سلايدرفكر وفلسفة

الحق في الاعتراف بالخطأ وتشكل مفهوم الفرد

تاريخ وعي الإنسان وتكامله، هو تاريخ وعيه بأخطائه وتجاوزها. فالحياة لا تُعلِّم إلا من يعترف بأخطائه، ومن لا يعترف بأخطائه لا يتعلم؛ إذ التعلم هو فن الإصغاء والاستيعاب والتفكير، والاعتراف بالأخطاء بلا شعور بالخوف. كل من لا يعترف بأخطائه، سترغمه الحياة على تكرار فشله. فالأخطاء أعظم معلم في الحياة، لمن يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ. ومن لا يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، لا يمتلك أية قدرة على تغيير ذاته، ولا يمتلك أية قدرة على تغيير العالم. من يعجز عن ‏تغيير ذاته، يعجز عن ‏تغيير العالم. وخوف الإنسان من التغيير، خوف من اعترافه بأخطائه.

التربية على الخوف من الخطأ والتنكر له، تضعف قدرة الإنسان على اكتشاف نفسه، أو التعرف إلى التضاد في طبيعته البشرية ومواطن ضعفه وهشاشته، وتنسيه حالات عجزه في شيخوخته ومرضه وموته. التنكر للخطأ يرسخ الغرور والطغيان والتكبر والتجبر، عند كثير من الناس. واكتشاف مواطن ضعف الكائن البشري، ضرورة يفرضها الفهم الواقعي لكيفية بناء صِلاته بما يحيط به، وتحديدها في ضوء طبيعته البشرية، وبُنيته السيكولوجية، وطبيعة تكوينه، وليس وفقًا لما يتمناه، وتمليه عليه رغباته وتقديره الموهوم لمواهبه، وما يخلعه على نفسه من قدرات واستعدادات زائفة.

في مجتمعنا، الفرد برأيي لا يفكر؛ إذ الجمهور يفكر نيابة عنه. المسؤولية الفردية مستلبة. فأنت مسؤول عن الكل من دون أن تكون مسؤولًا عن نفسك، والكل مسؤول عنك من دون أن تكون مسؤولًا عن نفسك. منذ أن يبتدئ الإنسان مشوار الحياة، يمتدح الناس طاعته لاختيارات غيره له فيما: يأكله ويلبسه، أو يحبه ويكرهه، أو يريده ولا يريده. يريدون منه: أن يفكر لغيره، وأن يفهم لغيره، وأن يشعر لغيره، وأن يتألم لغيره، وأن يفرح لغيره، وأن يحب لغيره، وأن يكره لغيره، وأن يتذكر لغيره، وأن ينسى لغيره، وأن ينجز لغيره. كل ما يفعله الفرد في حياته، هو إعادة إنتاجه لصورة غيره.

في مجتمعنا، يعاد استنساخ صور متشابهة للبشر، تُستلب فيها فردية الكائن البشري ومسؤوليته. يتحدث القرآن الكريم بالفرد والمسؤولية الفردية في آيات متعددة، إذ وردت في سياقات متنوعة، منها: {كل نفْس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38]، {ولا تَزِرُ وازرة وِزْر أخرى} [فاطر: 18]، {ولا تَكسب كل نفْس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]، {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} [فُصِّلَت: 46]، {وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولِتُجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يُظلمون} [الجاثية: 22].

لا معنى لمجتمع تعددي، من دون بناء لمعنى الفرد. فعندما يتحقق معنى الفرد في أي مجتمع، يتحقق معنى التعدد والتنوع والاختلاف. يتشكل معنى الفرد، بعد أن تترسخ تقاليد الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه. ومالم ينشأ ويتشكل وينضج مفهوم الفرد في مجتمعنا، يظل المجتمع يفتقر إلى أشخاص يمتلكون فرادة في التعبير عن مواهبهم الخلاقة، والإعلان عن قدراتهم على الإبداع والابتكار، وتميُّزًا في مواقفهم المغايرة للتفكير اللامنطقي، والسلوك اللاأخلاقي.

لا يمكن أن يتشكل معنى الفرد، في مجتمع يفرض على الإنسان الخضوع والانصياع لكل تقاليده وأعرافه، وألَّا يَخرج على النموذج الواحد المشروع، الذي يمثله “الخليفة/السلطان/الشيخ”، حتى إن كان لا يصلح -عقليًّا أو أخلاقيًّا أو سلوكيًّا- أن يكون قدوة ومثالًا يحتذى. “الخليفة/السلطان/الشيخ” يعزز حضورُه وسطوته جهلَ المجتمع وعبوديته الطوعية. لذلك، يرضخ أكثر الناس له بشكل طوعي. فهو يريد من الكل أن يروا ما يراه، ويفكروا فيما يفكر فيه، ويشعروا بما يشعر به، ويستسلموا لقراراته -مهما كانت-: {قال فرعون ما أُريكم إلا ما أرى} [غافر: 29]. مثل هذا المجتمع تسود حياته رؤية واحدة للعالم، ومعتقد واحد، وفهم واحد للحياة، ونوع واحد يتكرر من المواقف، وسلوك واحد، الكل فيه يكرر الكل.

في مجتمعنا، تترسخ تقاليد الإذعان والخضوع والطاعة العمياء، المشتقة من:

  1. بعض التقاليد القبَلية المتغلغلة في بنية مجتمعنا.
  2. نمط تديُّن كلامي فقهي راسخ، يضمحل فيه حضور مقاصد الشريعة وقيمها المركزية، ولا يهتم كثيرًا بأهداف الدين المحورية، ورسالته في تكريس الحياة الروحية والأخلاقية.
  3. استبداد سياسي مقيم، متأصِّل ومتراكم عبر تاريخنا البعيد والقريب. فالاستبداد عدو معنى الفرد، والفرد يستمد معناه من الاختلاف. الاستبداد يستمد معناه من التطابق. ويبدأ الاستبداد بمختلف أنماطه، حين تَنشد التربية والتعليم محو الملامح الخاصة للكائن البشري. إن الاستبداد يشدد على الإذعان والانقياد والطاعة العمياء. وكل استبداد ينشد إنتاج نسخ متماثلة من الكائن البشري. أيضًا لا ينجز الاستبداد وعوده، إلا بمحو الفردية.
    _________
    *المصدر: تعدّديَّة.

اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

عبد الجبار الرفاعي

مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد وفلسفة الدين في المجال العربي. منذ أكثر من ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لبناء أرضية معرفية لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية. -عضو المجمع العلمي العراقي. -كتبت حتى اليوم 25 اطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير لدراسة مشروع عبد الجبار الرفاعي في تجديد الفكر الديني. -أستاذ جامعي لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد وعلوم الدين بجامعة الأديان والمذاهب. أشرف على وناقش 80 اطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير. رئيس مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. آثاره المطبوعة 54 كتابًا. مواليد الرفاعي جنوب العراق، 1954. دكتوراه فلسفة إسلامية، بتقدير إمتياز، 2005. ماجستير علم کلام، بتقدير إمتياز، 1990. بكالوريوس دراسات إسلامية، بتقدير إمتياز، 1988. أمضى أكثر من 40 سنة تلميذًا وأستاذًا في الحوزة. انخرط في دراسة علوم الدين في حوزة ي النجف سنة 1978، وحضر دراسة المقدمات وبعض السطوح فيها، ثم أكمل بقية دراسة السطوح والبحث الخارج في حوزة قم، ودرس الفلسفة والعرفان فيها. حضر دروس البحث الخارج في الفقه واصول الفقه لمدة ثمان سنوات، في الحوزة العلمية في قم، حتى تأهل علميا للاستناد الى نظره الخاص والاجتهاد في فهم الدين وتفسير نصوصه، والاستنباط الفقهي. أصدر مجلة قضايا اسلامية، وهي مجلة فكرية نصف سنوية تعنى بتجديد الفكر الديني، ورأس تحريرها للسنوات 1994-1998. توقفت سنة 1998. أصدر مجلة قضايا اسلامية معاصرة سنة 1997 ورأس تحريرها، وهي مجلة محكمة متخصصة بفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، يصدرها مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد – بيروت. صدر منها 80 عددًا، وما زالت تصدر منذ 25 عامًا. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، أصدر المركز أكثر من 300 كتابًا. أصدر سلسلة كتاب: “قضايا اسلامية معاصرة”، ورأس تحريرها، صدر منها أكثر من مائة كتاب في بيروت. أصدر سلسلة كتاب: “فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد”، ورأس تحريرها، صدر منها ثلاثون كتابًا مرجعيًا في بيروت. أصدر سلسلة كتاب: “ثقافة التسامح” الدورية في بغداد سنة 2004، ورأس تحريرها، صد منها عشرون كتابًا. أصدر سلسلة كتاب: “فلسفة وتصوف” في بيروت، ورأس تحريرها، صدر منها عشرة كتب. أصدر سلسلة كتاب: “تحديث التفكير الديني” في بيروت سنة 2013، ورأس تحريرها، صدر منها خمسة عشر كتابًا. الجوائز: جائزة الانجاز الثقافي الأولى للترجمة والتفاهم الدولي في الدوحة، على منجزه الفكري الرائد وآثاره في تأصيل المعرفة وثقافة الحوار وترسيخ القيم السامية للتنوع والتعددية والعيش المشترك، قيمة الجائزة مائة ألف دولار. الدوحة – قطر 14 ديسمبر 2017. الجائزة الأولى للبطريركية الكلدانية في العراق على أعماله الفكرية، بوصفها أهم انتاج فكري صادر في العراق للعام 2020. الدرع الذهبي للحركة الثقافية بأنطلياس في لبنان، لدوره في إغناء المنجز الثقافي في العالم العربي، 2013. اعترافا بالمهمة التي نهضت بها، وبوصفها الدورية الأهم المتخصصة بفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية، خصّص “المعهد البابوي في روما” التابع للفاتيكان كتابَه السنوي 2012 لمجلة قضايا إسلامية معاصرة. صدر الكتاب بالايطالية والانجليزية والفرنسية، في 320 صفحة. الجائزة الأولى على اطروحته للدكتوراه، في مباراة تنافست فيها أكثر من 200 رسالة واطروحة جامعية، 2009. الجائزة الأولى لكتاب الوحدة الإسلامية في طهران على جهوده في الكتابة والنشر والدعوة للوحدة والعيش سويًا في فضاء التنوع والاختلاف، 2005. الجائزة الأولى للمؤرخ حسن الأمين في لبنان على منجزه المعرفي وجهوده الثقافية، 2003. من آثار عبد الجبار الرفاعي المطبوعة: متابعات ثقافية: مراجعات وقراءات نقدية في الثقافة الإسلامية، 1993. المرأة والأسرة في الإسلام، 1993. ترجمة كتاب شرح المنظومة في الفلسفة الإسلامية للأستاذ مرتضى المطهري، في أربعة مجلدات، 1992-1993. ترجمة كتاب: محاضرات في الفلسفة الإسلامية للأستاذ مرتضى المطهري، 1994. موسوعة مصادر النظام الإسلامي، في عشرة مجلدات، 1996. منهج محمد باقر الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، 1997. تطور الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية، 2000. مناهج التجديد، 2000. الفكر الإسلامي المعاصر: مراجعات تقويمية، 2000. محاضرات في أصول الفقه، في مجلدين، 2000. مبادئ الفلسفة الإسلامية، في مجلدين، 2001. جدل التراث والعصر، 2001. فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة، 2001. علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، 2002. مقاصد الشريعة، 2002. الاجتهاد الكلامي: مناهج ورؤى متنوعة في الكلام الجديد، 2002. ترجمة كتاب: العقلانية والمعنوية (بالاشتراك) للأستاذ مصطفى ملكيان،2005. ترجمة كتاب: التدين العقلاني، (بالاشتراك) للأستاذ مصطفى ملكيان، 2005. مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، 2005. التسامح ومنابع اللاتسامح، 2005. التسامح ليس منة أو هبة، 2006. تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية، 2010. إنقاذ النزعة الانسانية في الدين، 2012. صدرت طبعته الثالثة 2019 بعنوان: الدين والنزعة الانسانية. تمهيد لدراسة فلسفة الدين، 2014. الدين وأسئلة الحداثة، 2015 الايمان والتجربة الدينية، 2015 الدين والظمأ الأنطولوجي، 2015، صدرت طبعته الثالثة 2019. الحب والايمان عند سورن كيركگورد، 2015 علم الكلام الجديد: مدخل لدراسة اللاهوت الجديد وجدل العلم والدين، 2016. الهرمنيوطيقا والتفسير الديني للعالم، 2017. الدين والاغتراب الميتافيزيقي، 2018، صدرت طبعته الثانية 2019. الشيخ أمين الخولي: الهرمنيوطيقي الأول في عالَم الإسلام، 2020. مقدمة في علم الكلام الجديد، 2021. الدين والكرامة الإنسانية، 2021. . مسرات القراءة ومخاض الكتابة . ⁠مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث. المؤلفات غير المطبوعة: شرح كتاب “كفاية الأصول” في أصول الفقه، للشيخ محمد كاظم المعروف بالآخوند الخراساني، في خمسة مجلدات. شرح كتاب “نهاية الحكمة”، للعلامة محمد حسين الطباطبائي، في ثلاثة مجلدات. شرح كتاب “دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة من دروس في علم الأصول”، للسيد محمد باقر الصدر، في مجلدين. شرح كتاب “المنطق”، للشيخ محمد رضا المظفر، في مجلدين.

مقالات ذات صلة