أما آن لنا أن نُعيد التفكير في بعض مفاهيمنا؟

image_pdf

ما حدث في مومباي مؤخراً، وما حدث قبل ذلك، وما قد يحدث بعده، يوجب علينا إعادة التفكير في مفاهيم كثيرة تسيطر على عقول الكثير منا، فتحدد نظرتهم إلى العالم من حولهم، وتكون دافعاً أو مبرراً لسلوكيات معينة، تنفرنا من العالم، وتنفر العالم منا. كثيرة هي هذه المفاهيم، فهي نتيجة تراكم تاريخي ثقافي طويل الأمد، ونتيجة مراحل تاريخية مرت بها المنطقة والعالم، فجُمدت هذه المفاهيم وفق فهم مرحلة معينة، وتفسير حقبة معينة، نتيجة ظروف معينة، وأُعطيت صفة الثبات والإطلاق، فكانت وبالاً علينا وعلى العالم، حين تحولت إلى مؤطر ودافع لسلوك معين، بالنسبة لنا وللعالم أجمع.

هذه المفاهيم أُعطيت في كثير من مضامينها أبعاداً دينية، ولو أننا حللناها إلى منتهاها الأخير، لوجدنا أن البعد الديني لمثل هذه المفاهيم قد دُفع خارج حدوده الأصلية، وحمل أكثر مما يُحتمل، وذلك لأغراض ليس من الضروري أن تكون أغراضاً دينية في كثير من الأحوال، وفي مختلف المراحل التاريخية. فمثلاً مفهوم الردة، الذي أُلبس رداء دينياً كاملاً وضافياً، مع أنه يتعارض تمام التعارض مع نصوص قرآنية لا غموض فيها ولا لبس، مثل قول الحق: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم» (البقرة، 256)، أو قوله: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادقها وإن يستغيثوا يٌغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً» (الكهف، 29). العقاب المنصوص عليه هنا هو عقاب يوم الحساب، وليس قبل ذلك، حتى أن العقاب المنصوص عليه هنا هو بحق الظالمين، وبحق غير المؤمن بالله على وجه الإطلاق.

 

وفي عهد الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، لم نجد تطبيقاً لما سُمي لاحقاً حد الردة، بل كان التطبيق على مجرمين ارتدوا عن الإسلام، بعد أن ارتكبوا جرائم في حق الآخرين. مثل هذا المفهوم، أي مفهوم الردة، يجب إعادة التفكير فيه، لإعادة التوازن والتعايش الحضاري بيننا وبين بعضنا البعض، وبيننا وبين العالم ككل، وليس في ذلك خروج على شرع أو دين، طالما أن القرآن واضح في هذه المسألة، وطالما أن السنة لا تؤكد بشكل قطعي العقاب الدنيوي لمسألة الردة، وطالما أن ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، والذي يُشكل دستور عالم اليوم، لمن يُريد أن ينتمي إلى عالم اليوم، يؤكد كرامة الإنسان بوصفه إنساناً، دون بقية الإضافات اللاحقة للولادة، من لون أو عرق أو دين أو جنسية.

 

من هذا المنطلق فإني أتمنى أن نعيد النظر والتفكير في مفهوم لم نجن منه إلا كره الآخرين لنا، وتدمير أنفسنا، في عصر يتقارب فيه البشر من بعضهم البعض، أو هم في الطريق إلى ذلك، فيما نحن، أو الذين يدمرون العالم باسمنا، يُبعدوننا عن العالم بأفعالهم، التي هي نتيجة فهم محور ومشوه، تراكم عبر الأجيال، ليكتسب ثباتاً ليس له من الثبات إلا اسمه، وأقصد بذلك مفهوم الجهاد، الذي يقف تبريراً لكل فعل مدمر ودموي يقوم به بعض المسلمين، باسم كل المسلمين، وكأنهم حصلوا على توكيل من كل هؤلاء المسلمين. وإذا أردنا الحقيقة المرة، فهي أن الكثير من المسلمين يتعاطفون مع هذه الأعمال، وإن كانوا لا يقومون بالفعل، وكل ذلك نتيجة مفاهيم محتلة لعقول مستلبة من قبل ثقافة جُمدت، وأغراض خُططت. أخذت أفكر في مفهوم الجهاد، وبحثت فيه قليلاً، فلا أدعي أنني فقيه في هذا المجال، ولكنها تأملات ما بعد أحداث مومباي. لقد أراد الله للإنسان أن يكون خليفته في الأرض عندما خلق آدم، وأسكت الملائكة المعترضين على خلق أبو البشر بالقول: «إني أعلم ما لا تعلمون»، وخلافة الأرض عمارتها، أي التمدن وصناعة الحضارة، فهل يُعقل، والحالة هذه، أن يأمر الخالق مخلوقه بالتدمير، وهو الذي ما خلقه إلا للعمارة والبناء؟ وقفت عند هذا الأمر طويلاً، ووصلت إلى قناعة مفادها أنه لا بد من أن هنالك سوء فهم، ثقافيا كان سوء الفهم هذا أو تاريخيا أو عصريا، أو أنه من الممكن أن يكون المفهوم ثابتاً، ولكن المضمون متغير. فلا شك في أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وليس هناك خلاف على ذلك، ولكن السؤال هو: ما هو الجهاد؟ هل يكون من الجهاد العدوان، ومخالفة قول الحق: «من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً..» (المائدة، 32). وهل من الجهاد نفي الآخر لمجرد أنه مختلف في الدين أو المعتقد أو المذهب؟ وهل من الجهاد تدمير عمارة الآخرين عندما تعجز الذات عن فعل فعلهم، وهم يحققون بذلك خلافة الإنسان على الأرض، لمجرد أنهم من غير المسلمين، وأحياناً هم من المسلمين ولكن ليس وفق نظرة «المجاهدين»، إلا أنهم يبقون في النهاية من بني آدم المكرمين في البر والبحر، والمفضلين على كثير من خلق الرحمن؟ وهل من الجهاد نهج سياسة عليّ وعلى أعدائي يا رب، كما فعل بعض المحسوبين على الإسلام في نيويورك ومدريد ولندن ومومباي وغيرها، وكما سيفعلون إن لم تُعد المفاهيم إلى أصلها وشمولها ومتغيراتها؟ علامات استفهام كثيرة أخذت تحرق الذهن بعد كل عملية «جهادية» يقوم بها هذا الفصيل أو ذاك من فصائل المتمسحين بالإسلام مبرراً، فأجد أن الإجابة لا بد أن تكون بالنفي، فلا يمكن أن يأمر خالق البشر والحجر بما يُخالف مشيئته الأولى حين خلق الإنسان، كل الناس، لخلافته في الأرض، ولا يمكن أن يصدر الشر والقبح والكراهية، عن منبع الخير والجمال والحب.

 

يجب أن يُعاد التفكير في مفهوم الجهاد، وإعادة مضامينه الإيجابية التي طغت عليها التأويلات والتفسيرات والاستخدامات والاختزالات السلبية، التي حولته من مفهوم شامل للجهد والمجاهدة، أي بذل أقصى الجهد في الوصول إلى الغاية، إلى مجرد مفهوم حربي، ومحرض لفعل عنفي، رغم أن المعنى أوسع وأشمل من ذلك بكثير. فمن معاني الجهاد التي قال بها السابقون مجاهدة النفس، كأعلى مراتب الجهاد. وهناك بر الوالدين كفعل جهادي، وكذلك الحج نوع من الجهاد، وغير ذلك من أبواب كثيرة يمكن أن يشتملها مفهوم الجهاد والجهد والمجاهدة، أما الفعل العنفي كنوع من الجهاد، فهو مبرر في حالة الدفاع عن النفس بشكل أساسي، وحين تكون بقية الوسائل للدفاع عن النفس غير مُجدية، ويصبح كالطلاق، حلال بغيض في هذه الحالة. ليس المجال هنا حقيقة هو مجال شرح مفهوم الجهاد وتطوره، فهذا موجود في بطون الكتب، بقدر أن القضية متعلقة بتجديد مفهوم الجهاد، وتفجير تلك المعاني والمضامين الحضارية التي يمكن أن تكون كامنة فيه، وحالت دون ظهورها محاولات الاختزال والاستغلال والتبرير، التي ليس من الضروري أن تكون هي ذات المعاني التي يتضمنها المفهوم، حين النظر إليه نظرة شاملة، أو أن تكون بعض هذه المعاني وقتية حين تفسيرها، ولكن الوقت غير الوقت، والزمان غير الزمان، بل ولم يعد الإنسان هو ذات الإنسان، رغم ثباته كخليفة للقادر في أرضه.

 

من ذلك، لم لا يكون الحوار والتثاقف مثلاً بين المختلفين جزءا من الجهاد، فلا أرى مثل الحوار تضمناً للجهد والمجاهدة، لما فيه من قيم الصبر والتسامح والانفتاح، وهي قيم تحتاج إلى الكثير من الجهد كي يمارسها المحاور، خاصة ذاك الذي لم ينشأ في بيئة تشجع الحوار والمتحاورين. ولم لا يكون نبذ العنف كوسيلة لحل المشاكل بين بني الإنسان، نوعاً من الجهاد، فكظم الغيظ، والدفع بالحسنى، وغيرها من وسائل ضبط النفس، تحتاج إلى جهد جهيد، وبذل أقصى الجهد في الوصول إلى الغاية، وهذا في ظني نوع من أنواع الجهاد، فلماذا الإصرار على العنف وكأنه طريق الجهاد الوحيد، بل أن صنع الحضارة، والإسهام في صنع الحضارة، وهو أمر ليس بالسهل، بل يحتاج إلى بذل الجهد الجهيد، وقمة الإخلاص والتفاني والعطاء، فلم لا تكون هذه القيم هي مناط الجهاد؟ نشر المحبة بين الناس، حب الوطن، حب الإنسان، حب الآخرين، أمور تحتاج إلى جهد، فربما لا يكون الإنسان بطبعه خيراً ولا شريراً، وعلى اختلاف مفاهيم الخير والشر، بل هما معاً يتصارعان في ذات واحدة، فإن كبح جماح الشر المعتمل في داخل الذات، يحتاج إلى جهد ومثابرة، وهذا نوع من الجهاد. الجهاد مفهوم واسع، فلماذا نجعله أسير الرؤية الواحدة، والتفسير الواحد، والجماعة الواحدة، فتتلوث عقول كثيرة بما لم ينزل الله به من سلطان، فنخسر أنفسنا، ونخسر عالماً بأسره من حولنا؟

________

*الشرق الأوسط/ الراصد التنويري/ العدد الرابع (4)/ نيسان- إبريل/ 2009.

جديدنا