تدريس الأديان في العالم العربي
لم تَحظَ دراسة الأديان بعْدُ، بما تستحق من اهتمام في الجامعات العربية، وأعني بشكل خاص الجامعات الإسلامية. فعادةً ما يُلحَق هذا النوع من الدراسة بكليات الدعوة وأصول الدين، بوصفه نوعًا من الدراسات التكميلية والهامشية، وكأنه يمكن للباحث(ة) المسلم(ة) أن يستغني عن دراسة الأديان. وهذا ما يحدث بالفعل في الكثير من الحالات، حيث نجد متخصصين/ات في أصول الدين أو الفقه من دون أدنى معرفة بالأديان الأخرى إلا بشكل محدود، أو من خلال الكتابات الجدالية التاريخية. هذا مع وجود محاولات جادة في السنوات الأخيرة لملء هذا الفراغ، ولكنها لا تزال في المرحلة التأسيسية، وتحتاج إلى جهود كبيرة لتغيير النظرة إلى هذا المجال الحيوي.
لماذا تُمثّل دراسة الأديان حاجة ماسة، من أجل نظرة إصلاحية شاملة للعلوم الإسلامية؟
لا يمثّل علمُ الأديان “وزارةَ الخارجية” في منظومة العلوم الإسلامية! ولا يمثل جانبَ العلاقات الخارجية الذي يُعنى بالآخر الديني، الذي لا يعنينا إلا بقدر إمكانية جعله مثلنا. لذلك، لا تخلو بعض المناهج من نظرة استعلائية إلى هذا الآخر المشاكس، الذي يجعل العالم أقل انسجامًا، بـكفره وخروجه عما يجب أن يكون. وهذه النظرة تمتد لتشمل أيضًا الآخر المذهبي، الذي يبدو غبيًّا أو ماكرًا يتربص بنا. إنه منطق “الأديان والفِرَق الضالة”، التي لا يُرجى منها خير إلا أن تهتدي إلى ديننا حسب مذهبنا.
لقد حان الأوان للاعتراف بأن كتب التراث التي تتناول الفِرق والأديان الأخرى، لم تعد كافية لتحقيق معرفة حقيقية ومعاصرة. فقد تكون مفيدة في معرفة تاريخ النظرات الإسلامية، ولكن الأوضاع اليوم تغيرت كثيرًا، حيث ظهرت أديان ومذاهب جديدة، وأيضًا ما كان قديمًا عرَف تغييرات هامة. والنظرات الإسلامية متعددة بطبيعتها بحسب توجهات أصحابها، إذ يمكن أن تكون المقاربة كلامية أو صوفية أو تاريخية أو فقهية، فضلًا عما يتفرع من كل مقاربة من مدارس. وهي نظرات تتفاعل مع معاصريها من أتباع الأديان الأخرى، ومع النظم المعرفية المتاحة. فابن حزم (القرن 11م) مثلًا، مع عموم خطابه الجدالي، هو محكوم بتجربته الشخصية مع مسيحيِّي الأندلس ويهودها. أيضًا تتحدد هذه النظرات بأُطرها الجغرافية والثقافية. فمثلًا: نظرات المسلمين إلى الهندوسية في عصر “البيروني” (القرن 11م)، تختلف عن نظراتهم في عهد الإمبراطور المغولي “أكبر” (القرن 16م)، أو عن تلك التي نجدها بعد تقسيم شبه القارة الهندية.
نتحدث أحيانًا بالنظرة القرآنية إلى الأديان، أو إلى دين معين. وأحيانًا، تؤخذ الآيات بمعناها الحَرفي من دون اعتبار السياقات وتعدُّد التأويلات، في حين يتطلب الأمر اجتهادًا تفسيريًّا. فهل نصارى القرآن هم مجموعات تاريخية معينة، أم يمثلون حقائق جوهرية فوق‑تاريخية؟ وما الجانب التاريخي المرتبط بالأعيان؟ وكيف نستنتج المبادئ الباقية التي تحدثُّنا اليوم؟ هنا نحتاج إلى لاهوت أديان جديد يتجاوز الأدبيات الجدالية، ويكون قادرًا على الحوار بندِّيّة وبتواضع، مع لاهوتات الأديان على الصعيد العالمي.
لقد حان الأوان لِأَنْ تتأسّس معاهد وكليات متخصصة في الأديان في العالم العربي، وأن نبدأ بأديان العرب أنفسهم، وأديان المنطقة التي نعيش فيها، من خلال معرفةٍ مباشرة بالآخر، وليدةِ المعاشرة والسؤال المعرفي والتنوع الداخلي والتاريخي لكل دين. ولننطلق إلى معرفة واعية بالتعددية الثقافية، التي يتحدّث فيها الإنسان عن الله. فمعرفة الأديان جزء أساسي من مشروع إصلاح الفكر الديني الإسلامي؛ حتى نتعلّم من تجارب الآخرين، لا سيما في التعامل مع الحداثة، وفي الحوار مع العلوم المعاصرة، وحتى نُنتج خطابًا وفكرًا على مستوى العالمية، وليس فكرًا محليًّا منغلقًا، يدَّعي زُورًا العالمية والهيمنة المعرفية. إن كل العلوم الإسلامية تحتاج إلى الحوار المعرفي المنهجي، حتى تستفيد من التجربة الإنسانية. والبشر جميعًا يواجهون مشاكل متشابهة، نظرًا إلى العولمة السائدة.
لا ننسى جانبًا هامًّا من دراسة الأديان، وهو الجانب الروحي. فمعرفة الآخر بموضوعية، تتطلّب التغلّب على مشاعر الخوف من ضياع الهوية، أو الافتتان بهذا الآخر. فاحتقار الآخر، وعدم قدرتنا على تثمين ما لديه من حق وخير وجمال، يدلّان في أحيان كثيرة على عدم الثقة بالنفس. ثم إن هذا اللقاء المعرفي ضروري، لأنه يحرّرنا من الانتماء المتحزّب إلى الدين. فيكون عطشنا الروحي رحلة شائقة لاكتشاف عمل الله في الكون وفي الثقافات والأديان، ونُثري إنسانيتنا، وتصبح علاقتنا بالله حرّة من كل القيود المصطنَعة، ونكتشف قدرة الله في الخلق المتنوّع في هذا العالم الفسيح.
______
*المصدر: تعدّديَّة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.