لعلّ السؤال الأهم الذي يطرحه المسلمون في الغرب بقوّة هو: من نحن؟ ويرتبط السؤال، بصورة وأخرى بالهويَّة.. إذن ما تعريف الهويَّة؟
تتشكّل الهويَّة الإنسانيَّة نتيجة التفاعل بين العقل والسلوك، أي أنّ الأفكار داخل العقل ستعبّر عن ذاتها بسلوك معيّن في الوقت الذي ستؤدّي فيه محاولات تغيير الواقع إلى ظهور تحدّيات ومشكلات تتعلّق باستجابة العقل لهذه الأفكار، بمعنى التجديد لحالة تغيير متّصل ومن شأن هذا يجعل أن يجعل الهويَّة متّسقة ومستندة إلى مكوّنات ثابتة أو ساكنة وأخرى متغيِّرة. فالعناصر الثابتة في هويَّة المسلم أو المسلمة، سواء كان الأمر حاضرًا أو قبل نصف قرن، لم تتغيّر البتة. والمسلم الطائع لربّه بصلي كواجب خمس مرات، وهو ما يفعله المسلمون منذ أكثر من ألف عام دون أن يحدث على تلك العبادة أي تعديل أو تغيير.
أمّا العناصر المتحرّكة فتمثّل التغيير في البيئة الإسلاميَّة أو الظروف التي تحيط بالمسلمين في حياتهم اليوميَّة من ملبس ومأكل وتكنولوجيا وجغرافيا ومعلومات وبيانات وغيرها، لهذا تنزع نظرة المسلمين إلى أنفسهم نحو تصوّر مثالي للهويَّة يعتبرها مكتملة بالفعل في شكلها النهائي، ليس بوصفها صيغة لم تكتمل بعد.
الهويَّة عمليَّة ديناميكيَّة تتعلّق بعامل الزمن وتتغيّر وتتفاعل مع التغيّرات الحاصلة حولها والمتفاعلة معها، إضافة إلى ذلك فالهويَّة قضيَّة مركّبة وليست وحدة متراصّة. وخلال عملي الجامعي هويتي العمليَّة هي الأكاديميَّة، وفي المساء أتابع نشرات الأخبار من الأقنية العربيَّة نظرًا لخلفيّتي الإثنية، كما أودي واجباتي الدينيَّة لأنّني مؤمن بالدين الإسلامي، وأسافر في الوقت ذاته حول العالم بجواز سفر بريطاني كوني بريطاني الجنسيَّة. وفي هذا الإطار فالتناغم بين تلك الهويّات المتعدّدة يدفع نحو أداء دور مركّب متناسق بينها بعيدًا عن الصراع والتناحر.
السؤال الثاني الذي يتوجّب طرحه هو: هل أنتمي إلى بريطانيا أو الغرب؟ والجواب بأن بريطانيا أو الغرب ينتمي لي، حيث أنَّ كثيرًا من المفاهيم والقيم الأوروبيَّة اشتقّت من المفاهيم الإسلاميَّة، كما نرى في العقلانيَّة لابن رشد، أو حرّيَّة التفكير والتعدّديَّة، ومن هذا المنطلق يجعل من إسلاميَّة الفرد أو الجماعة متّصلة، بشكلٍ أو بآخر بالهويَّة الأوروبيَّة الغربيَّة وبمعنى أوضح إسلاميَّة الفرد لا تعرّف بالتضاد ونفي الآخر.
نختلف لأنّ الاختلاف أمر طبيعي في الحياة، وحتى داخل أوساط المسلمين؛ إذ يدعو قسم من المسلمين للبحث عن الاختلاف بشكله الاستقطابي أو التضادّي لأسباب خلفيّتها سياسيَّة. لذا فالإسلام يحثّ على العيش المشترك وأهمّيَّة المساحة المشتركة، كما أنّ حركة التماثل والاتّساق على شكل الموجة ليست حالة صحّيَّة في المجتمع الذي يتمتّع بخواصّه أو حالته السائلة.
السؤال الآخر المتعلّق بالهويَّة هو: لماذا نبحث عن الانفصال أو العزلة في الغرب؟ هل لاعتقادنا بأنّ نظام أخلاقنا متميّز، أو لعدم تلويث إيماننا عند الاختلاط بغير المسلمين، أو لأنّنا سيكولوجيًّا لم نغادر موطن ولادتنا أو خلفيّتنا الثقافيَّة.. أو لأنّها آليَّة دفاع ذاتيَّة، لذا نفضّل حياة الغيتو والانعزال.
تعاني أوساط الجالية المسلمة الكثير من المشاكل الأخلاقيَّة والغشّ والتحايل والاغتصاب، كما هو الحال مع بقيَّة البشر، كما أنّ التراث ذو أهمّيَّة بالغة للفرد أو المجتمع، غير أنّ التراث الذي لا يتجدَّد بالتغيير، باعتبار التغيير جوهر الحياة، يصبح عادة خارج الزمان والمكان، جامد ومفصول عن المجتمع وحاجاته.
وعلى هذا الأساس تطوّرت الشريعة في القرون الوسطى ولم تصبح تراثًا، حيث ظلَّت احكامها وقوانينها التي طوّرت من قبل البشر آنذاك، كما هي اليوم، الأمر الذي أدّى إلى التناقض والعنف وغيرها من الظواهر السلبيَّة التي نراها اليوم في عالم المسلمين.
لا بد من القول إنّ القراءة الإسلاميَّة في عصرنا قائمة على ثوابت فقهيَّة وليست قرآنيَّة، فالقرآن مع التعدّديَّة مثلما تشير العديد من آياته، وهو مع الحرّيَّة كما في كلماته الواضحة.
التكامل (وليس الاندماج) مع المجتمع الأوروبي يعني الإيمان بثوابت القرآن في الحرّيَّة وترسيخ كرامة الإنسان وتعليمه ورعايته. والأهمّ ما في التكامل هو الانشغال في الشأن العام.. أي الفعل أو العمل وليس الصوت، كما يعني الارتباط مع الآخر وقضاياه العامّة، وعدم الانشغال بالشان العامّ يعني انتفاء الحضور الضروري للمسلمين لإيجاد حلول لكثير من المشاكل ويعزّز بالتالي غيابهم الواضح في مجالات السياسة والميديا والقانون وغيرها.
والجدير ذكره أنّ التعامل مع الشأن العام هو أحد مصادر القوّة كونه يعني مساواة المسلمين مع الآخر ذهنيًّا ونفسيًّا وعقليًّا. وجانب من دورهم في السعي لاكتساب القوّة هو قبولهم بفكرة التساوي، خاصّة في الدول التي يمثّلون فيها الأقلّيَّة، الأمر الذي يكسب المسلم احترام الذات الذي يؤدّي بدوره امتلاك القوّة.
وتأسيسًا على ذلك فإنّ أمام المسلمين خطوات مهمّة لامتلاك أسباب القوّة بدلاً من انتظارها من الآخرين، إذ بوسع الآخر أن يجرّدهم من أسباب القوّة متى شاء تحت مسمّيات ويافطات عدّة.
_______
*الراصد التنويري- العدد (5)- أغسطس/ آب 2009.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.