الشهرة ليست المحدِّد الرئيس للقيمة، وليست المعيار الموضوعي للحكم على جودة الشيء. عبارتان مفصولتان، تبرزان أنَّ مفهوم القيمة اليوم في المشترك الذهني عند عامَّة الناس، قد تغيَّر بشكلٍ واضح، أساسه، أنَّ القيمة أصبحت لصيقة بالمصطنع الإعلامي، الذي يهدف إلى جعل الشخصيَّة المشهورة ذات قيمة عالية، وهي في الجوهر مليئة بمعائب كثيرة. ومن ثمَّة، فننتقل من المجد الذاتي، إلى المجد الهشّ المصطنع إعلاميا. وموضوع المقالة بهذا الأساس الافتتاحي، سينساق مع هذه الفكرة، التي نصلها بتساؤل مهم، هو هل شهرة الأديب صفة تسهم في رداءة أدبه؟ وبهذا التساؤل، أقول ما قاله عبد الكريم جويطي، في رواية “ليل الشمس”: “لن أنصِّب نفسي ناقدا”، على ما سأذكره وسأتحَّدث عنه، وأردِّد أيضا، عبارة كيليطو الواردة في”العين والإبرة”، “بأنني من القرّاء السذَّج”، وطبعا، فأنا من القراء السذَّج. وأُذَكّر القارئ العزيز، أنني قد أشرت إلى فكرة الشهرة وأثرها في رداءة الأدب، في مقالة سابقة، موسومة بــ”الأدب ينتحر بتكاثره المجنون”. وأتغيَّا في هذه المقالة، التفصيل في الفكرة وبسطها، وجعلها متعيّنة وواضحة للقارئ الكريم.
شهرة الأديب أو الكاتب، عامل من عوامل حجب رداءة أدبه، لكون أنَّ الشهرة تسهم في تعمية النظرة الشكيَّة والقراءة النقديَّة لدى عامَّة الناس، وترسم لهم بأن الأديب المشهور يجيد الكتابة، وأن كل ما يكتبه يدخل ضمن الأدب الجيِّد، وعليه، ففي كل إصدار جديد يصدره، ترى الناس يتسابقون لشرائه، والحصول عليه. والقيمة ههنا لا تقاس بالمحتوى، وبالموضوعات المذكورة في الإصدار الجديد، بل تقاس الجودة والقيمة بكثرة المبيعات، وبالربح والتسويق والاقتصاد والرواج، وكل ما يترابط مع قاموس التجارة. وتكون هذه الشهرة المزيفة التي تحجب رداءة أدب الأدباء أو الكُتاب، بسبب أنهم فازوا بجائزة أدبيَّة ذات قيمة أجلَّ وأسمى، أو أنهم اشتهروا لكون أن صنيعهم الكتابي تَّم التسويق له إعلاميا، وهذا مطمح الكثير من الأدباء، الذين يموتون كتابيا، وبعدها يتَّخذون التسويق الإعلامي لكتاباتهم وأدبهم، السبيل الناجع لعودتهم إلى الواجهة، وسيطرتهم على ذهنيَّة القارئ العادي، من أجل شراء كتبهم، حتى ولو لم تكن لهم الرغبة في قراءتها.
ولا أقول إنَّ الجائزة لا تحدَّد قيمة الأدب بوصفه أدبا جيدا، ولكن لا يجب أن يتَّخذها الكاتب منزعا لشهرته، ولتحديد جودة أدبه، فالجائزة ليست معيبة إذا كانت تصنع أدبا جيدا، ومجدا كتابيا، ولكن أن يتَّخذها القارئ قيمة للحكم على جودة أدب حائزها، فإنها معيبة. الكثير من الأدباء يكتبون للجائزة لغرض واحد، هو الشهرة، ونحن نعلم أن مجموعة من الأدباء رفضوا الجوائز والتسويق الإعلامي، والشهرة، مخافة الجناية على الأدب، ومخافة تزييف الكتابة، ونقلها من المجد والخلود الكتابي بفعل الجودة، إلى مجد مصطنع بآليات إعلاميَّة تشهيريَّة، أو بالبحث عن الجائزة.
شهرة الأديب أو الكاتب، عامل من عوامل حجب رداءة أدبه، لكون أنَّ الشهرة تسهم في تعمية النظرة الشكيَّة والقراءة النقديَّة لدى عامَّة الناس، وترسم لهم بأن الأديب المشهور يجيد الكتابة، وأن كل ما يكتبه يدخل ضمن الأدب الجيِّد، وعليه، ففي كل إصدار جديد يصدره، ترى الناس يتسابقون لشرائه، والحصول عليه.
ننقل لتأكيد أنَّ شهرة الأديب تضرّ بالفعل الكتابي، وتخلِّد أدبا رديئا، نصين من كتاب “مرح القراء”، لخالد بلقاسم. نصان سيحدِّدان أنَّ قيمة الأدب اليوم، ترتبط بمجد الشهرة، وبالحصول على جائزة، ونحن نعلم عزيزي القارئ، أنَّ قيمته، أي الأدب، تتحدَّد في كونه أدبا مفتوحا على احتمالات متعدِّدة، أو لاعتباره أدبا لصيقا بالديمومة اللانهائيَّة من المعاني، المرتبطة بسرٍّ من أسرار الكتابة وقبساتها اللامتناهية.
النصّ الأول يقول فيه الكاتب: “كلما تكرَّست صورة الشهير، غدا اسمه مربحا في أسهم هذه الصناعة، لأن ما يصدر عنه يصبح ذائعا ومستهلكا بصورة لافتة. لم تعد الكتابة، في منطق المصطنع، تتحدد بما أضافته في المسار الكتابي الإنساني، بل بعدد مبيعات الكتب، أي تقاس بمنطق اقتصاد السوق، وبإيقاع الرواج، وبأدوات تقييم البضاعة. هذا المعيار، الذي غدا محدِّدا للقيمة، هو التجلِّي الأكبر لخلل اصطناع الشهرة” ص39.
النصّ جلي، وواضح، فكرته الرئيسة، أنَّ صورة الأديب الشهير، كلما تكرَّست صورته الشهيرة لدى الناس، فإنها تورث ضررا كبيرا على الكتابة عامَّة، والأدب تخصيصا، ويغدو اسمه في الصناعة الكتابيَّة، أو في مصطنع الشهرة، مرتبطا بالسوق الاقتصاديَّة، وبعدد الأرباح التي حصل عليها في بيع كتبه، أو بالقيمة السوقيَّة عامة، غدت قيمة المكتوب في هذه الحالة، مرتبطة بالربح لا بالجودة، وعليه، فإن ما يحدِّد قيمة الشيء ليس هو المحتوى، بل القيمة السوقيَّة، التي نجمعها في عبارة، إنَّ الكِتاب يعد من أكثر المبيعات في سوق الكتب، ولا ضير في كونه الكِتاب الجيِّد والممتاز؛ لأن صاحبه مشهور. عبارة تتردَّد كثيرا لدى القراء، وبالأحرى، فإنهم يقولون: إن الكتاب حصل على جائزة نوبل مثلا، ومن ثمَّة، فيعدّ كتابا جيدا.
مصطنعان اثنان يسهمان في حجب رداءة الكاتب، مصطنع الشهرة، ومصطنع الإعلام، ولم ندخل مصطنع الجائزة؛ لأنها في أحايين كثيرة تصنع مجدا كتابيا وأدبا جيدا، ويمكن أن ندرجها بين المنزلتين، منزلة الرداءة ومنزلة الجودة. ولا أريد من القارئ العزيز، أن يكون قارئا ساذجا مثلي، ليقع في فخ مجد الكاتب المزيف، الذي غدا أدبه الرديء جيدا، بسبب مصطنع التسويق الإعلامي، ومصطنع الشهرة، التي احتجزت الكتَّاب المشاهير، في نقطة البحث عن صناعة الاسم، بدل صناعة الأدب الجيد. لقد “تحوَّل المشاهير إلى مؤسَّسة عموميَّة مثل التأمين الصحي، والضمان الاجتماعي، ومختلف التأمينات…غير أن جدوى هؤلاء المشاهير تتوقَّف على شرط تمنُّع الاقتراب منهم” رواية البطء، ميلان كونديرا، ص44.
النصّ الثاني للناقد خالد بلقاسم، هو قوله: “إنَّ الكتابة هي المتضرِّر الأكبر من هذه الصناعة، صناعة قائمة على خلق تأمين الاسم الشخصي، واستثمار الإعلام بكل أنواعه، بغاية خلق صورة تُخفي الشيء الواقعي كي تتحوَّل صورته المصطنعة، بلغة جان بودريار، إلى ما فوق الواقع. آليات هذا التحويل، الذي عليه تقوم صناعة الشهرة واصطناعها، عديدة.” ص38.
أبرزنا في النص الأول، المصطنع المحدّد لمفهوم القيمة والجودة في عصرنا الحالي، وتمَّ بيانه في مصطنعين، غايتهما في مجال الكتابة، رسم الأديب لشهرته أمام الإعلام وعامَّة القراء، عن طريق خلق تأمين لاسمه، واستغلال التسويق الإعلامي، بغية الوصول إلى هذا المسعى. فصناعة الاسم وتأمينه كمؤسَّسة عموميَّة، من الأمور التي يبحث عنها الكتاب المزيفون؛ لأنهم لا يبحثون عن الجودة والقيمة، بل يبحثون عن الشهرة، وكسب القراء والسيطرة على أذهانهم، ليس كتابةً، وإنما بتأمين أسمائهم، في بورصة السوق التجاريَّة للكتب، وفي أكثر الكتب مبيعا.
النصّ يجيب عن السؤال المطروح في مفتتح المقالة، وبشكل مباشر، فحقا، إنَّ الشهرة تسهم في حجب رداءة أدب الكاتب المشهور، ولا أحد ينكر هذه المسألة، والكتابة هي المتضرِّر الأكبر منها. فالشهرة تخفي معائب الكُتاب وزلاتهم، وكلما كتبوا شيئا ذاع بين الناس وانتشر، تراهم يمدحونه، ويسردون عبارات محفوظة في أذهانهم، بأنَّ كتاباتهم جيدة. إنَّ صناعة الاسم لا تحدِّد قيمة الأدب، بل تخفي رداءته، وإن التسويق الإعلامي للكاتب، لا يصنع له المجد والخلود الكتابي، بل سرعان ما يموت كتابيا، وتنتهي كتاباته وتتلاشى؛ لأنها في الأصل بنيت على هدف الشهرة، ومن ثمَّة على الهشاشة، ولا أساس يجعلها خالدة. وأما الكُتّاب الذين يبحثون عن المجد الكتابي، لا المجد المصطنع إعلاميا بغية تأمين الاسم والشهرة، فإن كتاباتهم تبقى خالدة ومستمرَّة، وكأنها آتية من المستقبل وساكنة فيه، تكون منفتحة على آفاق قرائيَّة وتأويليَّة متعدِّدة، لكون أن بناءها الأساس ليس هشّا، وأريد من القارئ الكريم، أن يمعن النظر في هذه الإشارات، كي لا يسقط في فخ الرداءة المحجوبة بفعل مصطنع الشهرة والتسويق الإعلامي.
الكُتّاب الذين يبحثون عن المجد الكتابي، لا المجد المصطنع إعلاميا بغية تأمين الاسم والشهرة، فإن كتاباتهم تبقى خالدة ومستمرَّة، وكأنها آتية من المستقبل وساكنة فيه، تكون منفتحة على آفاق قرائيَّة وتأويليَّة متعدِّدة، لكون أن بناءها الأساس ليس هشّا.
ونشير في ختام هذه المقالة، أنَّ ما نسميه اليوم بالتسويق الإعلامي، أو الشهرة، كان يرتبط قديما، بمسألة حظوة الأديب لدى الأمراء، لكونها أيضا أسهمت بشكل كبير في حجب رداءة مجموعة من الشعراء والأدباء في الأدب القديم. ولا أرغب في الإطالة وسرد أمثلة عن هذه القضيَّة، ويمكن أن نجعلها بابا لمقالة أخرى. ومجمل القول، إنَّ الكاتب ينبغي أن يكتب بغية رسم مجد كتابي، لا بغية تأمين اسمه في السوق التجاريَّة للكتب، أو الكتابة بغية التحصيل على الجوائز. فالكتابة بريئة من هذا الزعم والمبتغى.