لعل السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة في الحاضر الماثل هو: هل بدأنا حقًّا مرحلة أو عصر التنوير في العالم العربي.. أمّ أنّ ثمّة إرهاصات مبعثرة وعمليّات نقد متباينة لطرح أفكار جريئة متباعدة في تواصلها وتلاقحها كتباعد أطراف العالم العربي؟
أعتقد أنّ ما نلمسه عن التنوير يمثِّل بداية في قيد التطوير والنضج، لكنّها تبقى في الزمن الراهن غير كافية لتشكيل العصر الجديد المرتجى. فعمليَّة النقد وتيّار الأفكار (إن وجدا) لم يتحوّلا بعد إلى ثقافة يمكنهما أن يقدّما مشروع عمل في طرح البديل، ولا يكون الإجماع بالصوت وإنما بالفعل لاستثمار المساحة الإنسانيَّة المشتركة والاستفادة من التأثير، تأثير الآخر، المحتوي على مضمون بالإمكان أن يتحوَّل إلى إبداع مغاير مناسب للواقع الجديد.. أي ليس تقليدًا أو محاكاة أو عمليَّة نقل من دون وعي.
في صفحات الكتاب الذي دوّنته قبل ثلاث سنوات، ولم ينشر لغاية الآن لأسباب تقنيَّة، أطلقت على عصر النهضة الأولى تسمية عصر الأزمة الأوّلي، وذلك لأنّ ما قام به الأفغاني ومحمد عبده والعديد غيرهما كان كبيرًا ولا يمكن الاستهانة به، غير أنّه لم يمكن يتملّك مقومات الولوج إلى أعماق المجتمع ليحدث تغييرات التي شهدتها أوروبا أبان مرحلة التنوير على سبيل المثال، أو اليابان بعد الحرب العالميَّة الثانية.. والعديد من الدول التي شهدت النهوض والارتقاء حديثًا.
أعمال المصلحين الأوائل من أفكار ومفاهيم وشعارات كانت في معظمها تقليدًا أو نقلًا عن الثقافة الأوروبيَّة ولم تستفد من واقع العرب والمسلمين لإحداث تلك التغييرات أوّلًا، وامتصاص تلك الأفكار وتأهيلها في سياقها الجديد ثانيًا، ثمّ فرض نفوذها وتأثير منطقها الذاتي ثالثًا، الأمر الذي أدَّى إلى هضمها بجوفيَّة معطوبة أو حملها لضبابيَّة كبيرة باعدها عن الضمير والوجدان العربي وأصبحت مجرّد محاكاة لا غير.
الأمر الآخر هو لم يكن هناك فهمًا متطوّرًا للثوابت الدينيَّة أو فرزنة الأمور فيما يتعلّق بقسم من هذه الثوابت الآتية من فقه القرون الوسطى التي لا يمكن بأي حال من الأحوال التناسق مع حاضرنا الماثل. والأهم من ذلك لم تتشكَّل طبقة أو حتى شريحة اجتماعيَّة متعلّمة ومثقّفة وفاعلة يمكن أن تكون حلقة وصل بين المصلحين والمجتمع ليأخذ الإصلاح دوره في سياق التأثير والتغيير.
كان متوقّعًا انهيار هذا الصرح النهضوي الضعيف حالما يتعرّض إلى أي تحدٍّ. وتمثّل التحدي الأوّل بأفكار القطبين (محمد قطب وسيّد قطب) أو المودودي ممّا ساهم بانحسار آثار الموجة الأولى من المفكّرين والمصلحين مثل محمد عبده والطهطاوي، ونسفها عمليًّا في الواقع الحياتي بسبب ضعف الطبقة المدنيَّة المتعلّمة وانعزالها كمجموعة نخبويَّة عن شرائح وطبقات المجتمع. كما أنّها ظلّت في الوق ذاته محافظة على الواجهة دون الولوج في عمق الجوهر وقرار المحتوى، ممّا دفع الأمر برمّته إلى بلورة عصر الأزمة الثانية (الردّة العقليَّة) ليطلّ القديم بكل مضاعفاته ويثقل الحاضر بتناقضاته.
وإثر جهود طويلة تمّ تفسير التراث بالتراث، أي بمعنى آخر رؤية التراث من زاوية الماضي بعيدًا عن رؤية ظروف وحالة الزمن الحاضر، الأمر الذي يدعونا لطرح السؤال الآتي: هل فكّر هؤلاء في إعادة فهم النصّ أم النصّ أناب عنهم بالتفكير.. هل استنطقوا النصّ أم النصّ استنطقهم؟
ولعلّ عدم تراكم الخبرات والمعارف والرؤى ساهم بالتراجع والبدء من الصفر مجدّدًا لاعتقاد كل جيل بأحقيَّة أفكاره في وضع اللبنة الأولى في حجر الأساس.
من جانبٍ آخر تنامت موجة فاعلة ضدّ الروحانيَّة على غرار ما حدث في أوروبا، رغم أنّها لم تكن ضدّ الدين (عدا النموذج الفرنسي) وإنّما كانت ضدّ السلطة الدينيَّة في عصر التنوير.
الفيلسوف الألكاني المعاصر يورغن هبرماس يصرّ على أنّ المعركة بين الإيمان والاعتقاد والغرائز من جهة، والعلمانيَّة والعقلانيَّة والتجريبيَّة من جهةٍ أخرى.. هي معركة خاسرة ومدمّرة ذاتيًّا. ويعتقد أنّ جوهر الطبيعة الإنسانيَّة يتشكّل من الاثنين، فلا يمكن حبس الطبيعة الإنسانيَّة أو الحاجة الإنسانيَّة في العقلانيَّة العلميَّة أو منطق السوق فقط أو أنّ الحاجة تشيد من قبل الروحانيَّة وانتظار الآخرة.
الحاجة الإنسانيَّة وتلبية طبيعتها لا يمكن أن تقوم بدون الغنى الأخلاقي واستخلاص المعرفة والعبر من الدين في كيفيَّة استخدامها أو توظيفها. فقيمة الإنسان كمثال أوّل أو مساواته مع الآخر كمثال ثانٍ، ونابعة من الاعتقاد الروحاني يكون تأثيرها أكبر من اعتقادها على أسس أخرى.
عالمنا المعاصر والمعقّد لا يمكن تفسيره بنبضه أو قوّة دفع أحاديَّة الجانب، لذا فنضالنا أو معاناتنا لفهم سرّ وجودنا على الأرض أو أحداث البناء الصالح لا يمكن أن يتمّ إلا قبلنا بالاثنين، أي الدوافع الروحانيَّة والعقلانيَّة.
ولعلّ الصعوبة الأكبر بعدم تبلور عصر جديد تكمن في عدم توفّر مصطلح يفسّر ظاهرة النهضة عند العرب والمسلمين ويوافق تصوّراتهم بالضبط، كما أدّى مصطلح التنوير للنهضة الأوروبيَّة، وهي مسألة مهمّة كونها تثير حساسيَّة لدى الكثير خاصَّة في فكر وتراث يلعب المصطلح دورًا بالغًا فيه.
ومن وجهة نظر شخصيَّة لا أرى أيّة مشكلة في استخدام التنوير أو النورانيَّة أو أيًّا من المصطلحات المتبلورة للمساهمة في عمليَّة البدء والانطلاق فيما قدّر لهذا الشأن أن يكون عصرًا جديدًا .. عصر لا يوأد فيه العقل أو تغتال المعرفة، عصر يمهّد لنظام معرفي جديد، عصر يلامس هموم الإنسان ويفهم الثوابت، عندئذٍ نكون قد أدركنا العصر الجديد.