اجتماعالتنويريسلايدر

مفهوم التنمية الذاتيَّة في التصوُّر الإسلامي

من المهم أن مصطلحات من قبيل “التنمية الذاتيَّة” و”التنمية البشريَّة” وغيرها من المصطلحات المركَّبة أصبحت تكتسي أهميَّة كبيرة في الفكر الغربي والعربي المعاصر، حتى إنه ليمكن القول إنّ: “التنمية الذاتيَّة” والتنمية البشريَّة” هي موضة العصر، بما تحمله من أفكار ومعلومات نظريَّة وعمليَّة ذات طابع فلسفي ليبرالي عالمي، ومن مجمل المصطلحات والمفاهيم التي راجت في مجال المنظّمات والشركات الإعلاميَّة والاقتصاديَّة والمعلوماتيَّة: كالتحفيز، والتطوير، والتدريب، والقيادة، والمهارات، والاستشارات، والتحفيز الذاتي، والإلقاء الفعّال.

ولقد كان لهذه المصطلحات الغربيَّة الأثر النفسي البالغ على الوجدان العربي الإسلامي، لكونها تحمل في طيّاتها كل آمال التفوّق الذي يحلم به الإنسان العربي المسلم، قصد تحقيق التغيير المنشود، وتجاوز واقع التبعيَّة والتخلّف، وضعف التحفيز والهمّة والإرادة، ولكنه في نفس الوقت يضرب في عمق الثوابت الدينيَّة والأسس الأخلاقيَّة، رغم انحيازها نحو الرؤية الإسلاميَّة، انطلاقا من إدارة الوقت، والذات، وتطوير الشخصيَّة، والثقة في النفس كل هذا وغيره من أجل إتقان أداء العمل وتميّزه، وهو الشيء الذي جعل معظم المهتمّين والخبراء في التنمية البشريَّة في العالم العربي والإسلامي، ينخرطون بشكل فعَّال ضمن ما يسمَّى بالمشاريع الإصلاحيَّة، قصد تأصيل مصطلحات ومفاهيم التنمية الغربيَّة، انطلاقا من الرؤية الإسلاميَّة المؤطّرة من الوحي الإلهي، الكفيلة بتحصين الذات العربيَّة من الاستلاب والتبعيَّة العمياء، وبيان قدرتها على تطوير قضاياها التنمويَّة، وهذا كله في إطار معركة الصراع بين العالم المتقدِّم والعالم يطمح للتقدّم.

فما مفهوم التنمية الذاتيَّة في الاستعمال العربي، وما المقصود بالتنمية الذاتيَّة في التصوّر الإسلامي؟

  1. مفهوم التنمية الذاتيَّة في الاستعمال العربي

التنمية مصدر “نمى” ويندرج في مادة (ن.م.ى) قال ابن فارس: “النُّونُ وَالْمِيمُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعٍ وَزِيَادَةٍ”[1]. ولعل هذا المعنى مأخوذ حسيا من قولهم:” نَمَى الخِضابُ فِي الْيَدِ وَالشَّعْرِ إِنَّمَا هُوَ ارْتَفَعَ وَعَلَا وَزَادَ فَهُوَ يَنْمِي”[2]. وقولهم: “نمى المال ينمي زاد” ” وَالنَّامِية: الْخَلْقُ، لِأَنَّهُمْ يَنْمُونَ، أَيْ يَزِيدُونَ”[3] يُقَالُ: نَمَيْتُ حَدِيثَ فُلَانٍ، مُخَفَّفًا، إِلى فُلَانٍ أَنْمِيه نَمْياً إِذا بَلَّغْته عَلَى وَجْهِ الإِصلاح وَطَلَبِ الْخَيْرِ، ونَمَّيته، بِالتَّشْدِيدِ: رفعْته عَلَى وَجْهِ الإِشاعة”[4] وكل رفع وارتفاع زيادة.

2 ـــــ مفهوم التنمية الذاتيَّة في التداول الغربي

ينتمي مصطلح: تنميَّة الذات” أو ” تطوير الشخصيَّة” personal dévelopement)  أو self help) إلى مجال “التنمية البشريَّة” (le dévelopement humain) و”التنمية” عمليَّة حركيَّة توجيهيَّة شموليَّة هادفة. تتعلق بالنمو البشري. وتشمل جميع نواحي الحياة وأنشطة الإنسان وحاجاته ومتطلباته. لذا يقصد بالمركب المصطلحي “التنمية البشريَّة” في أشهر استعمالاته الغربيَّة: “عمليَّة تنمية تؤدِّي إلى توسيع الخيارات المتاحة أمام الناس” “والحرّيات البشريَّة لا حدود لها، ومردها ــ عند النظر في مجالاتها ــــ إلى ثلاثة خيارات أساسيَّة وهي: “أن يحيا الناس حياة طويلة خالية من العلل، وأن يكتسبوا المعرفة، وأن يحصلوا على الموارد لتحقيق مستوى حياة كريمة”.

  • ــــ مفهوم التنمية الذاتيَّة في التصوّر الإسلامي:

لقد استطاع الغرب بعد هيمنته على مختلف بقاع العالم، أن يفرض نظريته ومفاهيمه في التنمية على برامجه وسياسته، حتى تبطَّن في عقول السواد الأعظم من شبابنا، مقولة مشهورة على الألسنة مفادها أن كل ما هو غربي فهو تنموي حداثي تقدّمي، وأن تحقيق التنمية المنشودة لهذه الشعوب رهينة باتباع الفكري التنموي الغربي ومنهجه في تحقيق التفوّق العمراني والتقني.

أمام هذا الواقع المهزوم، وفي سياق تفعيل ما يسمَّى بالمشروع الحضاري الإسلامي، الذي بدأ منذ العقدين الأخيرين للنهوض بالأمة العربيَّة الإسلاميَّة، ومحاولة إصلاح ما فسد من أحوالها الماديَّة والمعنويَّة، انبرى عدد كبير من كتاب التنمية الذاتيَّة ومنظِّرو الاقتصاد الإسلامي إلى الإلحاح على الرجوع إلى المرجعيَّة الإسلاميَّة العليا، حتى تقدر على الصمود أمام التيارات الماديَّة والشهوانيَّة، والفلسفات الليبراليَّة، ومن أبرز هؤلاء الباحثين الذين نادوا بضرورة تنمية الإنسان تنميَّة عميقة متوازنة تجمع بين ما هو مادّي وروحي دون أن يطغى جانب على آخر. ومن هذا المنطلق اختار أحد أشهرهم “التنمية المتكاملة” عنوانا مؤطّرا لأفكاره ونظريته التنمويَّة الإسلاميَّة حيث عرف التنمية بأنها: “مجموعة الجهود المتنوّعة والمنسّقة التي تؤهّل المجتمع المسلم للقيام بأمر الله تعالى”[5].

وأضاف موضحا أكثر هذا التعريف:” فالرفاهيَّة وفرص العمل والتعليم والتدريب والاستماع بأوقات الفراغ والتقدّم التقني كل ذلك يهدف إلى شيء واحد، وهو تأهيل المسلم ورفع كفاءته، وتهيئة المناخ البيئي والاجتماعي الذي يساعده على أداء حقوق العبوديَّة لرب العالمين والقيام بواجبات الاستحلاف في الأرض على وجه الأكمل”[6].

وهذا التصوّر المتميِّز نفسه للتنميَّة البشريَّة هو الذي أطَّر المشروع التدريبي للدكتور إبراهيم الفقهي ــ رحمه الله ـــ أحد ألمع خبراء التنمية الذاتيَّة في العالم الغربي والإسلامي حيث عرف التنمية البشريَّة في إحدى حواراته الإعلاميَّة[7] بأنها: “التنمية الروحيَّة والنفسيَّة والبشريَّة لتحسين الحياة، وكل ذلك موجود في القرآن” وأضاف بأن التنمية البشريَّة ليست علما، وإنما هي حياة، لأنها تستدعي “أن تعرف ذاتك، لتكون أفضل مع نفسك، وأفضل مع الآخرين، والأفضل في كل شيء تريد أن تحقيقه أو تغييره” وذلك يتطلب كثيرا من المعرفة والحكمة: مثل دعم الثقة، وتعلم قوة التحكم في الذات والأعصاب. وإدارة التوتر والخوف، ومعرفة التفكير الاستراتيجي، والتفكير الروحاني، وتعلم مهارات القيادة، والإبداع وصناعة التميز. وتقنيات التحفيز الذاتي، والاتصال الفعال..”.

لقد استطاع الغرب بعد هيمنته على مختلف بقاع العالم، أن يفرض نظريته ومفاهيمه في التنمية على برامجه وسياسته، حتى تبطَّن في عقول السواد الأعظم من شبابنا، مقولة مشهورة على الألسنة مفادها أن كل ما هو غربي فهو تنموي حداثي تقدّمي، وأن تحقيق التنمية المنشودة لهذه الشعوب رهينة باتباع الفكري التنموي الغربي ومنهجه في تحقيق التفوّق العمراني والتقني.

ورغم انسياق الدكتور إبراهيم الفقهي وغيره من المهتمّين بشأن التنمية البشريَّة وراء التوجّهات الحديثة في مجالات الإدارة والتدريب وتنمية القوى البشريَّة في العالم الغربي. والتي أخذت في الدنو من الرؤية الإسلاميَّة؛ رغم فقدانها الثوابت الدينيَّة والمبادئ الأخلاقيَّة، فقد أكَّد في عدد كتابته المتأخِّرة على أن النجاح الحقيقي في الحياة هو النجاح القائم على التوازن، ولا يكون النجاح فقط مقتصرا على النجاح المادي المحض، وتفوّقا في تحصيل الشهادات العلميَّة وفي إدارة الأعمال والتسويق، وإنما الأساس الأوّل من أركان هذا النجاح الكامل الذي يحقِّق للإنسان الحياة الطيِّبة المتوازنة هو الركن الروحي (الجانب الإيماني) والذي يشمل علاقة الإنسان بربّه، وقيمه ومبادئه في النجاح[8].

نخلص مما سبق ذكره أن المقصود بالتنمية الذاتيَّة في التصوّر الغربي تطوير مهارات حياتيَّة من أجل تحسين مسألة الحياة وتحقيق الأهداف الماديَّة المحضة، وهذا المفهوم يشكِّل جزءا فقط لمفهوم التنمية الذاتيَّة في المنظور الإسلامي باعتبارها عمليَّة إصلاحيَّة شاملة للذات الإنسانيَّة، عمليَّة توازن بين الجانب المادي والروحي، دون أن يطغى جانب على آخر. عمليَّة محكومة بمرجعيَّة دينيَّة عقديَّة وأخلاقيَّة، مستمدَّة من الوحي الإلهي، وداعمة لطبيعة الإنسان الخيِّرة وطاقاته المحدودة.

_______________

[1] ـــ مقاييس اللغة، أحمد بن فارس/ مادة (ن.م.ى) ج5، ص 479.

[2] ـــ لسان العرب، ابن منظور/ مادة (ن، م، ى)، ج14، ص 342.

 ــــ مقاييس اللغة/ (ن، م، ي). ج5، ص 479. [3]

 ــــ لسان العرب/ (ن، م،ى)، ج15، ص 341.[4]

[5] ــــ مدخل إلى التنميَّة المتكاملة رؤيَّة إسلاميَّة، الدكتور عبد الكريم بكار، دار القلم دمشق، الطبعة الأولى: 1432هـ ــ 2011م، ص 10.

[6] ـــ المرجع السابق، ص 10.

[7] ــــ على أمواج إذاعة شمس FW التونسيَّة، بتاريخ شتنبر 2016 (ينظر على الشابكة بتصرف).

[8] ــــ ينظر: سحر القيادة، الدكتور إبراهيم الفقهي، دار اليقين، مصر، ط1/ 2008، والطريق إلى الامتياز، إبراهيم الفقهي، الرايَّة، مصر، ط1، ص، 2009.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة