التنويريسلايدرفكر وفلسفة

حوار الأديان

*ترجمة: مصطفى السليمان

 

أرى بداية ومن النظرة الأولى في جذور الديانات الإبراهيميَّة الكبرى الثلاث سلسلة كبيرة من الأمور الجوهريَّة المشتركة بينها. نحن نؤمن بنفس الإله الذي نشعر تجاهه بالمسئوليَّة عما نفكِّر فيه ونفعله وبغض النظر عن البناء العقائدي الفوقي الخاصّ بذلك المذهب أو ذاك وعن التصوّرات والتجارب الفرديَّة المختلفة. وبالطبع تجمعنا الصلة بحقيقة ما وراء علم الوجود بديانات أخرى أيضا، كالبوذيَّة مثلا حيث لا تُذكر هذه الحقيقة، أو الهندوسيَّة التي تبدو هذه الحقيقة فيها لأول وهلة كامنة خلف ما لا يحصى من الصور. أمَّا في اليهوديَّة والمسيحيَّة و الإسلام فيبرز ما هو مشترك جليا وغالبا ما نفاجأ بأنه يعبِّر عن نفسه بمفهوم مشترك. وعلاوة على ذلك فإن لنا تاريخ ديني مشترك بالإضافة إلى شخصيات نبويَّة نعتبرهم أسلافنا المشتركين. هذا وتربطنا نفس القيم الأخلاقيَّة إذا انطلقنا من أننا ننظر إلى الصدق والنزاهة والمحبَّة والسلام والاعتدال والتآخي واحترام الغير خاصَّة من هم أكبر سنا والاستعداد لتقديم العون وما شابه ذلك ـ فحتى هذه المصطلحات مشتركة بين دياناتنا في لغاتها الأصليَّة أو على الأقل قريبة من بعضها البعض ـ على أنها مثل تستحقّ الطموح لتحقيقها، وإذا رفضنا ما قد سبق وإن اُعتبر ذميما في الوصايا العشر في الإنجيل وما لا يستحسن فضلا عن ذلك في أي حضارة في العالم. وكثيرا ما تربطنا حتى تعبيرات دينيَّة متشابهة، إذا بقيت حيَّة حتى يومنا هذا، كالصلوات اليوميَّة المنتظمة والصيام وتطبيق حبّ الغير بشكل عملي. ومهما كانت الاختلافات كبيرة فإنه نجد تشابها وتأثيرات متبادلة ولا سيما في التطور التاريخي لتقاليدنا الدينيَّة.

 

وإذا استعرضنا الآن التاريخ يتبَّين لنا أنه كان هنالك في شتى الطوائف وفي كل الأزمنة أشخاص وضعوا مصالح نفوذهم الخاصَّة في أعلى سلم الأولويات ولم يتورَّعوا عن أي شيء في سبيل أن يظفروا بها. ولا ريب في أنهم قد نجحوا مرارا وتكرارا في استغلال الدين أو المذهب ـ وهو على الأرجح الإيديولوجيا في يومنا هذا ـ لأغراضهم وتسخير أصحاب مبادئ ومثل سليمي النيَّة لأهدافهم. ويصل موقف الدفاع عن هذا الاستغلال في هذه الأيام إلى حدّ أن المرء لا يكاد أن يكون قادرا على التمييز أحيانا بين الحقّ والباطل. وأحسن مثال على ذلك هو الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينيَّة وغيرهما من المناطق المشابهة في العالم.

 

أن نتعلَّم من التاريخ وأن نشكِّك بخلفيَّة تقاليدنا الخاصَّة يقودنا في بادئ الأمر حتما إلى منطقة غير معروفة. هناك أحداث في تاريخنا نخجل منها لدرجة أننا نود كتمانها أو أن نلقي اللوم فيها على عاتق غيرنا أو أن نتحوَّل إلى النقيض أو نرغب في التقوقع في أوهام، كما أن هنالك قسط من الأسى على ما خسرناه في الطريق وعلى ما يفصح عنه غيرنا، كما كان لا بد في الواقع لنا نحن أيضا أن نفعل. وهناك الارتباك من أن ليس أمامنا هدف ملموس نصب أعيننا، بل نحن ملزمون أولا بالقيام بأعمال رياديَّة لتمهيد الطريق. وهنا بالذات تكمن فرصة كبيرة في الحوار. فإذا تمَّ الكشف عن مواضعنا المعطوبة، وإن كان ذلك أحيانا بصورة مؤلمة، فسنتعرَّف من جهة أخرى على الروابط بين الأمور ولعلنا نعثر على إشارات أوّليَّة جديدة من أجل تحقيق مطلبنا الخاص. أن نتعلَّم من التاريخ لا يعني المبالغة في الشفقة على النفس أو الاستسلام التامّ فهذا لن يغير شيئا في نهاية المطاف. بل يتَّضح لنا من التاريخ على الأرجح أمران:

 

  1. أن المحاولة المتغطرسة لإحراز مصالح نفوذ أنانيَّة لن تجدي على المدى البعيد شيئا سوى الخلافات والدمار، الذاتي أيضا.
  2. أن الناس يرتكبون أخطاء وبإمكانهم التعلَّم منها ولذا ينبغي عليهم دوما أن يكونوا على استعداد لممارسة النقد الذاتي وللبدء من جديد.

 

التعلُّم من التاريخ يعني تناول التصوّرات والقيم والسلوكيات الخاصَّة بشكل واعي والنظر إليها في سياق مناسب. عندئذ سنرى أننا لا نعيش على كومة من الصدف التعسفيَّة، نقابلها نحن بدورنا بتعسّفنا الخاص، وإنما بنظام عضوي نشكِّل نحن قسما منه، وحيث يجد كل شيء مكانه الخاصّ رغم أنه خاضع للتغيرات المنوطة بالحياة سيان إن كان هذا كائنات حيَّة أو ظواهر أو قوانين طبيعة أو قيم أخلاقيَّة وحتميات اجتماعيَّة. والمفتاح لهذه التجربة الإنسانيَّة تقدّمه من الكتب المقدسة لدياناتنا الثلاث وكتابات ومأثورات من ديانات أخرى إذا أمعنا النظر فيها. إذا عدنا إلى هذه الجذور وإذا إنتهينا من تناول في تاريخنا وتقاليدنا بإدراك وبارتباط مع أخواتنا وإخواننا من الأديان الأخرى فسينتهي الأمر بنا، وكما ذكرنا من قبل، إلى منطقة جديدة، ولكننا حتى عند ذاك نتبع مثال الشخصيات النبويَّة من قبلنا. ولربما نفهم في تلك اللحظة لقاءهم المباشر بالعلو، اللقاء الذي يشهدون هم عليه والذي لا ندركه نحن بهذه الصورة بالذات ولكن بإمكاننا ولا شك أن نعيشه بأسلوبنا الخاص المتواضع إذا تمكّنا من التعرُّف على تلك الوحدانيَّة التي تكشف عن نفسها في التنوُّع. ولربما عثرنا عندها على هويّتنا الحقيقيَّة كبشر. على أي حال ينفتح هنا كنز غير محدود من الحوافز التي توسع أفقنا وتقربنا إلى تفاهم حقيقي على قاعدة ثابتة. ولهذا لا أملك سوى أن أتحدَّث رغم كل التناقضات والاختلافات ورغم كل الخلافات الراهنة عن وحدة علويَّة تجمع الأديان. ولا يسعني إلا أن أنطلق من أن الناس جميعا أينما كانوا في رحلة تجاه هدف واحد، من المهم ألا يقفوا بل أن يواصلوا رحلتهم بشكل دؤوب وصبور.

 

أود أن أختتم قولي هذا مستشهدا بآيات من القرآن، خاصَّة وأني أرى أن هذه الخاطرة تتجلَّى من خلاله خير جلاء:

 

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُم إِلَيهِ الله يَجْتَبِى إِلَيهِ َمن يَشَاءُ وَيَهدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُم وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُم وَإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتَبَ مِن بَعْدِهِم لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كِتَبٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُم لَنَا أَعمَلُنَا وَلَكُم أَعْمَلُكُم لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيُر (15)

سورة الشورى، الآيات 13ـ 15

_______

* الراصد التنويري (العدد 2) أيلول/ سبتمبر 2008.

 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة