الحداثة ومشروع النهوض الإسلامي العربي
في العربيَّة نقول: الحداثة، التحديث، المعاصرة، التقدُّم، التمدُّن، الأنوار، التنوير، النهضة. الطليعيَّة، وفي الألمانيَّة نجد Die Moderne, Die Modernität. Der Modernismus. Der Avantgardismus, Die Aufklärung.
ليست هذه مترادفات تماماً، ولكن تستخدم من قبل كثير من الباحثين لتؤدِّي في الغالب إلى نفس المعنى.
ما هو مفهوم الحداثة، أي خطاب الحداثة، أو مشروع الحداثة. وهل هناك فرق بين الحداثة والتحديث؟
تعريف الحداثة هنا، باختصار شديد، هي عمليَّة انتشار المنتجات العقليَّة والعلميَّة والتكنولوجيَّة وهي بالتالي حالة رفض للتصورات القديمة التي تقوم على أساس ديني طوباوي وتمثل في الوقت ذاته حالة قطيعة مع الغائيَّة الدينيَّة التقليديَّة، إنها انتصار للعقل في مختلف مجالات الحياة والوجود، في مجال العلم والحياة الاجتماعيَّة، وغاية الحداثة هي بناء مجتمع عقلاني يحكمه العقل وتسوده العقلانيَّة وهي وجود حالة رفض لجميع العقائد والتصوّرات وأشكال التنظيم الاجتماعي التي لا تستند إلى أسس عقليَّة أو علميَّة.
فالحداثة هي موقف عقلي تجاه مسألة المعرفة وإزاء المناهج التي يستخدمها العقل في التوصّل إلى معرفة ملموسة، وألغت فكرة الذات وفكرة الله المرتبطة بها، فأنصار الحداثة يقولون، لا المجتمع ولا التاريخ ولا الحياة الفرديَّة تخضع لإرادة كائن أسمى يجب الإذعان إليه، أو يمكن التأثير عليه. الفرد لا يخضع إلا لقوانين طبيعيَّة.
أن صعوبة فهم الحداثة الغربيَّة يعود أولا إلى أنها ليست مفهوما اجتماعيا أو سياسيا أو تاريخيا، بل إنها نمط لحضارة ذات طابع مميز، تقف في مواجهة النمط الثقافي السائد.
إنها تتداخل في كل المجالات: الدولة الحديثة، والتقنية الحديثة، والأدب والفن التشكيلي الحديث، والعادات والأفكار الحديثة. إضافة إلى أنها متحرّكة في الزمان والمكان إذ ليست مستقرة وليست ردّ فعل، وثانيا لأنها ليست أداة للتحليل. فليست ثمّة قوانين للحداثة، فهناك فقط سمات عامَّة للحداثة وثالثا لأنه ليس هناك نظريَّة للحداثة،، ولكن هناك منطق للحداثة وعلم أخلاق للتغيير في مقابل أخلاق التقليد.
يجيب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت عن سؤال: ما هو التنوير؟
يقول كانت: ” التنوير هو خروج الاِنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه. وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر، ويجلب الإنسان على نفسه ذنب ذلك القصور، عندما لا يكون السبب فيه الافتقار إلى العقل، بل إلى العزم والشجاعة اللذين يحفّزانه على استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر. لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك! ذلك هو شعار التنوير.
يمكن القول بأن الحداثة مفهوم فلسفي مركَّب قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهيَّة الوجود، ويرتكز المفكّرون عادة في تعريف الحداثة إلى فكرتين أساسيتين هما: فكرة الثورة ضدّ التقليد، وفكرة مركزيَّة العقل.
أمَّا التحديث:
هو التطوّر في مستويات الإنتاج والاستهلاك وفي البنية التحتيَّة والتزام بالنمو الاقتصادي المدعم بالتكنولوجيا، وتوظيف ذلك في الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة. فالتحديث يعني مظاهر الحداثة.
ما هو تاريخ الحداثة، متى بدأت؟
هناك اختلاف في تحديد المرحلة التاريخيَّة التي بدأت فيها الحداثة.. ويرى بعض المؤرخين أنها بدأت مع اكتشاف أمريكا من قبل كريستوف كولمبس، أو مع الأحداث التاريخيَّة الكبرى، التي تمثَّلت بادئ بدء في اكتشاف جاليلو لمركزيَّة الشمس، وسقوط القسطنطينيَّة في أيدي الأتراك العثمانيين عام 1453. أو في حركة الإصلاح الديني في أوروبا التي قادها مارتن لوثر في فتنبرج عام 1517. ومن ثم بدأ هذا المفهوم يأخذ أبعاده الفلسفيَّة والسياسيَّة في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث تتجلَّى خصائصه في ازدهار حضارة جديدة وفي ولادة التفكير الفردي والعقلاني.
النقد الغربي للحداثة
لقد تعرضت الحداثة للنقد وخاصَّة من فكر ما بعد الحداثة، بالرغم من عدم اتفاق واضح للمفكرين لتعريف واحد لمصطلح ما بعد الحداثة، التي تمثِّل حركة فكريَّة تقوم على نقد، وبل رفض الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الغربيَّة الحديثة.
تقول فلسفة ما بعد الحداثة: بأن الحداثة تعلي من شأن العقل وترى فيه مصدر كل تقدّم ومعرفة. الفكر ما بعد الحداثي لا ينكر مبادئ فلسفة التنوير، وعصر الحداثة، التي ساعدت على قيام الثورة الديمقراطيَّة وزوال عهد الإقطاع وقيام النظام الاجتماعي الذي يؤمن بالعدل والمساواة. ولكن في عين الوقت استطاعت النزعة العقلانيَّة في الحداثة أن تقتحم بوابات الجوانب الذاتيَّة في الإنسان وأن تقوِّض حصون الروح الإنسانيَّة بكل ما تنطوي عليه هذه الروح من مشاعر وأحاسيس وحدوس وقيم ذاتيَّة. . لقد تحوَّل الإنسان إلى موضوع للمعرفة العلميَّة وترتَّب عليه أن يخضع لمقتضيات النزعة العقلانيَّة وأن يتخلَّى عن عناصر الخصوصيَّة التي تتميَّز بها الروح الفرديَّة لديه.
إن نقد الحداثة يريد أن يخلّصها من التراث التاريخي الذي اختزلها في العقلنة ويدخل إليها فكرة الذات الشخصيَّة وتحقيق الذات. ـ العمل على إزالة التناقض الحداثي بين الذات والموضوع، بين الجانب العقلاني والجانب الروحي في الإنسان، وذلك من منطلق الافتراض بعدم وجود مثل هذه الثنائيَّة الميتافيزيقيَّة.
في الواقع، جاء النقد ما بعد حداثي من الفلسفة الفرنسيَّة، التي يمثِّلها ميشيل فوكو، جاك دريدا وفرانسوا ليوتارد وجان بوديار. يتكلَّم ميشيل فوكو عن القطيعة المعرفيَّة: كل عصر معرفي جديد يزيح العصر المعرفي السابق. ففي مرحلة سابقة حدثت قطيعة معرفيَّة، تمَّت فيها إزاحة المقدس من مركز الوجود ليحل محلّه العلم والعقلانيَّة، فهو يحاول أن يهدم هذه العقلانيَّة، وأما دريدا يعمل على تفكيكها، بالإضافة إلى التيارات التي أفرزتها الثورة التقنيَّة الجديدة في وسائل الاتصال والمعلومات. في الواقع يتبنَّى كل من فوكو ودريدا المنهج أو الفلسفة البنيويَّة أو ما بعد البنيويَّة والتفكيك، التي اعتمدت التحليل اللغوي للنصّ مدخلا أساسيا للتعامل مع الاِبداع الأدبي . وهذا لا نخوض فيه الآن.
لقد تصدَّى الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس لتيار ما بعد الحداثة، لكن دعونا أن نتعرَّض أولاً للمدرسة الفكريَّة التي يمثّلها، وهي مدرسة فرانكفورت النقديَّة، التي تعرضت لنقد الحداثة والتنوير منذ تكوينها في خمسينيات القرن السابق. فالجيل الأول بقيادة ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو ثم هيربرت ماركوزا، وعالم النفس أريش فروم، قدّموا نقدهم للحداثة والتنوير بالإشارة إلى الجشع وتغذية النزعة الفردانيَّة الضيّقة، ومظاهر التسليع والاستلاب والبيروقراطيَّة والأداتيَّة، بسبب تضخّم وانفجار التقنية، التي تصبح أكثر اهميَّة وأكثر سلطة على الاِنسان، فتحوّل الاِنسان نتيجة الحضارة الماديَّة إلى أداة وشيء أي التشيّوء، وقاموا بنقد الماركسيَّة في صورتها السوفيتيَّة. أن التسلّط الكامل على الطبيعة والاِنسان، تولَّد عنه النظم الشموليَّة والتسلطيَّة، كالنازيَّة والفاشيَّة والستالينيَّة الشيوعيَّة، وبذلك دمَّر العقل نفسه وفشل مشروع الحداثة وانتهى إلى البربريَّة. وأصبح العلم دين العصر الجديد. ويدعون العودة لقراءة كارل ماركس من جديد. ونذكر هنا كتاب هوركهايمر وأدورنو (جدل التنوير)، وكتابي هيربرت ماركيوزا (الاِنسان ذو البعد الواحد) و( العقل الثورة).
أمّا هابرماس وهو يمثِّل الجيل الثاني من المدرسة، فدافع عن العقل، تحت نظريته العقلانيَّة التواصليَّة، وعن الحداثة وبين مكاسبها وأزماتها، أي ما يمكن الاحتفاظ به وما يمكن تجاوزه ودافع عن الذاتيَّة للحفاظ على استقلال الذات وإنقاذها من الضياع، كما جاء ذلك في كتابه المهمّ “الخطاب الفلسفي للحداثة” وفي كتابه الآخر بعنوان (الحداثة مشروع لم يكتمل)، يتناول فيه بالنقد لكثير من الفلاسفة مثل ليوتار، ميشيل فوكو، ودريدا وهايدجر، وردّه على كتاب فرانسوا ليوتارد بعنوان “وضع ما بعد الحداثة”.
– الخطاب الفلسفي للحداثة،الحداثة مشروع لم يكتمل.
أكسل هونيت يمثِّل الجيل الثالث من المدرسة وتلميذ هابرماس ويعارض نظريته التواصليَّة، ويقدم نظريته النقديَّة الجديدة: الحبّ والاعتراف والتضامن، كلمات لا تحتاج إلى تفسير لوضوحها، فهي تساهم: في تشخيص مختلف أشكال الظلم أو الاحتقار الاجتماعي التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، ممّا يسمح بتأسيس معايير أخلاقيَّة يحصل من خلالها الأفراد على الاعتراف.
يقول ناعوم تشومسكي أنَّ الاعتقاد الديني والاِيمان بالغيبيات الدينيَّة لا يؤدِّي بالضرورة إلى موقف معاد للعلم، إنَّ الاعتقاد الديني لا يحوّل العالم إلى جاهل، كما أنَّ رفض الدين لا يجعل من الجاهل عالماً.
العالم أسحق نيوتن والفيلسوف ايمانويل كانت كانا متديين. نيوتن لم يلجأ في إثبات نظرياته العلميَّة إلى أساليب تتعارض مع العلم، ولكم ستالين غير المؤمن كان يسمح لنفسه بتزييف التاريخ لإعلاء شأن نظريّته التي كان يعتقد أنها علميَّة.
تعرّضت في أوائل القرن العشرين معظم دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينيَّة إلى تأثير غربي واسع تحت الاحتلال وبعد التحرّر أيضاً، أمّا الدول القليلة التي لم تحتلّ مثل الصين واليابان وإيران فكانت تشعر بأنها مهدَّدة ثقافيا واقتصادياً وعسكرياً من قبل القوى الغربيَّة أيضاً. فقد صدمتهم جميعا القوَّة الهائلة للغرب. ولكنَّنا نركز هنا على منطقة الشرق الأوسط فقط، وعن كيفيَّة استجابتها للحداثة الغربيَّة.
ونعرض باقتضاب:
الحداثة والإصلاح الديني، الحداثة والإصلاح السياسي (أي الليبراليَّة السياسيَّة)، الحداثة والإصلاح الفكري والفلسفي (أي العقلانيَّة العلميَّة)، والإصلاح الثقافي والأدبي والفني.
كانت في البلدان العربيَّة، قبل وبعد سقوط السلطنة العثمانيَّة، نوع من الحداثة الجنينيَّة ، فجاء الاستعمار والغزو الفرنسي على مصر على إجهاضها، المقصود هنا حركة الاِصلاح الديني بقيادة جمال الدين الافغاني.
تحديداً نحو العام 1880، بدأ يرتسم التيار الاِصلاحي السياسي الديني، مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. موقف واضح ضدّ محاولة التقليل من قيمة الدين الإسلامي، ويؤسِّس لرؤية إصلاحيَّة متعارضة مع منطق التنوير الغربي. وتقبَّل الأفغاني مبدأ الفصل بين السلطتين : الزمنيَّة والروحيَّة. ويرى أنَّ الحضارة الغربيَّة حضارة جشع وحروب، ولا يمكن يكون التقدّم الحقيقي إلا تقدّما إنسانياً، وأخلاقياً وذا قاعدة روحيَّة. وهو لا يرفض الحضارة الحديثة ويراها لا تتعارض مع الدين، وهذا ما قام به تلميذه المصري محمد عبده: تطهير الاِسلام، والعودة إلى الماضي المبكر التقي. ونقده للسلطة الدينيَّة وأن النظام السياسي مدني في الاِسلام. وبإمكانيَّة التوفيق بين الإسلام ومتغيرات العصر ولكن المفارقة تتعلق بموقفه المعارض لتلميذه فرح أنطون الذي كان له موقف واضح في موضوع العلمانيَّة وفلسفة أبن رشد. أما العودة الكثيفة إلى الماضي واستعادة خطاب الأصوليَّة والسلفيَّة، جاءت من أكبر تلاميذه وخليفته وهو الشيخ محمد رشيد رضا (لبنان) لتمتد بجلاء بعد ذلك، إلى فكر الشيخ حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين.
ولكن في نفس الوقت ظهور نموذج غير ديني تقليدي، مواكبا حركة الدولة الحديثة، ونشير هنا إلى عالمين مستنيرين، اللذين ارتبطا بتأسيس الدولة المدنيَّة، ومحاولتهما التوفيق بين المرجعتين الاِسلاميَّة والنهضويَّة الأوروبيَّة ونقد التقليد والبدع. وهما رفاعة رافع الطهطاوي (1801 ــ 1873 )، وعبد الرحمن الكواكبي ( حلب 1848 ــ 1902 ). وجهودهما في نشر التربية السياسيَّة وفي التعليم والترجمة. وفي هذا الصدد، خير الدين التونسي وكذلك الشيخ علي عبد الرازق وكتابه المهم “الإسلام وأصول الحكم ــ 1925″. والردّ فيه على الداعين على إحياء مؤسَّسة الخلافة (الخلفيَّة” الملك فؤاد كان يريد أن يصبح خليفة للمسلمين بعد ما تم إلغاء الخلافة من كمال اتاتورك 1924، بعد سقوط السلطنة العثمانيَّة)، والتمييز بين الديني والسياسي ونقده الموجّه إلى الفكرة الثيوقراطيَّة عن السلطة والدولة، ومسألة الصلة بين السياسي والديني في الإسلام. ونشير إلى طه حسين وكتاباته الخاصة المكرسة للدفاع عن الحداثة في وجه التقليد، مثل كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” وهو مشروع تربوي شامل، واحتذاء المثال الأوروبي في مجال الحداثة، فيقول “ليس صحيحاً أن السير في المثال الليبرالي الحديث لا يقود إلا إلى فقدان الاستقلال والشخصيَّة الوطنيَّة … لا معنى لمناهضة الحداثة سوى إطالة أمد التأخّر والتخلّف عن ركب الحضارة الإسلاميَّة”. وكذلك كتابه الإشكالي “في الشعر الجاهلي”، وشجاعته في نشر هذا الكتاب.
وفي مجال الليبراليَّة السياسيَّة نذكر مثال أحمد لطفي السيد (مصر) ودفاعه الشديد على مسألة الحريَّة ومركزيتها في المجتمع والفكر، وعن الدستور وتجاوز الاستبداد ولطفي السيد أشد انفتاحا على الفكر الأوروبي الحديث.
ونشير إلى محمد علي باشا وتجربته في الإصلاح والبناء وإلى الفكر القومي في صيغته الناصريَّة أو البعثيَّة، صحيح كان هناك تقدّم في مجال التحديث لا الحداثة، ولكن انتهى هذا الفكر إلى دولة تسلطيَّة بعيدة عن آمال وأحلام مواطنيها في الحريَّة والديمقراطيَّة وحقوق الاِنسان وحقوق المرأة والمواطنة.
وفي مجال الإصلاح الفكري والفلسفي أي ( العقلانيَّة العلميَّة) فنقدِّم بإيجاز بعض المفكرين، وأبحاثهم في علاقة الاِسلام بالغرب، والبحث عن كيفيَّة وتجاوز التأخّر التاريخي العربي وبناء مشروع الحداثة العربيَّة وتحقيق النهضة العربيَّة الشاملة. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، عبد الله العروي(المغرب) وخطابه، دفاع عن الحداثة والتحديث ودعوة العرب إلى التعلّم من مكاسب الفكر الغربي المعاصر، ويقول إنَّ معركتنا السياسيَّة مع الغرب لا ينبغي أن تجعلنا نغفل المشروع الحضاري الغربي في كليته وشموله ومنجزاته الماديَّة والرمزيَّة، ودفاعه عن ضرورة التصالح مع الذات ومع العالم، منطلقاً من فكرة عالميَّة الحضارة وداعياً إلى تضمين التاريخ العربي الإسلامي داخل التاريخ العالمي، ممّا يتعارض مع موقف دعاة الخصوصيَّة الثقافيَّة.
ثمّ نشير إلى مشروع المفكّرين محمد عابد الجابري (نقد العقل العربي) ومحمد أركون (نقد العقل الاِسلامي)، وكلاهما يستلهم مقدّمات ومفاهيم وفرضيات العلوم الاِنسانيَّة. فالجابري يبحث في التراث، ولكن ليس بالأسلوب تقليدي، وانما بهدف إنجاز مشروع في الحداثة الفكريَّة في الوطن العربي، أي مشروع لا يقطع تماما ولا كليَّة مع تراث الماضي. ممّا يضعه في مجال الموقف التوفيقي. أمّا أبحاث أركون وخاصَّة في مجال الإسلاميّات التطبيقيَّة، فهو يخضع القرآن الكريم لمعيار النقد التاريخي المقارن وللتحليل اللساني والسيميائي وللتأويل الفلسفي، المرتبط بإنتاج المعنى وإعادة إنتاجه. وقد ترتَّب على أعماله فهم جديد لكثير من الظواهر الموصولة بالظاهرة الإسلاميَّة. حسن حنفي باحث غزير الإنتاج، وباحثا في التراث الاِسلامي العربي بعمق، من أجل التنوير ويطلق على مشروعه (التراث والتجديد) أو اليسار الاِسلامي، لا أدري ماذا تعني “اليسار الإسلامي”، وهل أطلقها على نفسه أو جاءت من ناقديه؟ وهو توفيقي مثل الجابري، مع الاختلاف في طريقة تصدّيهما لقضيَّة التراث، كما هنا إشارة إلى كتابه “مقدَّمة في علم الاستغراب”، وهو يريد بذلك، إذا كان علم الاستشراق هو رؤية الشرق من خلال الغرب، لماذا لا نقوم نحن بالعكس، ونقوم بدراسة الغرب. لا يمكن إنكار، بأن هناك أهداف استعماريَّة وراء الاستشراق، وفي عين الوقت قام المستشرقون بالكشف وتحقيق النصوص في مختلف المجالات وهذا مكسب كبير، والاستشراق الآن يختلف عن صورته الكلاسيكيَّة نتيجة لتطوّر العلوم الاجتماعيَّة والمنهجيات الجديدة، وما بعد الحداثة، فالاستشراق الألماني على سبيل المثال، ينضم إلى علم التاريخ، أو الأنثروبولوجيا أو علم الاجتماع … والآن توجد في الجامعات الألمانيَّة العديد من المعاهد، التي تعني بالدراسات الاِسلاميَّة والعربيَّة. لم تجد في الواقع دعوته أو هذا المفهوم استجابة من غالبيَّة الباحثين. ويقول محمود أمين العالم، “بأن كتاب حنفي، يكاد يكون عرضا محايدا دون تحليل أو تقييم أو دراسة نقديَّة، كما كنا نتوقَّع”. لقد استقبلنا هؤلاء الأساتذة الأفاضل، الجابري، أركون وحنفي أكثر من مرّة في برلين. هناك الكثير من المفكرين الآخرين لا يمكن ذكرهم جميعا، مثل شبلي شميل وسلامة موسى …إلخ،والخلاصة: إن الهدف الأساس لهؤلاء المفكرين الإسلاميين، هو إبراز كيف يمكن للمسلمين أن يمتلكوا ماضيهم دون أن يسجنوا أنفسهم بداخله.
الحداثة في الأدب والفن. حداثة الشعر نازك الملائكة، السياب البياتي، يوسف الخال ، أدونيس محمود درويش، سميح القاسم صلاح عبد الصبور حجازي في الرواية نجيب محفوظ الياس خوري وآخرين … هل وأكب النقد الأدبي العربي الحداثة؟ يقول سيد البحراوي في كتابه “البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث” ،مشيرا إلى واقع الثقافة المصريَّة، لم يعد هناك مشروع ثقافي حتى للتبعيَّة. ويكتب عبد العزيز حمودة ” لم تكن الثقافة العربيَّة إذن، مُفلسة، ولم يكمن العقل العربي، قط، متخلفا. كل ما حدث أننا في انبهارنا بإنجازات العقل الغربي وضعنا إنجازات البلاغة العربيَّة أمام مرايا معقرة صغرت من حجمها وقلَّلت من شأنها”. وأنا أتساءل: هل معنى ذلك، أن النقد العربي لم يواكب الحداثة، بمعنى عدم تقديم نظريَّة نقديَّة عربيَّة تضاف إلى تراثنا النقدي؟ هذا ما لا أستطيع الردّ عليه.
ونجمل هذه الفقرة” في عقلانيَّة إصلاحيَّة إسلاميَّة، وعقلانيَّة ليبراليَّة سياسيَّة ، وعقلانيَّة توفيقيَّة وعقلانيَّة نقديَّة.
وفي نهاية مداخلتي:
كيف نصل إلى الحداثة والتحديث؟ علي عبد الرازق يفصل من القضاء الشرعي، الكواكبي يموت مسموماً على أيدي عملاء السلطان عبد الحميد. طه حسين يطرد من جامعة القاهرة، نصر حامد أبوزيد يكفر بسبب كتابه( مفهوم النص)، نجيب محفوظ يتعرَّض للطعن بسبب روايته أولاد حارتنا التي يناقش فيها قضيَّة العلم والإيمان، الطهطاوي ينتقد ويعارض الباشا محمد علي، ويتم إبعاده ونفيه إلى السودان، نزار قباني يهاجم لأشعاره الوطنيَّة ومحمود درويش في رائعته أحد عشر كوكبا، بسبب العنوان الذي يشير إلى رؤيا النبي يُوسف عليه السلام. محمود محمد طه المجدد السوداني الإسلامي يعدم في السودان، على يد الجلاد النميري. واغتيال الكاتب المصري فرج فودة، قتل بالرصاص في إحدى شوارع القاهرة الكبيرة المكتظَّة بالمارَّة، وتخرج المظاهرات من جامعة الأزهر الشريف تندّد بالكاتب السوري حيد حيدر وروايته “وليمة لأعشاب البحر”، وتُمنع كتب أدوارد سعيد في فلسطين، وتحرق كتب أبن رشد، وتستقبلها أوروبا بشغف وترحاب. صادق جلال العظم وكتابه بعد هزيمة 1967 ، وتهديد سيد القمني بالقتل وإهدار دمه. والقائمة تطول وتطول.
لا شكّ جَمَعَ مشروع الحداثة الغربيَّة بين الهيمنة و المصالح الأوروبيَّة. ولكن في عين الوقت أعلى من شأن كل ما هو عقلاني وإنساني وتاريخي. لقد انخرطنا من أجل تملك مقدمات وأصول الحداثة الغربيَّة المعاصرة، وهذا ما ساهم فيه الكثير من مفكرينا وباحثينا، كما أننا لم يعد بإمكاننا أن نتنكر اليوم لمكاسب ومنجزات هذه الحداثة وقيمها، وهي كونيَّة، وليست مقصورة على أوروبا أو الغرب. ولكن أين الخلل ونحن نعيش الآن حالة الدمار الكامل في العالم الاِسلامي والعربي، وأين الحل؟
حاشية:
أوَّل التجديد قتل القديم فهماً (الشيخ الأمين الخولي). لماذا لا نعتبر العهد العباسي عهد حداثة وأن شعر أبي تمام وأبي نواس شعر حداثي؟
وقول الشاعر الحداثي القديم، أبي تمام:
فنفسك قط، أصلحها ودعني من قديم أب
في كتاب (في الشعر الجاهلي) يفرِّق طه حسين بطريقة حاسمة بين العلم والأيديولوجيا. وهو يتَّخذ في بحثة مبدأ الشكّ. يقول طه حسين: “سبيل الباحث المحقّق، إن انتهى من درسه إلى حقّ أو شيء يشبه الحقّ، أثبته محتفظا بكل ما ينبغي أن يحتفظ به من الشكّ الذي يحمله على، أن يغيِّر رأيه ويستأنف بحثه ونظره من جديد”.
بيت شعر لحافظ إبراهيم في إحدى قصائده، إشارة إلى مبدأ الشكّ
هل أتاك اليقين من طرق الشكّ فشكّ الحكيم بدء الصواب.
*مداخلة قدّمت في ندوة “الملتقى العربي للفكر والحوار”، بالعنوان أعلاه، بتاريخ 26 يناير 2021.
** المصدر: موقع سودانيل.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.