سلايدرفكر وفلسفة

سرّ الحبّ أنه لا يتحقَّق إلا بالحبّ

من يعجز عن إنتاج الحب، يعجز عن إنتاج معنًى للحياة، الحُبُّ أهمُّ منبع لإنتاج المعنى في الحياة، ما دام هناك إنسان فإن حاجته إلى معنًى لحياته تفُوق كل حاجة. لغةُ الحب لغة القلوب، لغة القلوب لا تخطئ، لغة القلوب لا يمكن التشكيك في صدقها، يتذوقها بغبطة وابتهاج مَن تفيض عليه حُبَّك، ولا ينجذب إليك مَن لا يتذوقها منك.

بعض الناس عاجز عن إنتاج الحب، على الرغم من حاجته الشديدة إليه، ربما يكون عاطفيًّا بلا حدود، ربما يمتلك حساسية فائقة يفتقر إليها كثير من الناس. عجزُه عن إنتاج الحب يعود لعُقدٍ نفسية وعاهات تربوية وجروح غاطسة في لاوَعْيِه، تَفرض عليه حياة خانقة كئيبة، لا يمكنه الخلاص منها أو تخفيف وطأتها إلا بمراجعة مصحٍّ نفساني.

الحب عصِيٌّ على التفسير لأنه حالة، والحالاتُ أشياء وجودية، كما أن مفهوم الوجود واضح، وحقيقتَه عصيَّة على الفهم، هكذا الحب مفهومه واضح، كُنهُه مبهم. ينطبق على الحب قول “ملا هادي السبزواري” في بيان حقيقة الوجود، مفهوم الوجود واضح جدًّا، غير أن كنهه غاية في الخفاء:

مفهومُه مِن أعرفِ الأشياءِ     وكُنهُه في غاية الخفاءِ

مثلما يُعرف الوجود بآثاره ومظاهره وتعبيراته، يُعرف الحب بآثاره ومظاهره وتعبيراته وثمراته في حياة الكائن البشري.

تعددت طرائق فهم الحب وتفسيرِه وبيان آثاره المتنوعة في القلب والروح والضمير والعقل والجسد، فكلُّ فن وعلم يفسّره من منظور يتطابق مع الوجهة التي يتجلى له فيها، الحُبُّ لا يتجلى إلا جميلًا مُلهِمًا. وكأنَّ الحب مِرآة لا يرتسم فيها إلا ما هو رؤيويٌّ مضيء. الحب محبوب لكونه حُبًّا لا غير. الحب حاجة أبدية، وكل شيء يحتاج إليه الإنسان بهذا الشكل لا يحتاج إلى سبب آخر غيره يدعوه إلى الظفر به.

أشبَع العرفاءُ الحب في كل الأديان بحثًا وتحليلًا، وما زال تحليلهم لِماهية الحب هو الأسمى والأبهج والأعذب والأثرى، وهكذا أنشده الشعراء في قصائدهم وتغنَّوا به في غزلياتهم، ونهض بتفسيره الفلاسفة في علم النفس الفلسفي، واهتم بالكشف عن آثاره المتنوعة ومظاهره وتعبيراته في حياة الفرد والمجتمع، كلٌّ من: علماء النفس، والاجتماع، والأنثروبولوجيا، والأخلاق، وأخيرًا قدّم له علماءُ الأعصاب والدماغ تفسيرًا بايولوجيًّا. كلُّ علم وفن يفسّره من منظوره، ويشترك الكل في التشديد على عدم استغناء الإنسان عنه في أي مرحلة من مراحل حياته، وفي أية حالة يكون فيها، وفي أية محطة تصل حياته إليها. تظل الحاجة إلى الحب مزمنة، تولد مع الإنسان ولا تنتهي بوفاته، إذ يتطلع الإنسان في حياته إلى مَن يُخلِّد ذكراه بعد وفاته.

الحب ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يَسكن الحب الأصيل إلا الأرواحَ السامية، وكلَّ مَن يتغلّب بمشقة بالغة على منابع الكراهية والعنف الكامنة في أعماقه. حُبّ الإنسان مِن أشقِّ الأشياء في حياة الإنسان، لأن هذا الكائن ليس آليًّا، بل هو بطبيعته أسيرُ ضعفه البشري، يصعب عليه أن يتخلص من بواعث الغيرة في نفسه، وما تُنتجه الغيرة من منافسات ونزاعات وصراعات، واستعدادات للشر، وما يفرضه الشر من كراهيات مختلفة، وآلام مريرة في حياة الإنسان.

لا يكفُّ الإنسانُ عن الصراع مع غيره، ولا يتوانى عن اللجوء إلى مختلف أنواع العنف اللفظي والرمزي والجسدي مع خصومه، وإن كانت للعنف دوافعه المختلفة، ولا عنفَ من دون أسباب ظاهرة أو كامنة، لكن أحيانًا يلجأ الإنسان إلى العنف بلا أيّ سبب ظاهر يدعوه إلى ذلك.

يَصعب جدًّا بلوغُ الإنسان مَرتبة يصير فيها الحب حالة لا كلمة، الظفر بالحب تجهضه نزعة التعصب المترسبة في النفس البشرية، ويجهضه التلذّذ المضمَر غالبًا، الذي يتسلط على المرء من حيث لا يشعر، لحظةَ نكباتِ الغير وانكساراتهم وآلامهم وأحزانهم.

الكل يريد أن يحبه الكل، ويكون محبوبًا للكل، لكن الكائن البشري لا يتنبه إلى أنه لن يصبح محبوبًا للكل، ما لم يكن محبًّا للكل. لن يصير الحب أصيلًا إلّا أن يصير المرء مُحبًّا، العلاقةُ تفاعلية بين حب الآخر لك وحبك للآخر. ليس هناك شيء يُمنح مجانًا في الأرض، لن يحبك الآخرون ما لم تحبهم، ولن يهبك الآخرون الحب، الذي هو أثمن عطاياهم، ما لم تهبهم أثمن عطاياك. سرُّ الحب أنه لا يتحقق إلا بالحب. لا علة للحب إلّا الحب، لا ينتج الحب إلّا الحب.

ما دام الحب أثمن ما يظفر به الإنسان وأغلاه، فإنَّ نيلَه يتطلب معاناة شاقة وجهودًا مضنية. الطبيعة البشرية ملتقى الأضداد، الإنسان أعقدُ الكائنات في الأرض، وأغربُها في تناقضاته، وتقلُّب حالاته.

الحب حالة لا تتكرّس إلا بالتربية والتهذيب، ونحوٍ من الارتياض النفسي والتدريب المتواصل على تجفيف منابع الشر والعنف والتعصب والكراهية المترسبة في باطن المرء، والعمل الدؤوب على اكتشاف منابع إلهام الحب وتكريسها.
_________
*المصدر: تعدّديَّة.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

عبد الجبار الرفاعي

مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد وفلسفة الدين في المجال العربي. منذ أكثر من ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لبناء أرضية معرفية لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية. -عضو المجمع العلمي العراقي. -كتبت حتى اليوم 25 اطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير لدراسة مشروع عبد الجبار الرفاعي في تجديد الفكر الديني. -أستاذ جامعي لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد وعلوم الدين بجامعة الأديان والمذاهب. أشرف على وناقش 80 اطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير. رئيس مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. آثاره المطبوعة 54 كتابًا. مواليد الرفاعي جنوب العراق، 1954. دكتوراه فلسفة إسلامية، بتقدير إمتياز، 2005. ماجستير علم کلام، بتقدير إمتياز، 1990. بكالوريوس دراسات إسلامية، بتقدير إمتياز، 1988. أمضى أكثر من 40 سنة تلميذًا وأستاذًا في الحوزة. انخرط في دراسة علوم الدين في حوزة ي النجف سنة 1978، وحضر دراسة المقدمات وبعض السطوح فيها، ثم أكمل بقية دراسة السطوح والبحث الخارج في حوزة قم، ودرس الفلسفة والعرفان فيها. حضر دروس البحث الخارج في الفقه واصول الفقه لمدة ثمان سنوات، في الحوزة العلمية في قم، حتى تأهل علميا للاستناد الى نظره الخاص والاجتهاد في فهم الدين وتفسير نصوصه، والاستنباط الفقهي. أصدر مجلة قضايا اسلامية، وهي مجلة فكرية نصف سنوية تعنى بتجديد الفكر الديني، ورأس تحريرها للسنوات 1994-1998. توقفت سنة 1998. أصدر مجلة قضايا اسلامية معاصرة سنة 1997 ورأس تحريرها، وهي مجلة محكمة متخصصة بفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، يصدرها مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد – بيروت. صدر منها 80 عددًا، وما زالت تصدر منذ 25 عامًا. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، أصدر المركز أكثر من 300 كتابًا. أصدر سلسلة كتاب: “قضايا اسلامية معاصرة”، ورأس تحريرها، صدر منها أكثر من مائة كتاب في بيروت. أصدر سلسلة كتاب: “فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد”، ورأس تحريرها، صدر منها ثلاثون كتابًا مرجعيًا في بيروت. أصدر سلسلة كتاب: “ثقافة التسامح” الدورية في بغداد سنة 2004، ورأس تحريرها، صد منها عشرون كتابًا. أصدر سلسلة كتاب: “فلسفة وتصوف” في بيروت، ورأس تحريرها، صدر منها عشرة كتب. أصدر سلسلة كتاب: “تحديث التفكير الديني” في بيروت سنة 2013، ورأس تحريرها، صدر منها خمسة عشر كتابًا. الجوائز: جائزة الانجاز الثقافي الأولى للترجمة والتفاهم الدولي في الدوحة، على منجزه الفكري الرائد وآثاره في تأصيل المعرفة وثقافة الحوار وترسيخ القيم السامية للتنوع والتعددية والعيش المشترك، قيمة الجائزة مائة ألف دولار. الدوحة – قطر 14 ديسمبر 2017. الجائزة الأولى للبطريركية الكلدانية في العراق على أعماله الفكرية، بوصفها أهم انتاج فكري صادر في العراق للعام 2020. الدرع الذهبي للحركة الثقافية بأنطلياس في لبنان، لدوره في إغناء المنجز الثقافي في العالم العربي، 2013. اعترافا بالمهمة التي نهضت بها، وبوصفها الدورية الأهم المتخصصة بفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية، خصّص “المعهد البابوي في روما” التابع للفاتيكان كتابَه السنوي 2012 لمجلة قضايا إسلامية معاصرة. صدر الكتاب بالايطالية والانجليزية والفرنسية، في 320 صفحة. الجائزة الأولى على اطروحته للدكتوراه، في مباراة تنافست فيها أكثر من 200 رسالة واطروحة جامعية، 2009. الجائزة الأولى لكتاب الوحدة الإسلامية في طهران على جهوده في الكتابة والنشر والدعوة للوحدة والعيش سويًا في فضاء التنوع والاختلاف، 2005. الجائزة الأولى للمؤرخ حسن الأمين في لبنان على منجزه المعرفي وجهوده الثقافية، 2003. من آثار عبد الجبار الرفاعي المطبوعة: متابعات ثقافية: مراجعات وقراءات نقدية في الثقافة الإسلامية، 1993. المرأة والأسرة في الإسلام، 1993. ترجمة كتاب شرح المنظومة في الفلسفة الإسلامية للأستاذ مرتضى المطهري، في أربعة مجلدات، 1992-1993. ترجمة كتاب: محاضرات في الفلسفة الإسلامية للأستاذ مرتضى المطهري، 1994. موسوعة مصادر النظام الإسلامي، في عشرة مجلدات، 1996. منهج محمد باقر الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، 1997. تطور الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية، 2000. مناهج التجديد، 2000. الفكر الإسلامي المعاصر: مراجعات تقويمية، 2000. محاضرات في أصول الفقه، في مجلدين، 2000. مبادئ الفلسفة الإسلامية، في مجلدين، 2001. جدل التراث والعصر، 2001. فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة، 2001. علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، 2002. مقاصد الشريعة، 2002. الاجتهاد الكلامي: مناهج ورؤى متنوعة في الكلام الجديد، 2002. ترجمة كتاب: العقلانية والمعنوية (بالاشتراك) للأستاذ مصطفى ملكيان،2005. ترجمة كتاب: التدين العقلاني، (بالاشتراك) للأستاذ مصطفى ملكيان، 2005. مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، 2005. التسامح ومنابع اللاتسامح، 2005. التسامح ليس منة أو هبة، 2006. تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية، 2010. إنقاذ النزعة الانسانية في الدين، 2012. صدرت طبعته الثالثة 2019 بعنوان: الدين والنزعة الانسانية. تمهيد لدراسة فلسفة الدين، 2014. الدين وأسئلة الحداثة، 2015 الايمان والتجربة الدينية، 2015 الدين والظمأ الأنطولوجي، 2015، صدرت طبعته الثالثة 2019. الحب والايمان عند سورن كيركگورد، 2015 علم الكلام الجديد: مدخل لدراسة اللاهوت الجديد وجدل العلم والدين، 2016. الهرمنيوطيقا والتفسير الديني للعالم، 2017. الدين والاغتراب الميتافيزيقي، 2018، صدرت طبعته الثانية 2019. الشيخ أمين الخولي: الهرمنيوطيقي الأول في عالَم الإسلام، 2020. مقدمة في علم الكلام الجديد، 2021. الدين والكرامة الإنسانية، 2021. . مسرات القراءة ومخاض الكتابة . ⁠مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث. المؤلفات غير المطبوعة: شرح كتاب “كفاية الأصول” في أصول الفقه، للشيخ محمد كاظم المعروف بالآخوند الخراساني، في خمسة مجلدات. شرح كتاب “نهاية الحكمة”، للعلامة محمد حسين الطباطبائي، في ثلاثة مجلدات. شرح كتاب “دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة من دروس في علم الأصول”، للسيد محمد باقر الصدر، في مجلدين. شرح كتاب “المنطق”، للشيخ محمد رضا المظفر، في مجلدين.

مقالات ذات صلة