التنويريسلايدرفكر وفلسفة

هل وُجِدَ النقد في تراثنا العربي والثقافة العربيَّة؟

 

نعم، وُجِدَ لكن تمَّ تهميشه لصالح مبدأ السمع والطاعة حفاظا على سلامة المجتمع من نزاعات بعضها متوهَّم، لكن نلاحظ أنه منذ فترة مبكِّرة كان المفكِّرون والفلاسفة المسلمون مهتمين بالإقناع والإفهام الذي عبَّر عنه الجاحظ بالبيان والذي يقول عنه: ” البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير حتى يفضي إلى حقيقة ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان/ ومن أيِّ جنسٍ كان الدليل، لأنَّ مدار الأمر والغاية التي كان يجرى إليها القائل والسامع إنَّها هو الفهم والإفهام فبأي بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضوع”.

 

يُظهِرُ هذا التعريف أنَّ بلاغة الجاحظ تكتسي بعدًا تداويليًّا، بحيث تعتني بقضيَّة ” إفهام السامع، وإقناعه” فالإفهام بهذا المعنى ينطوي على استحضار الآخر من جهة، واعتبار الوظيفة التواصليَّة للقول من جهةٍ أخرى.

مقالات ذات صلة

 

الجاحظ من هذا المنطلق هو صاحب نظريَّة الإقناع، فقد انتبه إلى سلطان الكلام وعارضه الاحتجاج، وما لهما من مفعولٍ في الاستمالة وجلب انخراط المستمعين، لذلك ربط البلاغة بالإقناع، يقول الجاحظ ” جمع البلاغة البصر بالحجَّة والمعرفة بمواضع الفرصة”.

 

فالبلاغة تغدو وسيلة للتأثير على المستمع، والظهور عليه وإقناعه بالرأي، إنَّ القول البليغ منذور لتحويل حياد المتلقِّي أو معارضته إلى تجاوب، الدكتور محمد العمري لخَّص الأغراض الإقناعيَّة حسب تصوُّر الجاحظ في: “استمالة القلوب والتصديق وفهم العقول وإسراع النفوس والاستمالة والاضطرار والتحريك وحلّ الحيوة”.

 

هنا تبرز حاجة المجتمعات إلى علم الجدل الذي يبيِّن محي الدين بن الجوزي مدى الحاجة إليه على النحو التالي: “اعلم – وفقنا الله وإياك أنَّ معرفة هذا العلم لا يستغني عنها ناظر، ولا يتمشَّى بدونها كلام مناظر، لأنه يتبيَّن صحَّة الدليل من فساده- تحريرًا وتقريرًا، وتتَّضح الأسئلة الواردة – من المردودة- إجمالا، تفصيلا، ولولاه لاشتبه التحقيق في المناظرة بالمكابرة ولو خلى كل دمع ودعوى ما يرومه على الوجه الذي يختاره- ولو مكَّن كل مانع من ممانعة ما يسمعه- متى شاء- لأدَّى إلى الخبط وعد الضبط، وإنما المراسم الجدليَّة تفصل بين الحقِّ والباطل، وتميِّز المستقيم من السقيم فمن لم يحط بها علما كان في مناظرته كحاطب ليل”.

 

تتحدَّد المناظرة إذن بخواصها التخاطبيَّة والجدليَّة، ومن ثم فهي ممارسة حجابيَّة تهدف إلى تشكيل رأي أو معرفة مشتركين، وبذلك فهي تتطلَّب طرفين في وضع تفاعل. تطوَّرت المناظرة في التراث العربي الإسلامي عن الخطابة، واستنبطت الكثير من آليّاتها الإقناعيَّة إلا أنها انطبعت أكثر بسمات الحاجة الفكريَّة والمذهبيَّة.

 

اختفى علم الجدل والمناظرة من أدبيَّات العرب المعاصرة، إذ جرى وأده لأنه لا يتَّسق مع سمة الأنظمة المجتمعيَّة العربيَّة، وعلى جانب آخر رأت فيه تيارات الإسلام السياسي نسقًا يتضارب مع فكرة السمع والطاعة والتبعيَّة، كما أنَّ ضعف التكوين للدعاة وعلماء الدين العلمي لا يصبّ لتكوين علماء لديهم القدرة على خوض غمار الجدل، في حين أنَّ علم الجدل ما هو إلا ترشيد لاختلاف الآراء ولو جرى الاستثمار فيه سيصبّ في صالح المجتمعات العربيَّة، إذ سيرشد التعصُّب الديني والمذهبي، وسيحدث حوارات صحيَّة حول القضايا السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

لم تكن المناظرة في التراث العربي تنازلا أو صراعا بلا معنى، بل شكَّلت نوعا من المفاكرة القائمة على احترام الآخر ورأيه، واكتسبت صفة البحث المعرفي.

 

فخر تراث العرب بالحوارات الفكريَّة الثريَّة التي كان منبعها ترشيد الصراع الفكري والمذهبي والحيلولة دون تحوّله إلى صراع عنيف، كان العرب يهدفون من حواراتهم الانتصار للحقّ، وهو هدف يختلف تمامًا عن الجدل اليوناني الذي يقول على الانتصار للرأي صائبا أم خطأ، هكذا اختلفت الرؤيتان وانطلاقتهما الفلسفيَّة، انعكس هذا في احترام المذاهب الإسلاميَّة على اختلافاتها للآراء المتضاربة أحيانا، هنا تبرز آداب المناظرة والحوار، وهو ما افتقدناه في الخطاب العربي المعاصر.

 

اختفى علم الجدل والمناظرة من أدبيَّات العرب المعاصرة، إذ جرى وأده لأنه لا يتَّسق مع سمة الأنظمة المجتمعيَّة العربيَّة، وعلى جانب آخر رأت فيه تيارات الإسلام السياسي نسقًا يتضارب مع فكرة السمع والطاعة والتبعيَّة، كما أنَّ ضعف التكوين للدعاة وعلماء الدين العلمي لا يصبّ لتكوين علماء لديهم القدرة على خوض غمار الجدل، في حين أنَّ علم الجدل ما هو إلا ترشيد لاختلاف الآراء ولو جرى الاستثمار فيه سيصبّ في صالح المجتمعات العربيَّة، إذ سيرشد التعصُّب الديني والمذهبي، وسيحدث حوارات صحيَّة حول القضايا السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

 

كان الدكتور محمد أبو زهرة أبرز علماء الأزهر الشريف من ألَّف في علم الجدل في عصرنا، وحاول إحياء هذا العلم وتجديده، ثمَّ نشر الباحث السوري المتميِّز محمود السيد دغيم مخطوطة مهمَّة لمحي الدين يوسف بن الجوزي عنوانها ” الإيضاح لقوانين الاصطلاح” وهي في الجدل والمناظرة، وتُعدّ أفضل ما وصلنا في هذا المجال العلمي.

 

 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة