يجب الاعتراف بأهميَّة الدين في حياة الفرد والمجتمع والشعوب، فهو القيم والمبادئ والعبادات والطريق القويم لكسب الحياة في الدنيا والآخرة، كما يجب أيضاً ألا ننكر أهميَّة الدين كمنهج وسلوك واختبار في الدنيا وعلاقة فرديَّة مع الله لضمان مرضاته ورجاء رحمته للوصول إلى الصراط المستقيم ومن ثم دخول الجنة، ومن المهمّ كذلك التأكيد على أن الدنيا دار ممر في حين أن الآخرة دار مقر، أي أن الدنيا طريق للآخرة.
لا بد من التأكيد على أن الدين لا يمكن تهميشه لأنه جزء متغلغل في نفوس وقلوب البشر بشكل عام، حتى بعض منكري هذه الحقيقة، يعودون بعد فترة من التأمّل إلى رحاب الدين لهدأة النفس وطمأنة القلب بهذا الإيمان بالدين كعنصر إيجابي في التعامل مع مجريات الحياة اليوميَّة للناس.
الشعوب بحاجة إلى الدين لا تقل في أي حال من الأحوال عن الحاجات المعاشيَّة من مأوى وبنية تحتيَّة تشمل توافر المياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق والنقل…إلخ، ودخل مناسب، والشعور بالأمن والأمان والاستقرار، وتعليم وصحة وخدمات وتوثيق وتأمين، ومن ثمّ ممارسة حقّهم في الحياة والحريات بأنواعها، ثم عليهم واجبات تجاه أسرهم ومجتمعاتهم ودولهم، كل هذا يدفع الدول، حكومات ومحكومين، إلى العمل لتحقيق ذلك كله.
فإذا ما تمَّت ترجمة كل ما سبق إلى واقع معيش، فسنجد أن الأمر لا يخرج عن كونه سياسة واقتصاداً وتجارة وثقافة وشؤوناً اجتماعيَّة وأمناً ودفاعاً. ونظراً إلى أن الدول لا تحيا وحدها في هذا الكون فإنَّ التعامل بينها أمر حتمي تفرضه ظروف الحياة بمجالاتها المختلفة، ويقول الحق سبحانه وتعالى: “يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (سورة الحجرات: 13).
لذلك تتبنَّى الدول المسؤولة عن شعوبها استراتيجيات وسياسات وبرامج متنوِّعة، وفي كافة مناحي الحياة، لإدارة العمل بالدولة داخلياً وخارجياً، ومن هنا نجد أنَّ هناك تواصلاً وتكاملاً واضحاً بين هذا العمل ومتطلّبات الدين الذي لا تنفصل تعاليمه، وبالذات الإسلام، عن شؤون الحياة في كل مجالاتها، لأن الإسلام في اعتداله وتسامحه يبعد عن المجتمع شرور التطرف لأنه دين الله وهو مصداق لقوله تعالى: “إن الدين عند الله الإسلام”.. الآية.
فالدين له وظيفة سامية ولديه القدرة على إضفاء صبغة المبادئ الأخلاقيَّة والإنسانيَّة على مجالات الحياة المختلفة من سياسة واقتصاد واجتماع وغيرها، فمن هذا المنطلق لا يمكن أن يصبح مطيَّة لتحقيق أهداف سياسيَّة كما هو معروف في عالم الميكافيلليَّة. أي بمعنى أن يتحول الدين من غاية سامية إلى وسيلة دنيويَّة، بل إن الدين في معانيه الرفيعة يمكن أن يكون عامل دفع لاتخاذ سياسات ترفع من شأن المجتمعات التي تحترم الأديان بعيداً عن مؤثرات البشر الشخصيَّة. وليس هناك أي تعارض بين الدين كعقيدة وممارسة حياتيَّة لدى الشعوب قاطبة وبين الاعتماد على أدوات العصر وظروفه وبيئته التي تتيح للشعوب الحياة الكريمة والرفاهيَّة الاجتماعيَّة، ويتلخَّص ذلك في الآتي:
-نصوص لتنظيم العلاقات الدوليَّة، ومواثيق ومعاهدات دوليَّة وعالميَّة وافقت عليها معظم الشعوب منذ عصبة الأمم وحتى الآن، تكفلها منظّمات دوليَّة من المفروض أن تضمن الاستقرار والأمن العالميين دون تحيز أو الكيل بأكثر من مكيال، لأن في الدين كذلك من المبادئ التي تذم هذا السلوك المتناقض.
-مواثيق ومبادئ اتّفقت عليها وتبنتها كل دولة وفق ظروفها، لتنظم علاقاتها الخارجيَّة بما يسمح لها بتحقيق مصالحها الاقتصاديَّة والتجاريَّة، وفق ما يفرضه السوق العالمي من قيود وما يسمح به من حريَّة حركة.
-أصبحت الحكومات هي الممثّل الشرعي للدول، ومن ثم تتحمّل عبء إدارة الدولة، لذلك فإنَّ تشكيلة الحكومات انعكاس طبيعي لموزاييك تركيبة المجتمع، وهي عادة تركيبة مختلفة عرقياً ودينياً ومذهبياً، وتتصرَّف في إطار المصلحة العليا للوطن والمواطن.
-إن الحكم وإدارة الدولة يخضعان لقوى السوق الإقليميَّة والدوليَّة وفق صور تأخذ أشكالاً مختلفة من تعاون أو منافسة أو صراع أو تحالف أو تهديد أو حرب.
-العالم اليوم عبارة عن مبنى سكني واحد، نتيجة للتطوّرات في الاتصالات وشبكات المعلومات ووسائل الإعلام، والدول تقطن في طوابق مختلفة، فالمتطوّر منها في الطوابق العليا يحلِّق في سماء التقدّم التكنولوجي والاقتصادي والعسكري، و”النايم” منها يقطن الطوابق المقامة تحت الأرض في تلوّث بيئي وصراع داخلي وتفكّك وانهيار للدولة، وما بينهما يحاول البقاء على قيد الحياة إمّا بادّعاء التنمية أو محاولة النجاة من الأزمات الدوليَّة التي تضرب اقتصاده ونظامه المالي، وليس الأمس ببعيد.
-إنَّ الاعتماد المتبادل بين الدول المختلفة اليوم، يفرض عليها التعاون والتنسيق لمواجهة التحدّيات والتهديدات.
-إن الدول وهي تتلمَّس طريقها لتوفير الحاجات الأساسيَّة لشعوبها، وتتّجه نحو تحقيق التنميَّة الشاملة، تتعامل وفق متطلبات من يملك هذه الحاجات، خاصَّة أن الدولة لا تملك كل أدوات التقدُّم ولا تستطيع أن تصنع كل شيء، ومن ثم تعيش بمعزل عن بقيَّة العالم.
-التحدّيات والتهديدات والمخاطر التي تواجه الدولة في عالم اليوم يصعب التعامل معها بصورة فرديَّة بل تحتاج إلى جهد جماعي.
من الممكن أن نسترسل في توصيف واقع العصر الذي نعيش فيه، وفي هذه الحالة سنحتاج لاستعراض النظريات السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي تربط بين شعوب الأرض وتصوغ طبيعة عمل المنظومة الدوليَّة برمَّتها، ولكن الأهم من ذلك كله هو ضرورة التعرف على مسؤوليَّة الدين والعقيدة الدينيَّة في هذه المسألة. فرأس المال البشري هو عماد الأمم، وهو المسؤول الأول عن نهضتها وتنميتها وحمايتها والدفاع عن مصالحها، لذلك فإن المطلوب تربية الفرد ليتعرف على حقوقه ويؤدِّي واجباته ويتعامل مع غيره بما يمليه عليه دينه وعقيدته من رحمة وتسامح وود ومبادئ وقيم سامية لضمان مجتمع آمن ومستقر، وهو الأمر الذي تقرّه جميع الأديان السماويَّة.
___________
*صحيفة الاتحاد/ الراصد التنويري/ العدد الرابع (4)/ نيسان- إبريل/ 2009.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.