التطبيع يعني عدم تجاوز التبعيَّة، وتجاوز هذه الأخيرة يتطلَّب إعادة النظر في مسار الوعي العربي الإسلامي منذ عصر النهضة حتى الآن وكشف العلاقة الحقيقيَّة بين الغرب والشرق وتحديد المصير العربي الذي يتحوَّل شيئا فشيئا إلى أقليَّة تحكمها إسرائيل، وفي ظل الوضع السياسيّ الراهن المضطرب والباعث على اليأس قد تحتاج الأقليَّة العربيَّة إلى ترخيص من السلطات الإسرائيليَّة لزيارة الأماكن المقدَّسة في القدس المحتلة، لا يمكن للصمت العربي أن يطول وعلى المؤسَّسات الدينيَّة الإسلاميَّة أن تعلن موقفها وعلى رأسها الأزهر، الزيتونة وجمعيَّة العلماء المسلمين الجزائريين ذلك بقطع العلاقات نهائيا مع الإمارات وأخواتها وصمتها يعكس النفوذ الإستعماري الإسرائيلي في فلسطين.
التطبيع يعني العَمَالَة المباشرة الصريحة لدولة تكنُّ العداء للإسلام والمسلمين وتعمل على تدمير المسجد الأقصى ثاني مسجد بعد المسجد الحرام، وعمليَّة التطبيع تسبقها اتِّصالات ومشاورات بين طرفين سواء كانت سرًّا أو علانيَّة، في إطارٍ مخطَّط مدروس، وتكون الخطوة الأولى إما بداية علاقة مع دولة ما، أو إعادة صياغة العلاقة بين بلدين بحيث تصبح علاقات طبيعيَّة أي إنهاء القطيعة بينهما، ويمكن أن نعرفه بالقابليَّة للترويض أو القابليَّة للاستعمار كما تحدَّث عنها مالك بن نبي، ويحمل التطبيع الاعتراف بدولة ما ووجودها، والسعي إلى تحقيق مطامعها التوسّعيَّة، كما هو اليوم في إسرائيل، التي ترى أنَّ التطبيع السياسي والاقتصادي بينها وبين الدول العربيَّة هو شرط أساسي لتحقيق السلام، وهي اليوم تكاد أن تسيطر على العالم العربي كله بفعل مخطَّط “التطبيع”، بعد انضمام دول عربيَّة إليها كـ: الإمارات، البحرين، الكويت ثمَّ السودان في إطار ما يسمَّى بالشراكة، وها هي الإمارات تمنع تسليم تأشيرة دخول 11 دولة ذات الأغلبيَّة المسلمة إلى ترابها، خاصة الدول التي تعيش الحروب الأهليَّة والصراعات الطائفيَّة كسوريا والعراق، اللتان كانتا ضمن قائمة الدول المحظورة، ماعدا الدول الحليفة لإسرائيل على غرار البحرين، في وقت تسمح فيه للإسرائيليين الدخول بدون تأشيرة بعد اتِّفاق التطبيع مع البلدين، حسبما أشارت إليه بعض الوكالات الإخباريَّة، تمَّ ذلك في معاهدة وقَّعت عليها كل من إسرائيل والإمارات في تل أبيب، وهي الاتفاقيَّة الأولى التي تبرمها إسرائيل مع دولة عربيَّة مسلمة، رغم أن حليفتها الولايات المتَّحدة لم تباشر بعد في مثل هذه الإجراءات ولم توقِّع مع إسرائيل أي اتِّفاقيَّة بهذا الشأن.
تقول التقارير، انَّ الإمارات خصَّصت طائرة خاصَّة لاستقبال الفوج الإسرائيلي مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا، يتكوَّن من 200 إسرائيلي قدموا من تل أبيب في رحلة العودة إلى دبي، واعتبارا من 13 ديسمبر الجاري تنطلق 14 رحلة أسبوعيَّة من تل أبيب إلى دبي، في محاولة منها استفزاز الشعوب الرافضة لعمليَّة التطبيع، وبطابع هستيري عدواني، والجزائر من بين هذه الدول، في ظلِّ التوتّر السائد بين البلدين بسبب رفضها التطبيع وإيمانها بالقضيَّة الفلسطينيَّة وعدم تخلّيها عن شعار بومدين: “نحن مع فلسطين ظالمة أم مظلومة” لدرجة أنها بعثت رسائل تهديد لرئيس الجمهوريَّة عبد المجيد تبون بسبب انتقاداته تطبيع أبو ظبي مع إسرائيل وتحسين علاقاتها مع تركيا، والبحث في العديد من القضايا، لاسيما الملف الليبي، بعدما أعلنت الإمارات وقوفها في صفِّ خليفة حفتر، أمَّا عن الموقف الفلسطيني لم يمنع الدول المُطَبِّعَة مع الكيان الإسرائيلي من زيارة المسجد الأقصى، فقد سبق وأن زار وفد من”مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي” إلى إسرائيل في أعقاب إقامة العلاقات الدبلوماسيَّة بين إسرائيل والبحرين في سبتمبر المنصرم، بإشراف من دائرة الأوقاف الإسلاميَّة في القدس المُعَيَّنَة من قبل المملكة الأردنيَّة، وهذا من باب التسامح الديني والحرّيات الدينيَّة والتعايش السلمي.
كان موقف الفلسطينيين بالرفض، عندما أعربوا عن غضبهم من اتِّفاقيات التطبيع بين إسرائيل والبحرين والإمارات العربيَّة المتَّحدة ثم السودان، والتحاق هذه الدول بإسرائيل يجعل من هذه الأخيرة أكثر قوَّة، وقد يتملَّكها الغرور بأنه لا توجد أمّة تفوقها قوَّة، وهذا يعني أن لها الحقّ مع قوة كهذه في تولي قيادة تنظيم العالم وعلى الدول المُطَبِّعَة أن توفِّر لإسرائيل الحماية الكاملة، وهذا يعني أنَّ إسرائيل ستضرب العرب بالعرب والمسلمين بالمسلمين، وهذا يستدعي إعادة النظر في مواثيق حلف بغداد، ومواقف القيادات الرجعيَّة الحاكمة في الأقطار العربيَّة التي ارتبطت بمبدأ إزنهاور والذي أصبح حلف بغداد مظهرا من مظاهره، هذا الحلف قبل أن ينهزم كما انهزم مبدأ إيزنهار كان قد تأسَّس لخدمة “الإمبرياليَّة الأمريكيَّة” وتحقيق أهدافها في إبقاء – كما يقال- شعرة معاوية مع دول أخرى، وتتيح لإسرائيل حريَّة المناورات مع هذه الدول، باعتبارها جزءا من النظام الإمبريالي العالمي، إذن على الدول الرافضة للتطبيع أن تعيد النظر في مشروع إقامة اتِّحاد عربي وبعثه من جديد، حتى تتخلَّص من سيطرة الغرب وحماية حدودها واقتصادها، وإلا ضاعت الفرصة أمامها إلى الأبد، فمشروع الاتِّحاد العربي كان يعتبر البعبع الذي يخيف الغرب، لاسيما وهو يهدف إلى محو كيان إسرائيل ونسف السيطرة الإمبرياليَّة بجميع أشكالها.
في ظلِّ هذا الوضع تحاول المؤسَّسات الدينيَّة كشف الوجه الحقيقي لإسرائيل والدول التي لها علاقات دبلوماسيَّة معها، من خلال إعطاء نظرة سوداء لمسألة التطبيع مثلما ذهب إليه مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكيَّة في الأرض المقدَّسة، عندما اعتبر تطبيع دولة ما مع إسرائيل يعني تجاهل الحرب القائمة بين إسرائيل وفلسطين وتجاوز الاحتلال والتمييز العنصري والمواقف المتّخذة منها، خاصَّة إذا تعلق الأمر بالجانب الاقتصادي؛ أي تقديم الدعم المالي للبلديات العربيَّة، طالما الصراع بين الشعبين قديم ومستمر، وله أثر عميق على كل المستويات، ولا أحد يتنبَّأ بما يحثّ في المستقبل القريب، وإن كان موقف الكنيسة الكاثوليكيَّة، فكيف للعلماء المسلمين يغيِّرون من مواقفهم، السؤال الذي طرحه ملاحظون، خاصَّة بالنسبة للأزهر الذي لزم الصمت إزاء التطبيع الإماراتي مع الاحتلال الإسرائيلي وهو الذي دعا في السابق إلى تطهير القدس من مغتصبيها، وأفتى بعدم ذهاب المسلمين إليها، حتى تتطهَّر أرضها ومن يزورها آثمٌ.
طبعا ليس هناك من ضبط وإحكام لمفهوم أو مصطلح التطبيع إلا أن يفصح عن نفسه بحسب وجهات النظر التي تدخل في إطاره، ولعلَّ تعدُّد المفاهيم قد يشتِّت المصطلح والطرق المؤدّية إليه، وإن كانت الحياة في إسرائيل أو في فلسطين تقتضي بعض العلاقات مع السلطات الإسرائيليَّة ومن ثم بإمكان الدول العربيَّة التي وقَّعت اتفافيَّة التطبيع مع إسرائيل قد يكون لها حقّ التدخّل في حلِّ مشاكل العرب ( سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين) الذين يحملون المواطنة الإسرائيليَّة، إلا أن ذلك لا يعني إخفاء حقيقة الواقع وما يحدث للشعب الفلسطيني وممارسة التعتيم على الظلم الموجود، واعتبر هذا التجاهل تطبيعاً وتعاوناً مع مؤسَّسات انتهجت أسلوب التمييز العنصري في تعاملها مع الآخر، وهي بالتالي تصرّ على استمرار الظلم؛ فانفراد دولة من الدول في الوقوف بوجه إسرائيل هو خدمة لإسرائيل، وعدم إجماعها على موقف موحَّد يعدّ تمديدا للنفوذ العدواني، الذي من شأنه أن يقود إلى اللا إستقرار السياسي وانعدام السلام، والسؤال الذي يطرحه الخبراء هو: هل الحكومات العربيَّة قادرة بل جاهزة لخوض الحرب ضدّ إسرائيل وتحرير فلسطين في المرحلة الحاليَّة؟ أم أنها ستظل كالدميَّة تحرّكها إسرائيل وحليفتها الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة كيفما تريد، وتكتفي هي برفع الشعارات ونشر البيانات عبر وسائل الإعلام.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.