التنويريسلايدرفكر وفلسفة

الحقّ في الاختلاف وتَشكل مفهوم الفرد

سألني أحد تلامذتي النابهين، ممن يريدون إحياء حزب شرقي، استنزَف أكثرُ قادته في السلطة ما كان يمتلكه لحظة تأسيسه، من روح وأخلاق وضمير وطني، وممن يجهلون وفريقهم المساعد أسس بناء الدولة الحديثة، ولا يَعرف عنهم المواطنُ إلا الحكم بمنطق القبيلة، والاستحواذ على ثروات الوطن بوصفها غنيمة.

هذا الحزب يوشك على الموت، بعد أن تَعذّر عليه مراجعة أدبياته ونقدُها، والتحولُ إلى رؤية بديلة للدولة تخلِّصه من المفاهيم المبسطة المحنطة في كتاباته التقليدية، والإصغاءُ إلى ما يفرضه عليه الواقع بكل ما فيه من وقائع جديدة -ومن مباغَتات أيضًا-، وبناءُ مفاهيم تتناغم والإيقاع السريع المتغير للواقع. فإكرامًا لتاريخه، ورحمةً بتضحيات صادقة لرجاله الأوائل؛ أَقترحُ إراحته بتهيئة الظروف المناسبة لإعلان وفاته قبل فوات الأوان. ولفرط حرص تلميذي، يريد إنقاذَ المحتضَر الذي صار فريسة، ويريد إعادته للحياة بكل وسيلة ممكنة. وأظن أنه لم تعد هناك وسيلة مُجْدية، إلى إنقاذ مصاب بأمراض مميتة وبعثِ الحياة فيه.

سأل تلميذي: “لماذا تتشظى أحزابُنا وتتفكك بالانشقاقات المتواصلة، وأحيانًا تسقط في سجن العائلة، كأنها منذ تأسيسها منقسمة على ذاتها، سواء أدينيةً كانت أم غير دينية كالأحزاب القومية واليسارية، وقلَّما نرى ظاهرة الانشقاقات المتواصلة في الأحزاب الديمقراطية الغربية، سواء أدينيةً كانت أم غير دينية، مع أن بعضها مضى على تأسيسه أكثر من قرن، ومع ذلك لم تسقط في إغواء السلطة ومغانمها، ولم تتآكل بالانقسامات المتوالية؟!”.

كان جوابي: كل حزب مِرآة لمجتمعه، وأحزابنا مِرآة لمجتمعنا، ترتسم فيها كل خصائص المجتمع ومعتقداته وقيمه وأعرافه وتقاليده وثقافته ومشكلاته وأمراضه المزمنة.

أعمقُ عوامل هذه الانقسامات المزمنة لأحزابنا، تنشأ من أن مجتمعاتنا فقيرة من منابع تغذية روافد التعدد والتنوع والتفكير الحرّ وترسيخها، والمتمثلة بالآتي:

– التربية على الحق في الاختلاف.

– التربية على الحق في الخطأ.

– التربية على الحق في الاعتراف والاعتذار.

– تحرير الفرد من الإذعان والخضوع والعبودية الطوعية.

هذه أسسٌ ينْبَنِي عليها كل قول بالتنوع والتعدّد والتفكير الحر. وكلُّ مجتمع لا يعرف معنى للاختلاف، لا يطيق التنوع أو التعدد بكل أشكاله، لأن أيَّ تفكير أو رأي أو موقف لا يكرِّر ما هو معروف ومفروض سلفًا، لا يكتسب أية مشروعية في مثل هذا المجتمع، بل غالبًا ما يُعَدُّ مارقًا.

كل تفكير أو رأي أو موقف، خارج ما تقوله الشعارات المتصلبة والأدبيات المغلقة للجماعات السياسية، يُعدُّ خروجًا عليها وخروجًا منها. الجماعاتُ السياسية في مجتمعنا تتحدث كثيرًا بالاختلاف والتنوّع والتعدّد، لكن كثير منها لا يطيق الإصغاء إلَّا إلى من يستمع لصدى شعاراته في صوته. وهو ينزعج وينفر عندما لا يرى صورته ماثلة بكل ملامحها، في آراء المختلِف ومواقفه وسلوكه في المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الأيديولوجي والسياسي.

لا معنى لمجتمع تعددي من دون بناء لمعنى الفرد، والحقُّ في الاختلاف هو الفضاء الطبيعي لتَشكّل مفهوم الفرد وتَطوره. وكل مجتمع يتأسّس على معتقدات وثقافة وتقاليد تتنكر للاختلافات الطبيعية بين البشر، يُجهَض فيه أيُّ مسعى لبناء مفهوم الفرد قبل أن يولد. البشر مختلفون في كثير من تكوينهم النفسي والتربوي والثقافي والاعتقادي والجسدي، إلى الحدّ الذي نرى فيه كل إنسان نسخة فريدة، ذاتَ بصمة خاصة لن تتكرّر أبدًا في العالَم، منذ أول إنسان إلى اليوم. ولو بقي الناس على تكوينهم الوراثي المعروف، ولم تتلاعب في هذا التكوين هندسة الجينات، لَظلَّ كل إنسان غير قابل للتطابق مع غيره -مهما كانت قرابةُ الدم بينهما-، حتى آخر فرد في هذا العالَم.

كل حزب سياسي يتأسّس على تقاليد تَغيب فيها المراجعات النقدية، تترسخ تقاليدُ استبدادٍ في بُنْيته اللاواعية. لذلك، يظل عُرضة لانقسامات لامتناهية، ريثما يتفكّك ويتلاشى، إلَّا إنْ كان ذلك الحزب يقع تحت وصاية مستبِد عنيف، كما في الاتحاد السوفيتي سابقًا، وفي الصين وكوريا الشمالية اليوم، وإن كان سرعان ما يتقوّض كل شيء لحظة هلاك المستبِد. ولكن، لم يتفكك أبدًا أي حزب يقع كل شيء فيه تحت سقف النقد، ويواصل تحديثَ خطابه ومفاهيمه وأساليب عمله في ضوء الواقع.

كل تعددية دينية أو ثقافية أو سياسية، لا بدّ أن تبدأ بتشكيل مفهوم الفرد، وتعمل على تجذيره تربويًّا ونفسيًّا وثقافيًّا. فبناء ثقافة تقوم على الحق في الاختلاف، هو الأساس الذي يولد في فضائه الفرد ويتشكّل مفهومه. فلا معنى لمجتمع تعددي متنوع من دون بناء مفهوم راسخ للفرد، ولا معنى لمفهوم الفرد من دون تبجيل الكرامة الإنسانية وتكريسها، بوصفها قيمةً مرجعية عُليا تعلو على كل قيمة.
______
*المصدر: تعدّديَّة.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

عبد الجبار الرفاعي

مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد وفلسفة الدين في المجال العربي. منذ أكثر من ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لبناء أرضية معرفية لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية. -عضو المجمع العلمي العراقي. -كتبت حتى اليوم 25 اطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير لدراسة مشروع عبد الجبار الرفاعي في تجديد الفكر الديني. -أستاذ جامعي لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد وعلوم الدين بجامعة الأديان والمذاهب. أشرف على وناقش 80 اطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير. رئيس مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. آثاره المطبوعة 54 كتابًا. مواليد الرفاعي جنوب العراق، 1954. دكتوراه فلسفة إسلامية، بتقدير إمتياز، 2005. ماجستير علم کلام، بتقدير إمتياز، 1990. بكالوريوس دراسات إسلامية، بتقدير إمتياز، 1988. أمضى أكثر من 40 سنة تلميذًا وأستاذًا في الحوزة. انخرط في دراسة علوم الدين في حوزة ي النجف سنة 1978، وحضر دراسة المقدمات وبعض السطوح فيها، ثم أكمل بقية دراسة السطوح والبحث الخارج في حوزة قم، ودرس الفلسفة والعرفان فيها. حضر دروس البحث الخارج في الفقه واصول الفقه لمدة ثمان سنوات، في الحوزة العلمية في قم، حتى تأهل علميا للاستناد الى نظره الخاص والاجتهاد في فهم الدين وتفسير نصوصه، والاستنباط الفقهي. أصدر مجلة قضايا اسلامية، وهي مجلة فكرية نصف سنوية تعنى بتجديد الفكر الديني، ورأس تحريرها للسنوات 1994-1998. توقفت سنة 1998. أصدر مجلة قضايا اسلامية معاصرة سنة 1997 ورأس تحريرها، وهي مجلة محكمة متخصصة بفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، يصدرها مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد – بيروت. صدر منها 80 عددًا، وما زالت تصدر منذ 25 عامًا. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، أصدر المركز أكثر من 300 كتابًا. أصدر سلسلة كتاب: “قضايا اسلامية معاصرة”، ورأس تحريرها، صدر منها أكثر من مائة كتاب في بيروت. أصدر سلسلة كتاب: “فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد”، ورأس تحريرها، صدر منها ثلاثون كتابًا مرجعيًا في بيروت. أصدر سلسلة كتاب: “ثقافة التسامح” الدورية في بغداد سنة 2004، ورأس تحريرها، صد منها عشرون كتابًا. أصدر سلسلة كتاب: “فلسفة وتصوف” في بيروت، ورأس تحريرها، صدر منها عشرة كتب. أصدر سلسلة كتاب: “تحديث التفكير الديني” في بيروت سنة 2013، ورأس تحريرها، صدر منها خمسة عشر كتابًا. الجوائز: جائزة الانجاز الثقافي الأولى للترجمة والتفاهم الدولي في الدوحة، على منجزه الفكري الرائد وآثاره في تأصيل المعرفة وثقافة الحوار وترسيخ القيم السامية للتنوع والتعددية والعيش المشترك، قيمة الجائزة مائة ألف دولار. الدوحة – قطر 14 ديسمبر 2017. الجائزة الأولى للبطريركية الكلدانية في العراق على أعماله الفكرية، بوصفها أهم انتاج فكري صادر في العراق للعام 2020. الدرع الذهبي للحركة الثقافية بأنطلياس في لبنان، لدوره في إغناء المنجز الثقافي في العالم العربي، 2013. اعترافا بالمهمة التي نهضت بها، وبوصفها الدورية الأهم المتخصصة بفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية، خصّص “المعهد البابوي في روما” التابع للفاتيكان كتابَه السنوي 2012 لمجلة قضايا إسلامية معاصرة. صدر الكتاب بالايطالية والانجليزية والفرنسية، في 320 صفحة. الجائزة الأولى على اطروحته للدكتوراه، في مباراة تنافست فيها أكثر من 200 رسالة واطروحة جامعية، 2009. الجائزة الأولى لكتاب الوحدة الإسلامية في طهران على جهوده في الكتابة والنشر والدعوة للوحدة والعيش سويًا في فضاء التنوع والاختلاف، 2005. الجائزة الأولى للمؤرخ حسن الأمين في لبنان على منجزه المعرفي وجهوده الثقافية، 2003. من آثار عبد الجبار الرفاعي المطبوعة: متابعات ثقافية: مراجعات وقراءات نقدية في الثقافة الإسلامية، 1993. المرأة والأسرة في الإسلام، 1993. ترجمة كتاب شرح المنظومة في الفلسفة الإسلامية للأستاذ مرتضى المطهري، في أربعة مجلدات، 1992-1993. ترجمة كتاب: محاضرات في الفلسفة الإسلامية للأستاذ مرتضى المطهري، 1994. موسوعة مصادر النظام الإسلامي، في عشرة مجلدات، 1996. منهج محمد باقر الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، 1997. تطور الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية، 2000. مناهج التجديد، 2000. الفكر الإسلامي المعاصر: مراجعات تقويمية، 2000. محاضرات في أصول الفقه، في مجلدين، 2000. مبادئ الفلسفة الإسلامية، في مجلدين، 2001. جدل التراث والعصر، 2001. فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة، 2001. علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، 2002. مقاصد الشريعة، 2002. الاجتهاد الكلامي: مناهج ورؤى متنوعة في الكلام الجديد، 2002. ترجمة كتاب: العقلانية والمعنوية (بالاشتراك) للأستاذ مصطفى ملكيان،2005. ترجمة كتاب: التدين العقلاني، (بالاشتراك) للأستاذ مصطفى ملكيان، 2005. مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، 2005. التسامح ومنابع اللاتسامح، 2005. التسامح ليس منة أو هبة، 2006. تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية، 2010. إنقاذ النزعة الانسانية في الدين، 2012. صدرت طبعته الثالثة 2019 بعنوان: الدين والنزعة الانسانية. تمهيد لدراسة فلسفة الدين، 2014. الدين وأسئلة الحداثة، 2015 الايمان والتجربة الدينية، 2015 الدين والظمأ الأنطولوجي، 2015، صدرت طبعته الثالثة 2019. الحب والايمان عند سورن كيركگورد، 2015 علم الكلام الجديد: مدخل لدراسة اللاهوت الجديد وجدل العلم والدين، 2016. الهرمنيوطيقا والتفسير الديني للعالم، 2017. الدين والاغتراب الميتافيزيقي، 2018، صدرت طبعته الثانية 2019. الشيخ أمين الخولي: الهرمنيوطيقي الأول في عالَم الإسلام، 2020. مقدمة في علم الكلام الجديد، 2021. الدين والكرامة الإنسانية، 2021. . مسرات القراءة ومخاض الكتابة . ⁠مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث. المؤلفات غير المطبوعة: شرح كتاب “كفاية الأصول” في أصول الفقه، للشيخ محمد كاظم المعروف بالآخوند الخراساني، في خمسة مجلدات. شرح كتاب “نهاية الحكمة”، للعلامة محمد حسين الطباطبائي، في ثلاثة مجلدات. شرح كتاب “دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة من دروس في علم الأصول”، للسيد محمد باقر الصدر، في مجلدين. شرح كتاب “المنطق”، للشيخ محمد رضا المظفر، في مجلدين.

مقالات ذات صلة