م.س، ص9.
[14] صُنْ (أمرتياكومار): الهُويّة والعنف، وَهْمُ المصير الحتمي، ترجمة: سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة، العدد 352، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت، 2008، ص181.
يقول “أمرتيا صُنْ” بخصوص عنف الهُويّة أو الهُويّات العنيفة: “وليس من الغريب أنّ توليد “وهم” الهُويّة المنفردة تخدم أهداف العنف التي يديرها قادة الاضطهاد والمذابح بمهارة، وليس هناك لغز في أنّ هناك سعيًا إلى مثل هذه الاختزاليّة لكن هناك سُؤالا كبيرًا حول لماذا تنجح التنميّة الفرديّة الأحاديّة كلّ هذا النّجاح، على رغم السّذاجة البالغة لتلك الفرضيّة في عالم من الهُويّات المُتعدّدة بوضوح؟”. المرجع نفسه، ص175. وفي ذات السّياق، يعلن “أمرتيا صُنْ” : “أنّ الصراع والعنف يدعمهما اليوم وَهْمُ هُويّة متفرّدة، والواقع أنّ هناك اتّجاهًا مُتزايدًا اليوم لرؤية العالم باعتباره فيدراليّة أديان أو ثقافات أو حضارات، مع تجاهل أهميّة الطرق الأخرى التي يرى بها النّاس أنفسهم، والتي تختصّ بالطبقة أو النّوع أو المهنة أو اللّغة أو الآداب أو العلوم أو الموسيقى أو الأخلاقيّات أو السياسة، والمحاولات على مستوى الكوكب لوقف مثل هذا العنف تعوقها الفوضى المفاهيميّة التي تتوّلد عن فرضيّة وجود هُويّة منفردة أو مفروضة على الإنسان بشكل قدري، وعندما تُعرّف العلاقات بين البشر بأنّها “صدام حضارات”، فإنّ البشر يتمُّ تصغيرهم، بوضعهم في صناديق صغيرة”. راجع، تصدير مجلّة المعرفة، م.م.س، في آخر الكتاب.
[15] المرجع نفسه، ص105.
[16] المرجع نفسه، ص20.
[17] موران (إدغار): سياسة حضارة، طبعة إيريليا (Erlea)، 1997، ص118.
[18] تايلور (تشارلز): منابع الأنا: تكوين الهويّة المعاصرة، طبعة ساي، باريس، 1998، ص46. يمكن العودة إلى: بن تمسك (مصطفى): فلسفة الهويّة لدى تشارلز تايلور، عمل مرقون لنيل شهادة الدكتوراه، تحت إشراف د. فتحي التريكي، 2007.
[19] تايلور (تشارلز): التعددية الثقافية الاختلاف والديمقراطية، أوبيي 1994، ص49-50.
[20] ستروس (كلود ليفي): الاناسة البنائيّة 2، ترجمة حسن قبيسي، مركز الإنماء القومي، 1990، ص297-299.
[21] Ricœur (Paul) : Histoire et vérité, Ed. Seuil, Paris, 1997, p 198.
[22] بونوا، (جان ماري): الهويّة، ترجمة عبد السّلام بنعبد العالي، مجلّة الفكر العربي المعاصر، العدد 39، بيروت-لبنان، 1986، ص78. هنا تجدر الإشارة إلى قول بونوا: “العلاج الطبيعي ضدّ هذا الموقف هو أن نعمّم فكرة الطبيعة البشريّة ونقول بوحدة الإنسان وقيمه”. م.ن.
[23] Appel (Karl Otto) : Discussion et responsabilité, l’éthique après Kant, traduit de l’allemand
par Christian Bouchindhomme, éd. Du Cerf, Paris, 1996, p8.
[24] تودوروف، (تزفيتان): روح الأنوار، تعريب حافظ قوبعة، دار محمّد علي للنشر، الطبعة الأولى، 2007، ص109.
[25] م.ن، ص. 122.
[26] سير (ميشال): العلم والتكنولوجيا والعولمة، عن كتاب: القيم إلى أين؟ مداولات القرن الحادي والعشرين، إشراف جيروم بندي، ترجمة زهيدة درويش جبّور، جان جبّور، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة) ومنشورات اليونسكو، ص. 201. أنظر أيضا، هنتنغتون (صامويل): “صدام الحضارات”، مجلة: “فورين أفيرز”. 1993 مذكور في: صدام الحضارات، مؤلف جماعي، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، شؤون الأوسط، 1995، ص 17-19.
[27] دريدا (جاك): العولمة والسلام والمواطنة العالميّة عن كتاب: القيم إلى أين؟ م.م.س، ص181. راجع أيضا، العالم (محمود أمين): حضارة واحدة وثقافات متعدّدة، ضمن: صراع الحضارات أم حوار الثقافات؟ أوراق المؤتمر الدولي حول صراع الحضارات (القاهرة)، مطبوعات التضامن، 1997، ص84-85.
[28] بندي، (جيروم): عن كتاب القيم إلى أين؟ م.م.س، ص18.
[29] بودريار، (جان): عن كتاب القيم إلى أين؟ م.م.س، ص53.
[30] معلوف، (أمين): “الهويّات القاتلة”. ترجمة نهلة بيضون، دار الفارابي CANEP، ط1، 2004.
Les Identités meurtrières, le livre de poche, 1998.
[31] عمران (كمال): مداخل إلى الثقافة، سلسلة كتب شهريّة تصدرها جريدة الحريّة، أوربيس، تونس، ط 1 أفريل 2008، ص44–45.
[32] المرجع نفسه، ص45.
[33] المرجع نفسه، ص45.
[34] معلوف (أمين): الهُويّات القاتلة، ترجمة: نهلة بيضون، دار الفارابي ANEP، الطبعة الأولى، 2004، ص113. يقول صامويل هنتغتون “الانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية والمصدر المسيطر للنزاع سيكون مصدرا ثقافيا”. راجع كتابه “الصراع بين الحضارات” مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق بيروت 1995 ص17.
[35] ميلفيل جون (هيرسكوفيتس): أسسّ الأنثروبولوجيّا الثقافيّة، تعريب د. رباح النفاخ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد، دمشق-سوريا، 1973، ص75.
[36] المرجع نفسه. يقول صامويل هنتغتون “لن تكون هناك حضارة عالمية بل عالم يضم حضارات مختلفة ينبغي ان يتعلم كل منها التعايش مع غيره”. المرجع السابق ص41.
[37] تورين، (آلان): إعادة بناء الثّقافة، عن كتاب القيم إلى أين؟ م.م.س، ص248.
[38] تودوروف، (تزفيتان): روح الأنوار، م.م.س، ص38.
[39] بندي، (جيروم): م.م.س، ص20.” ليس ثمّة صراع حضارات في عصرنا الرّاهن في إطار هذه العولمة الحضاريّة الرّأسماليّة السّائدة…إلاّ أنّ جوهر الصّراع السّائد والمتفاقم في عصرنا هو صراع مصالح اقتصادية بين البلدان الرّسماليّة نفسها بعضها وبعض، من أجل المزيد من التوّسع والرّبح والهيمنة وإدارة أزمة الرّأسمالي السّائد، هذه الأزمة المتفاقمة اقتصاديا واجتماعيا وقيميّا، ومن أجل طمس الخصوصيّات القوميّة والوطنيّة والثقافيّة عامّة في البلدان النّاميّة وبلدان الجنوب، وتوظيفها لخدمة مصالحها الرّسماليّة الجشعة”. راجع، العالم (محمود أمين): م.م.س، ص84-85.
[40] بودريار، (جان): عن كتاب القيم إلى أين؟ م.م.س، ص54.
[41] م.ن، ص52.
[42] سغان (فيليب): أوروبا والعالم العربي في مُواجهة تحديّات العولمة، في الحوار الثقافي العربي، ندوة الألكسو، معهد العالم العربي، باريس – تونس، 2002، ص33. “إنّ جهود الغرب لدعم قيمه المتعلقة بالديمقراطية والليبيرالية كقيم عالمية والحفاظ على هيمنته العسكرية ودعم مصالحه الاقتصادية تولد ردود فعل مضادة من قبل الحضارات الأخرى”. هنتغتون، المرجع السابق ص24.
[43] بوطالب (محمّد نجيب): الحوار بين الحضارات، الأبعاد والآفاق والتحدّيات، سلسلة كتب شهريّة تصدرها جريدة “الحرّيّة”، أوربيس، تونس 2008، ص 31. وبخصوص “الفجوة الرقميّة”، فهي “مفهوم مستحدث، جاء لينتشر انتشارا واسِعًا مع نهايات القرن الماضي، وهو ما يطلق عليه باللّغة الفرنسيّة عبارة: ” La fossé numérique ” وأحيانًا أخرى “La fracture numérique” كما يطلق عليه باللّغة الانجليزية عبارة “Digital divide” ظهر هذا المفهوم مع ثورة الاتصالات والمعلومات التي توسطت العشريّة الثّامنة من القرن العشرين وهو يرتبط بمفاهيم أخرى مثل العولمة ومجتمع المعرفة وغيرهما. ومفهوم الفجوة الرقميّة في بعض دلالاته هو وريث مفاهيم أخرى كانت قد عرفت طريقها إلى واجهة الخطاب السياسي والتنموي والإعلامي العالمي. فقد اٌنتشر مفهوم “الهُوّة الثقافيّة” ليدّل على الفجوة بين الثقافات والحضارات. كما يرتبط ظهور مفهوم الفجوة الرقميّة بجذور تعود إلى أواسط القرن الماضي وفي علاقة بمفهوم “التخلف” ومفهوم “التأخر” مقابل مفهوم “التقدّم”. هذان المفهومان المرتبطان بحالة توصيف جيوسياسيّة كانت تتميّز باستقطاب العالم بين المعسكرين الغربي والشرقي وبحالة البلدان الناميّة والخارجة توًا من الاستعمار المباشر. لقد ارتبط هذا المفهوم (التخلف) بالركود الاقتصادي وهيمنة أنماط الإنتاج الما قبل رأسماليّة في البلدان الموصُوفة “المتخلفة” أو “بلدان العالم الثالث” أو “البلدان الناميّة”. كما ارتبط المفهوم بسياقات أيديولوجيّة ونظريّة متعدّدة عبّرت عنها مقاربات أنماط الإنتاج والنظريّات الاقتصاديّة المتعلّقة بالتنميّة. كما ارتبطت تلك المقاربات بطبيعة الدّولة السّائدة في تلك البلدان مثلما ارتبطت بمؤشرات التنميّة وبالعلاقة بالمركز الرأسمالي أو الاشتراكي السّائدين آنذاك. إنّ مفهوم “الفجوة الرقميّة” جاء بعد تشخيص الوضعيّة العالميّة انطلاقا هذه المرّة من طبيعة العلاقة بواقع مستوى تكنولوجيّا الاتّصال والمعلومات أو بمعنى آخر بمستوى إنشاء “مجتمع المعلومات” أو “مجتمع المعرفة”. إنّه يعني حالة من التّفاوت بين من يمتلك تكنولوجيّا المعلومات والاتّصالات فيها ويديرها ويوزعها وبين من لا يمتلكها ولا يسهم في إنتاجها ولا توزيعها”. المرجع نفسه، ص66–67.
[44] المرجع نفسه، ص31. لمزيد التعمّق في هذا المبحث وسبل التحرّر من عنف العولمة، راجع، الفصل الرّابع الموسوم بـ: “تجسير الفجوات من أجل الحوار بين الحضارات”، الفجوة الاقتصاديّة والتنمويّة والفجوة الرقميّة. (ص63–71). وكذا، نحو بناء أسس جديدة للحوار بين الحضارات، ص80–84. وفي ذات السّياق، “إنّ العولمة التي تزيّن استبدال لغة هُويّة وافدة باللّغة الهُويّة التي تتوفر عليها بدأت في التراجع قليلا قليلا وبدأت أصوات ترتفع من الغرب نفسه تنقد هذه النّزعة الشموليّة العولميّة التي يأخذها الحنين إلى المراحل الكولونياليّة الأولى. من هؤلاء “جان بودريار”، تزفتان تودوروف”، “ادغار موران” وآخرون. راجع، الطيّب الحميدي، اللّغة والهُويّة والتّسآل الثّقافي، اللّغة من السّديميّة إلى التّخلّق، مجلّة الحياة الثّقافيّة، م.م.س، ص30.
يقول “بول ريكور” في هذا السيّاق: ” يكمن سبب هشاشة الهُويّة في المواجهة مع الآخر باعتباره خطرًا. إنّه أمر … عندما يُنظر إلى الآخر، ولأنّه آخر فحسب، بوصفه خطرًا يتهدّد هويّتنا الذّاتيّة، هُويّة النحن أو هُويّة الأنا. إنّه بإمكاننا أن نَعْجَبَ من ذلك بالتّأكيد: إذ هل يتوجب على هُويّتنا أن تكون هشة إلى حد لا تستطيع معه تحمّل أو معاناة وجود آخرين يمتلكون طرقا مختلفة عنّا في العيش، والتّفاهم فيما بينهم، وترسيخ هُويّتهم الخاصّة في نسيج العيش الجماعي؟ وهكذا، فإنّ مختلف أشكال الإهانة وتحقير الذّات، سواء كانت واقعيّة أو خياليّة، صادرة في الأصل عن عدم اعترافنا بالغيريّة، وهي التي تجعل علاقة الهُوَ عينه بالآخر تنزاح من منطق الاعتراف إلى منطق الرّفض والإقصاء”.
Paul Ricoeur, La mémoire, L’histoire, L’oubli
Ed.Seuil.Paris.2000, pp.98–99.
[45] ريكور، (بول): التّاريخ والحقيقة م.م.س، ص198.
[46] ستراوس، (كلودليفي): العرق والتّاريخ، ترجمة: سليم حدّاد، المؤسسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتوزيع، الطبعة الثانيّة، 1988، ص 12.
[47] ريكور (بول): م.م.س، ص198.
[48] : Un homme pour lui-même, Edition Sociales Française, Paris, 1967. Fromm (Eric)
[49] Ibid.
[50] ريكور، (بول): المشروع الكونيّ وتعدّد التراثات، عن كتاب القيم إلى أين؟ م.م.س، ص83. نشير إلى أنّ أهمّ نتيجة أفضى إليها رسم المشهد الكونيّ مستقبلا بمنظور صامويل هنتنغتون، ذلك الدّحض البيّن لفكرة “الحضارة العالميّة الواحدة”. “فلن تكون هناك حضارة عالميّة، بل عالم يضم حضارات مختلفة ينبغي أن يتعلّم كلّ منها التّعايش مع غيره”. راجع، الصّراع بين الحضارات، مركز الدّراسات الاستراتيجية والبّحوث والتوثيق، بيروت، 1995، ص41.
[51] كوبر (آدم): الثّقافة التفسير الأنثروبولوجيّ، ترجمة: تراجي فتحي، مراجعة: د. ليلى الموسوي، عالم المعرفة، العدد 349، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، مارس 2008، (الفصل السّابع: الثقافة والاختلاف والهويّة) ص245–266.
“يرتبط مفهوم التعددّية في هذا المجال من منطلق السّعي نحو بناء مجتمعات متعدّدة الثقافات وتعتبر الدّيمقراطيّة في هذا الشّأن شرط التفاعل المتجانس بين الثّقافات والشّعوب. فبالديمقراطيّة يتمّ التعايش ويسود الاحترام. وهكذا يكون التنوّع خلاقا وعامل إغناء وثراء للمجتمع والإنسانيّة. وبها يتمّ تجاوز كلّ احتمالات الصّراع والتّوتر بين مُكوّنات الحضارة التعدديّة. وبالدّيمقراطيّة وسيادة القانون يتعزّز النّقاش والتّسامح ويسود الاحترام بغضّ النّظر عن الاختلاف في الجنس أو العرق أو العقيدة أو الرّأي”. راجع، محمّد نجيب بوطالب، المرجع المذكور سابقا، ص51.
[52] دولة (سليم): ما الفلسفة؟ ما الثّقافة؟، بيرم للنّشر، تونس، الطّبعة الثالثة ديسمبر 1989، ص133.
[53] بن أحمودة (محمّد): الأنثروبولوجيا البنيويّة أو من الاختلاف من خلال أبحاث ك.ل.ستراوس، دار محمّد علي الحامّي – صفاقس، تونس، الطّبعة الأولى، ماي 1987، ص78–89.