يقترح غالبيَّة المهتمّين برصد ظاهرة العنف، بخاصَّة الذي يرفع “الإسلام” شعاراً، توليد لحظة “تنوير” في المجتمعات المسلمة وتحريك رياحها من خلال تحديث النظم التعليميَّة أولا، ثمّ فكّ القيود عن حرّيَّة التعبير، وفسح المجال أمام هامش ديمقراطي، بغية إنقاذ المجتمعات العربيَّة والمسلمة من سُعار العنف.
ويحمّل غالبيَّة دارسي ظاهرة التطرّف الديني، وهي التي تفضي مباشرة إلى عنف داخلي سرعان ما يتخطّى الحدود الوطنيَّة. الحكومات العربيَّة مسؤوليَّة ذلك لأنّها تكبت الرأي وتحتكر السلطة وتقمع الحرّيّات الفكريَّة. لذلك يشير أولئك المهتمّون إلى عمليَّة “تحديث” النظم التعليميَّة والاقتصاديَّة ودمقطرة المجتمعات العربيَّة بوصفهما عمليّتين ضرورتين من أجل فسح المجال لتشكّل ما يمكن أن نسمّيه “لحظة تنوير”.
إنّ النظر المتأنّي من داخل المجتمعات العربيَّة يوصل ربما، إلى نتيجةٍ مفادها أنّ عشّ التطرّف، ورفض التحديث الفكري يتموضع في موروث ديني بعينه يجد له رعاية غير معلنة من جانب حكومات عربيَّة، على الرغم من أنّ بعض تلك الحكومات تدّعي أنّها علمانيَّة أو على الأقل ليست دينيَّة، بل أنّ منها صنعت، سواء داخل بلدانها أو خارجها، تيّارات متطرّفة بمساعدة بيئة سوسيو ثقافيَّة محكومة بانتقائيَّة متوارثة. وقراءات اختزاليَّة للمدوّنة الإسلاميَّة، كي تستخدمها “أدوات” لنيل غايات لا علاقة لها في كثير من الأحيان بتصوّرات تلك الجماعات. ولعلّ ما ذكره مدير المخابرات السوفيتيَّة وأحد أبرز صنّاع القرار في روسيا إلى وقتٍ ليس ببعيد، أيفيغيني بريماكوف، في أنّ بعض دول منطقتنا تستعمل جماعات وتيّارات كذراع مضاف لأذرع السياسة الخارجيَّة. يوحي كم هي متورّطة الحكومات في إجهاض محاولات التحديث والقضاء على دعوات التنوير.
إنّنا نجد بالعودة إلى لحظات التنوير الغربي الأولى، أنّ التنوير لم يكن محض جملة مواقف من المقولات السكولاتيَّة وحسب (وهذا ما يمكن أن يمثّله ليبراليّون عرب). بل أنّ ما جعل ذلك التنوير مشعّاً ومؤسّساً لمقولات جديدة إثر قطيعة حاسمة وواثقة، هو تشكّل منظومة فكريَّة اشترك فيها الجميع. وهذا ما لم يتحصَّل لروّاد الإصلاح، إسلاميّون عرب أم ليبراليّون، منذ أواخر القرن التاسع عشر حتّى زماننا هذا، ربما لأنّ الاثنين لم يجدا حاضنة عامّة، من الأعلى إلى الأسفل، تتبنّى طروحاتهم وتكوّرها وتعتنقها وسيلة لإدارة مجتمع الدولة المدنيَّة الحديثة.
لقد أُعيد للعقل مكانته، في فرنسا وألمانيا والقرن الثامن عشر ليكون المصدر الأوّل للسلطة والأساس الذي تنبني عليه. فكان ذلك عصر الأنوار أو التنوير ولم ينبجس ذلك العصر الذي شكَّل قطيعة حضاريَّة هائلة مع ما سبقه، من الظلام بغتة، بل مهّدت له نزعات وتيّارات لعلّ أبرزها النزعة الإنسانيَّة في إيطاليا وفرنسا في القرنين 14 و15 وأواخر القرن 17 الذي عرف بعصر العقل أو العقلانيَّة. ويكفي مثالا عن تلك الحاضنة المواتية هو أنّ كتاب الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، خطاب المنهج شكّل محطة بارزة في سعي الفكر الأوروبي إلى الخروج من عتمة التعجّل والأحكام المبسترة والركون إلى التفكّر والتفحّص وصولا إلى أرساء أخلاقيّات مستقرَّة مقبولة لدى الجميع. مذاك أخذت أفكار بناء نسق اجتماعي في مجتمعات غريبة تتطوّر تحت رعاية إدارات حكوميَّة، وهذا ما أوصل إلى تكافل حكومي يجد تجسّده الآن بأنظمة الرعاية الاجتماعيَّة والصحيَّة والتعليميَّة..إلخ.
لعل الخلاص من ورطة التشدّد والعنف في مجتمعاتنا يكمن في القطيعة مع الاختزال والانتقاء من الموروث، وقد يتأتّى ذلك من خلال “تنوير الموروث المسلم” بالعمل على إعادة صياغة مقولاته على أساس العقل، وعندها يمكن الحديث عن “تنوير الموروث المسلم” و”نهضة المسلمين”.
________
*الراصد التنويري/ العدد الثالث (3)/ يناير- كانون الثاني 2009.