التعدّديَّة والمجتمع المعاصر
التعدّدية تأكيد وإقرار وتسليم لعالمٍ متنوّع ومختلف، وغدت إحدى ثوابت آليَّة الحياة المعاصرة، وكيفيَّة نتعامل وتتفاعل معها سيقود، بشكلٍ وبآخر، إلى بلورة الملكيَّة الذاتيَّة والاحترام والتسامح والحوار والمرونة في حوارنا وتعايشنا مع الآخر.
تعبّر الاختلافات أو المتعدّدات عن ذواتهما في الهويّات الثقافيَّة والبرامج الاقتصاديَّة والاعتقادات الدينيَّة والتجمّعات الإثنية والأنظمة السياسيَّة وغيرها، فلم يعد كافيًا تشخيص التعدّديَّة وإنّما كيفيَّة تجسيدها عمليًّا باعتبارها حقيقة واقعة حاضرًا، كما كانت في الماضي وستكون في المستقبل.
ولا تعني الاختلافات أو التعدّديات علامات الفشل أو دلائل الخطأ أو عدم القدرة في الوصول إلى جواب واحد كما يرى البعض. فالسياق التعدّدي الثقافي، على سبيل المثال، هو عنصر ضروري لترجمة القيمة الموضوعيَّة في الواقعين السياسي والأخلاقي، كما أنّ السياق التعدّدي الاقتصادي، كمثالٍ ثانٍ، هو حالة أساسيَّة لأحداث الحركيَّة في الأسواق المحلّيَّة والعالميَّة.
ليس من الضروري أن تتناسق خصائص التعدّديَّة أو تقبل بطبيعة الحقيقة أو الثقافة وغيرها من المختلفة منها، وإنما تتسامح وتحترم أو تتحاور وتفسح المجال لذات الحقيقة باعتبارها تعدّديَّة فاعلة تجسّد عمليًّا المساحة المشتركة.
وتشير التعدّديَّة إلى أشياء عدّة تقدّم كل منها سؤالا مختلفًا عن الآخر. أسئلة متمايزة تصل إلى أجوبة مختلفة لتشكّل صورها عن الحياة. الأسئلة المتعدّدة ستقود حتمًا لاجوبة متقدّمة تنعكس في جدّتها على المجتمع، في الوقت ذاته تمثِّل التعدّديَّة التنافس والتنوّع (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا).( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ…).
فالتنوّع يخلق التزاحم والتنافس وهي مسحة المجتمعات الحيَّة، وهنا لا بد من القول إنّ داخل حركيَّة أي مجتمع يتفاعل معسكران متناقضان (التضادّ والتناسق) نتيجة التنافس والتزاحم، ويعملان على إفراز أفكار جديدة، ممّا يؤدّي التضادّ إلى الحركة والعمل ثمّ التناسق، هكذا تبدو سنّة الحياة كما ترغب إرادة الله، لذا فإنّ المختلفات مع المتغيّرات تقود إلى أسس الترتيبات.
ويأتي التنظيم من الحركة المستمرَّة للتضادات والتناسقات في منح حالات أخرى أو جديدة قد يكون وجودها في التضادّ ضدّ التناسق أو يكون حدوث الحالتين معًا في آن. فاحتمال حدوث الشيء أو عدمه لا يعني عدم التنظيم أو الصدفة، كما يعتقد كثير من الناس، أو عدم وجود هدف وراء هذا الكون. فكلّما تطوّر العلم الحديث أثبت لنا أنّ الأنماط أو النماذج الرياضيَّة الداعمة له إذا لم تكن صحيحة فهي ليست بالضرورة تقع في خانة الأخطاء. وجود التضادّات واللاتضادّات (التناسقات) في لحظة، واستقلال الواحدة عن الأخرى في لحظةٍ ثانية، يعني إفراز أوضاع أو حالات جديدة أو احتمالات مغايرة. والنسبة في عدم حدوثها لا تنفي بالمقابل مطلق حدوثها، كما أنها في إدراك أو فهم الحالات الجديدة لا ينفي أصل المطلق أو السرمدي.
وتعكس النسبيَّة حالة الإنسان وفهمه وترجمته للحقيقة، المصنَّعة بشريًّا والمدوّنة قديمًا على أساس أنّها الحقيقة، وفي هذا قصرها أو عدم قدرة تواصلها مع زمن اللحظة الآنيَّة، ممّا يحدّ من امتدادها بين ثنايا المستقبل، وفي ذلك ينجلي محدوديّتها بشكلٍ واضح.
وتعريف الحقيقة أحد أصعب الأسئلة التي واجهت الفلسفة وما زالت، إذ ينظر لها ويجري إدراكها بطرق ووجوه مختلفة. فقراءة الإنسان أو ترجمته للأحداث تكون نسبيَّة ممّا يحيطها وتمثّل أشكال متعدّدة للحقيقة التي تقود إلى بعض الحقيقة المقدّسة والمطلقة والمتجسّدة في الله عز وجل. هذا في الجانب الفلسفي، أمّا في الجانب العملي فإنّ التعدّديَّة بأشكالها المختلفة كالسياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وغيرها تؤدّي إلى التطوير والتنمية التي تهدف بالتالي ليس إلى الغنى المادي فحسب، بل إيجاد مساحة واسعة من الحرّيَّة والقدرة الكافية على اختيار حياة يشعر بظلّها الإنسان بقيمته، ممّا يشكِّل حافزًا أو قاسمًا مشتركًا لكل أجناس البشر، فقراء أم أغنياء، دول متطوّرة وأخرى مختلفة، لهذا فالتعدّديَّة قضيَّة إنسانيَّة صرف تمنح حرّيَّة الاختيار وتسهم بصورة وأخرى في سعادة الإنسان. بالمقابل سيتمكّن النظام المجسَّد للتعدّديَّة من القدرة على ولادة أفكار ثقافيَّة واجتماعيَّة متطوّرة وقادرة على التمايز والتأثير.
موقف الإسلام من التعدّديَّة واضح تمامًا، وتبلور في تعدّديَّة رسالات السماء( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ) إلى جانب التعدّديَّة والإثنية الثقافيّة ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) والتنوّع البشري في الخلق ( وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) أو تنوّع المعرفة وأهمّيّتها وتمايزها ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا).
إذًا فالتعدّديَّة وفقًا لاعتقاد المسلمين هي ضرورة لسنّة الحياة وترجمة لإرادة الله عز وجل، ومن يرفضها، كما يؤمنون، فإنّما يرفض إرادة الخالق الجليل.
_________
* الراصد التنويري/ العدد الرابع (4)/ إبريل- نيسان 2009.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.