التنويريسلايدرفكر وفلسفة

الذات المفكِّرة والتراث بين الهويَّة التراثيَّة والهويَّة المكانيَّة

لقد أصبحت مسألة الموروث الثقافي والأصالة والتراث عملة رائجة في سوق المثقّفين وموضة كل المنتديات واللقاءات الفكريَّة والثقافيَّة، ويكفي أن نلتفت قليلا الى الوراء حتى نجد كم شهدت الحقبة الفائتة من الطروحات والأطروحات في الفكر العربي بكل مستوياته، على مختلف الأصعدة والطبقات الفكريَّة والفلسفيَّة بكل الأبعاد والاحتياجات، والتي تمثَّلت بالكم الهائل من المؤتمرات والندوات التي عقدت حول إشكاليَّة الموروث والعلاقة التي يجب أن تربط الأمَّة بماضيها وموروثها الثقافي.

 

هذه الطروحات تناولت القضايا الجوهريَّة الأساسيَّة في محدّدات الجماعات والأفراد ولعل من أهم هذه القضايا ما يتعلق بـ “الهويَّة ” و”التجذّر التاريخي” و”التراث” والعمق الحضاري، وكل ما اتَّصل بهذه الموضوعات ومصطلحاتها المنبثقة عنها كالاصالة والخصوصيَّة والانفصال عن الدخيل والأمَّة والوحدة والكونيَّة.

 

مقالات ذات صلة

بدون شكّ فإنّ هذا التوجّه يلهب مشاعر الفرد العربي بشكل عام، ويؤجِّج إحساسه، الذي يستشعر من خلال مفهوم “الأمّة” المتخيّلة في ذهنه، وعقليته ويرى فيه صورة “البطل ” و” القائد ” هذه الصورة المتخيّلة ترضي “نرجسيَّة الأمّة ” وتثري ” الأنا العربي”.

والذي يُراجع التاريخ يكتشف دون جهد أنّ الأمم والشعوب تزداد انشغالاً بتاريخها وماضيها حين يكون حاضرها مأزوماً ومؤشّرات أسهمها الحضاريَّة في هبوط، وهذا قد أشار إليه الكثير من مفكّري العصر الحالي والفلاسفة عبر التاريخ ولا يحتاج الى الأدلَّة والبراهين للتدليل عليه.

 

فالأزمات الكبرى التي تطال “أنا” الإنسان الحاضر تدفع به آليًّا إلى البحث عن “الأنا” الماضي عبر الغوص والبحث عن مسوّغات تاريخيَّة تعيد لذاته المتصدّعة اعتبارها من جديد عبر اجترار الماضي “المجيد”، لذلك فإنَّ الخطاب العربي بعد 1967 شهد انشغالا واسعًا وعميقا بالإرث الفكري والعقدي.

 

وقد طرحت هذه القضايا والموضوعات بعمق أحيانا في ظلّ تشابك قوي بين عناصرها في مواجهة ما كان يسمى ـ بالغرب ـ وكانت أشبه ما تكون بردّة فعل عكسيَّة لذات متصدّعة تخشى على كينونتها وصيرورتها تريد مواجهة «الآخر» خوفا على «الأنا»، باحثة عن معززات «الذات» ناعتة «الآخر» بأوصاف شتى مصوّرة أفعاله بكافة المصطلحات التي راجت ومنها” الغزو الفكري والثقافي ” و«تارة» الهجوم الإعلامي وتارة “الحرب النفسيَّة” وتارة ب “العولمة “، طارحة مصطلحات مقابلة كالاصالة والهويَّة والخصوصيَّة، وكانت الأوليات الدفاعيَّة في معظم الأحيان تأخذ بُعدًا نضاليًّا وجهاديًّا، وبدأ المفكّرون سيمَا الإسلاميون منهم باستجلاب التاريخ النضالي، واستنفار المخزون العقدي الذي يُؤصل لـ”الجهاد ” ومفاهيمه و”النضال” ورموزه ، وطُرحت قضايا”دار الحرب ” ودار الإسلام من جديد ” …… وبات يُصَوّر للشعوب أن هناك ” مؤامرة ” مدبرة يحيكها هذا الآخر.

 

ونتيجة لكل ذلك تضخَّم الوعي بالذات الجماعيَّة، وباتت طروحات التراث وتملكه، سيدة الموقف، تحسّبًا لمستقبل غامض من العلاقات مع الحضارات والجماعات الأخرى.

 

وبعدما ازداد المشهد الإقليمي والدولي تعقيدًا خصوصًا بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر خرج هؤلاء “المفكرون” أنفسهم الى تبرئة هذا “التراث ” من المفاهيم التي طالما حاولوا تثبيتها، وحاولوا استخراج تراث مضاد للتراث الذي استخرجوه سابقا، خوفًا من وصفهم بـ”الإرهاب ” وعادوا الى تعديل موقفهم من جديد، بمحاولة تأصيل المفاهيم من جديد بما يتلاءم مع المتغيرات السياسيَّة ، وانكبّوا ينكشون مفاهيم “السلام ” ومشتقاته ويبرزونها.

هذا الكرّ والفرّ كلّه لا يتعدّى كونه ردود فعل وجدانيَّة على هزائم متلاحقة أفرزت تخبط في المنظومة الفكريَّة عند المثقفين لا سيما النضاليين منهم.

 

ويزداد المشهد السياسي تعقيدا على الساحة العربيَّة و” العراقيَّة ” تحديدًا ، ليعيد طرح المفاهيم “الجهاديَّة ” من جديد ،ونجد أنفسنا أمام مفارقات غريبة خصوصا على الصعيد التاريخي، فالإنسان العربي على العموم والعراقيين على وجه الخصوص بمسلميهم ومسيحييهم ويهودهم وكافة اثنياتهم وأعراقهم، يبحثون ويفتِّشون عن «هويتهم» في إطار عرقي ديني طائفي وحتى مذهبي يغرّبهم ويعزلهم عوضا عن السعي لفهم هويتهم في ضوء الوحدة الحضاريَّة التي يشكلون، وهذا مع وجود من يدعو الى نبذ كل ذلك ورفع الوطنيَّة فوق كل اعتبار غير أن الدعاة الحقيقيين لذلك لا يشكِّلون نسبة تقود الشعب إلى بر الأمان.

 

وكل هذا المشهد البانورامي الفكري المأزوم يضعنا أمام إشكاليَّة حقيقيَّة مطروحة وسؤال ملحّ مفاده : هل من مؤامرة فكريَّة حقيقيَّة لحضارة ما في مواجهة الحضارات الأخرى؟ ترمي بنا لمستقبل غامض من العلاقات مع الحضارات والجماعات؟

أم هناك عامل تاريخي، وتطور في الحضارات الكونيَّة تفرض نوعا علائقيا جديدا بين الإنسان والإنسان، وعلاقة الإنسان بالمكان والزمان والعلاقات بالموجودات والكائنات، وعلاقة هذه الكائنات بالوجود فتتغير المفاهيم والمقاييس والمفردات والأدوات؟

إن كل المقدّمات التي أشرنا لها تضعنا أمام أطروحة “التراث يؤكد الهويَّة “، هويَّة لكيان واحد، وان وحدتها العضويَّة هذه متأصِّلة في التاريخ والعمق التراثي والحضاري.

ولكن ربط الهويَّة الحاليَّة بالتراث الماضي يرمي بنا حاليّا في مأزق ممكن أن نخرج منه إذا تغيرت منهجيَّة التفكير وآلياته وذلك عبر تحليل البُعد الفلسفي والانتروبولوجي لهذا الربط والبحث عن نظرة مغايرة يستطيع المثقَّف من خلالها خروج من هذا المأزق، وهي أن حديثنا عن التراث لابد وأن يكون مبنيا على فلسفة معينة عن مفهوم الهويَّة وتعريف دقيق لمحتوى المصطلح، فالنظرة الى التراث قد ترتبط بفلسفة عن الهويَّة قائمة على رفض الآخر أو تكون مرتبطة بفلسفة عن الهويَّة تؤدِّي إلى إغناء التراث وتعدّده.

 

-النظرة الأولى: تعتبر «الآخر» طرفا منفصلا عن “الذات ” وبالتالي تقذف به خارجًا وتنفيه وتحاربه وهذا سيؤدي الى انغلاق “الذات ” فتعمد كل إثنيَّة إلى ترسيخ ” هويتها” وتزكي تراثها وموروثها بالقدسيَّة وتظهر ” الهويَّة ” بشكلها الخالد، فتصبح عمليَّة إلغاء “الآخر ” لحظة بناء حاسمة في هذه الهويَّة.

 

–  النظرة الثانية : تنبني على الانطلاق من مفهوم أنه لا وجود لـ “أنا ” و” هو” وفكرة الذات مقابل «الذات» لتتعارض معها غير موجودة ، والآخر هو أنا، والذات قابلة للتغيير والتبديل ، وبناء عليه فإن الحضارة الأخرى والمفاهيم والأيديولوجيات كلها وكل ما يحمل هذا الآخر من مخزون حضاري ممكن أن يدخل ويمتزج مع الذات فيغيرها ويطورها أو لا يطورها. وهنا لا يعود نفي الآخر جزء من منظومة بناء الهويَّة بل يصبح الآخر موجود قائم داخل «الذات»

ولو أمعنا النظر جيدا لوجدنا أن النظرة الثانية هي التي تسود حالة ازدهار الأمم، والحضارات عندما تكون في أوج ازدهارها تكون في أقصى حالات انفتاحها الفكري والثقافي .

 

وفي هذه الحالة لا ننعت الفكر الآخر بـ “الغزو الثقافي ” و” الاستعمار الفكري ” بل نجده ” فتح فكري ” ونتعامل معه على أنه مكمّل لنا فنتماهى معه ونتوحَّد به بغض النظر عن اللغة أو اللون أو العرق، وتصبح الذات كونيَّة لا تُحد بحدود، ويصبح خطاب الآخر هو حوار الذات ، وتصبح التعدديَّة احد أهم خصائص الهويَّة ، هويَّة كونيَّة خارج كل الهويات، هويَّة مركبة واسعة، علاقتها بماضيها وحاضرها ومستقبلها مبنيَّة على غنى تعددي لا محدود، تتجاوز كل الحدود الجغرافيَّة والسياسيَّة وكل التقسيمات الدينيَّة والعرقيَّة والمذهبيَّة والإثنيَّة .. هذه الفلسفة تتيح إنتاج أدوات للتغيير واستراتيجيَّة منفتحة للإبداع .

 

وأمام هذا الطرح لا يوجد فكر “مقاوم ” مقابل ” غزو” ولا ” أصالة ” مقابل ” عمالة فكريَّة “، لا توجد ثقافات بل ثقافة بلا تيارات وتصبح العمليَّة الدائرة ضمن الهويَّة عمليَّة سلب وايجاب ، إخراج وإدخال، فترتمي هذه الهويَّة في تعدديَّة حضاريَّة كونيَّة لا متناهيَّة، تصنع المستقبل صناعة فكركوني، ويصبح الإنسان ينتمي لمنظومة وجوديَّة متكاملة متناغمة، ترى في الكون المنظومة الأرحب للانتماء تقف مع كل ما يدور حولها موقفا وجوديًّا، مهما كانت اتجاهاته الفكريَّة وانتماءاته الأيديولوجيَّة والعقديَّة.

_______

*الراصد التنويري- العدد (5)- أغسطس/ آب 2009.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة