لقد لُقّنا ونحن في مقاعد الدراسة أنَّ العصور الأدبيَّة تنقسم في خطوطها العريضة إلى عصر ازدهار وعصر انحطاط وعصر نهضة، ففي أي من هذه العصور يمكن أن نُلحق هذا العصر الذي نحن فيه.
إنَّ المتأمِّل لصيرورة الحركة الفكريَّة يلاحظ جمودا في الإنتاج العلمي، الإنتاج الجادّ الذي يضفي قوَّة على المشهد العلمي، بمعنى أن ما ينتج على كثرته مصاب بالهزال، فلا يسمن ولا يغني من جوع، والدليل على ذلك كون ما يصدر: أغلبه في الأدب الروائي القصصي، فالقارئ المعاصر قارئ مستمتع، قارئ لقتل الوقت، لا قارئ منتفع مستفيد، يتوق للمعرفة الجاهزة السهلة الهضم، المقدَّمة في قالب إمتاعي، لذلك لم تعد القراءة وسيلة للتقدُّم في مجتمعاتنا، بل صارت وسيلة للترفيه على النفوس والعقول.
فمشكلتنا مشكلة مزدوجة يتقاسم تبعاتها الكاتب والقارئ.
كاتب لا ينتج معرفة جادَّة تسهم في بناء العقول، وصناعة الأجيال التي تحمل مشعل العلم النافع، وقارئ لا يستحمل عقله أن يقرأ في حقول معرفيَّة مهمَّة، تفيده في حياته، وعمله، ومحيطه.
أمَّا ما يكتب في الجامعات ومراكز البحث في مختلف الحقول المعرفيَّة، فتلك داهية الدواهي، فهو في معظم الأحيان اجترار لما كتب قبل، أو اجتزاء لنصوص من بطون كتب وتجميعها، إذ قل من ينجح في بناء معرفة خاصَّة به دون الاستناد الى ما كتب الآخرون غير أنَّ الكتّاب في ذلك متفاوتون فمنهم من لا يحيد عن سطور غيره، فينقل الأفكار جاهزة دون أن يضيف شئيا للسابق، ومنهم من يحاول ان يفلت من قبضة التقليد فيجتهد ويبدي رأيا خاصا به ويضيف جديدا، وحتى لو كانت بحوثا تتَّسم بالجدَّة، والتميُّز في موضوعها، فمصيرها رفوف مغبرة، ضربت عليها العناكيب بنسجها، فلا يرى أحد منها النور، ولا يستفيد منها أحد، وهكذا ندور في حلقة مفرغة، تكتب أجيال وتعيد أجيال ما كتبت الأولى إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ومع هذا تجد من يطاول أعنان السماء بغاربه، ويشمخ بأنفه عاليا ليقول إنَّ ما كتب في القديم تراث متجاوز لا يصلح لزماننا، فقد مضت عليه الأعوام والقرون، ولم يعد له بيننا مكان، ففي العلوم المستحدثة الآتية من الضفَّة الأخرى غُنيَّة وكفاية، وما قوله ذاك إلا عن جهل وغباوة فلو طولب بقراءة نصّ من نصوص أولئك الأفذاذ الفطاحل – الذين لولاهم ما زلنا نتخبَّط في سدف الجهل- ما استطاع الى ذلك سبيلا، ولا أخذ منه قطميرا.
فالأمم التي شقَّت طريقها الى الازدهار في مختلف الميادين رجعت الى تراث من سبق، سواء كان لأسلافها السابقين أو لغيرهم من الأمم، المهم أنَّه يفيدها في صناعة الحضارة، لذلك استوعبته وامتصَّت رحيقه، ووضعته في مكانه الذي يليق به، فكان لها ما تصبو إليه، فلم تفاضل بين علم وعلم، علوم طبيعيَّة كانت أو إنسانيَّة.
وحتى لو كان السؤال الذي ألقيناه في البداية من الأسئلة التي لن يكون جوابها حاسما، -فالإجابة عن مثل تلك الاسئلة تكون مهمَّة من يأتي بعد مئات السنين- فإن الأمارات كلها تشير إلى أنَّ عصرنا عصرٌ أشبه ما يكون بعصر الانحطاط أو أقل منه منزلة، فالنخب العلميَّة والأدبيَّة ثلاث فئات: فئة واقعة في حالة استلاب وانبهار، استلَبَها ما عند الآخرين فصارت تلهث وراءه محاولة أن تتخلَّص من كل ما علق بها من آثار التراث، وفئة أخرى تحاول في رمقها الأخير أن تتشبَّث بالتراث، وتمتح منه وتبلّ منه صداها، تنافح عنه، لكن تمضي الأيام وتقل هذه الفئة وتكثر الأولى، وفئة ثالثة منزلة بين المنزلتين، تضع رجلا هنا ورجلا هناك، تحاول أن تربط بين التراث وما استجد، غير أن المحاولة غالبا ما تبوء بالفشل، لأنّ المعارف لا تنفصل عن سياقَيْها العلمي والفكري الذي أنتجت فيه، فضلا عن أن أي تراث خلفه عقيدة وانتماء، فهي جزء منه، وبها يحيا، وأي محاولة للفصل بينهما يحدث نشازا.
وفضلا عن هذا التشرذم التي أسهم في انحدار الحياة الأدبيَّة والفكريَّة، فإنَّ هناك أسبابا أخرى لا تقل خطورة عن سابقتها وأبرزها:
أنَّ اللغة العربيَّة التي هي عصب الحياة الفكريَّة والأدبيَّة العربيَّة تعاني ما تعانيه من ضعف وضمور في نفوس من ينطق أو يكتب أو يتعلَّم بها، بالإضافة الى ما تكابده من وطأة النبذ والتضييق والغربة فهي كما قال الشاعر:
ما مقامي بأرض نخلة إلا … كمقام المسيح بين اليهود
فهي غريبة في زمان تكابلت فيه عليها عوادي الدهر، ومُكِّن فيه لغيرها من الألسن في محاولة
بائسة لمحو أثرها ودفنها في التراب، لكنها بحمد الله، شامخة سامقة، لا تقبل الضيم لأن حفظها مرتبط بحفظ كتاب الله الذي تكفَّل به سبحانه.
لهذه الأسباب وغيرها يمكننا القول إنَّ عصرنا هذا تكاد فيه سوق العلم تكون كاسدة، لضعف التحصيل وفساد الملكات، فكأني ابن خلدون يستشرف هذه الحال ويتحدَّث عن عصرنا حين قال:” فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم، وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلميَّة فهو الذي يقرِّب شأنها ويحصل مرامها، فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلميَّة سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم. ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده”.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.