أدبالتنويريسلايدر

المثنَّى في اللسان الدارج المغربي

 

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ اللغة نشاط إنساني،ارتبط بالإنسان منذ أن وُجد بهذا العالم،حيث احتكم إلى اللغة للتعبير عن حاجاته النفسيَّة والاجتماعيَّة، وكذا للتواصل مع أبناء محيطه. ونظرا لأهميَّة اللغة في حياتنا، قام الباحثون وعلماء اللغة بدراستها والبحث في خصائصها المنظِّمة لها،وهكذا ظهرت إشكالات عدَّة تتَّصل بأصل اللغة: أهي وحي أو اصطلاح، وكذلك كيفيَّة اكتساب الطفل للغة وغيرها من القضايا … والحديث عن اللغة يجرُّنا بالضرورة إلى الحديث عن اللهجات، هذه الأخيرة لم تنل العناية التي تستحقّ، ونعلِّل قلَّة اهتمام الباحثين بها، إلى تركيزهم على اللغة، ففي السياق العربي مثلا، اهتمَّ الباحثون المسلمون باللغة الفصحى، ودافعوا عنها بكل الطرق والآليَّات، قصد دفع الشبهات وكل الأخطار التي قد تمسّ القرآن باعتباره نصًّا عربيًّا مقدَّسا، يحمل بين طيَّاته أحكاما وشرائع تخصّ حياة المسلمين، بل تقوم بتنظيمهم وتأطيرهم والمساهمة في رقي حضارتهم.

إذن فما اللغة؟ وما اللهجة؟ وما العلاقة بينهما ؟ وهل من ظواهر لغويَّة مشتركة بينهما؟

 

1/بين اللغة واللهجة

لقد تعدَّدت المقاربات اللغويَّة والمباحث المعرفيَّة التي حاولت أن تبحث في حدِّ اللغة والخصائص التي تميِّزها، وقد تباينت هذه الدراسات وتنوَّعت بتنوّع الحقول المعرفيَّة والإيديولوجيَّة، فالفلاسفة عرفوها استنادا إلى مباحث الفلسفة، وعلماء الاجتماع اعتبروها ظاهرة اجتماعيَّة، أمَّا علماء النفس فعدّوها ظاهرة نفسيَّة، انتهاءً باللسانيَّات التي قاربت اللغة وفق آليّات ومفاهيم جديدة، لنا عودة مع بعضها…وفي السياق العربي نلمح أقدم وأهمّ تعريف للغة، يقول ابن جني:391 ه : في حدِّ اللغة:”إنها أصوات يعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم “[1].

إنَّ هذا التعريف مختصر ودقيق،حيث ينبئنا بعدَّة أفكار هي كالآتي:

– الكشف عن الوظيفة الطبيعيَّة الصوتيَّة للغة.

– اللغة ظاهرة اجتماعيَّة.

– الكشف عن الجانب الفردي للغة، فلكل قوم لغتهم التي يحتكمون إليها.

– التواصل من أهمّ وظائف اللغة.

أمَّا المفكِّر الإسلامي المنتمي إلى القرن التاسع الهجري، فينظر إلى اللغة نظرة خاصَّة، تتلاءم مع مشروعه الفكري، نتحدَّث عن عبد الرحمان بن خلدون ت 808ه ،الذي عرف اللغة بقوله: “إنَّ اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلِّم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام، فلا بدّ أن تصير ملكة متقرّرة في العضو الفاعل لها، هو اللسان، وفي كل أمَّة بحسب اصطلاحاتهم.”[2]

يكشف تعريف ابن خلدون عن عدَّة أفكار نجملها في الآتي:

– البعد الوظيفي للغة.

– البعد الطبيعي الصوتي للغة.

– الحرص على التواصل وتحقيق المنعة من وراء استعمالها.

– اللّغات متعدِّدة متنوِّعة، فلكل قوم لسانهم الخاصّ بهم.

لنصل في الأخير إلى التحديد الذي أفرزته اللسانيّات البنيويَّة، مع فردناند دي سوسير، فهذا الأخير أسَّس علما جديدا يهتمّ بدراسة اللغة دراسة علميَّة وصفيَّة، دون الاحتكام إلى الأبعاد التاريخيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة، التي قد تشوِّش على الباحث وتجعل دراسته غير مضبوطة. وفي الآن نفسه تمَّ الاستعانة بجهاز مفاهيمي جديد مستمدّ من حقول معرفيَّة متنوِّعة(الفلسفة/الرياضيات/الفيزياء/الأنثربولوجيا…).

لقد حاول دي سوسير أن يقدِّم تعريفا للغة من خلال التمييز بين مفاهيم أخرى، لذا فقد ميَّز بين: اللغة /اللسان /الكلام…”فهو يرى أنَّ هناك كيانا عامّا يضمّ النشاط اللغوي، في صورة ثقافة منطوقة أو مكتوبة، معاصرة أو متواترة، وباختصار كل ما يمكن أن يدخل في نطاق النشاط اللغوي من رمز صوتي أو كتابي، أو إشارة أو اصطلاح، فخصَّ هذا النشاط بكلمة اللغة …”[3].فاللغة في نظره لها مظهران أو وجهان: المظهر الأوَّل موسوم باللسان: ويعرف بكونه:”رصيد يستودع في الأشخاص الذين ينتمون إلى مجتمع واحد. بفضل مباشرتهم للكلام وهو نظام نحوي، يوجد وجودا تقديريا في كل دماغ “.[4]

أمَّا المظهر الثاني فيتعلَّق بالكلام :”وهو الممارسة الفرديَّة الذاتيَّة لهذه اللغة في ظروف مادّيَّة، أي هو طريقة تجسيد المتكلِّمين لهذا النظام اللغوي”.[5]

 

اللهجة:

قبل تحديد مفهومها وخصائصها، نشير إلى إنَّ اللهجات سواء القديمة منها أو المعاصرة لم تنل العناية التي تستحقّ كما أشرنا سالفا، فكل الاهتمام وجه شطر اللغة، ويمكن أن نعزو هذا التهميش إلى كون اللغة تشير إلى الوحدة والضبط والصرامة بخلاف اللهجات التي ترمز إلى التعدُّد والاختلاف والخروج عن النظام اللغوي في كثير من السياقات على مستوى: الصوت والتركيب والدلالة والقواعد…كما أنَّ النحاة واللغويين القدامى كانوا يعبِّرون عن اللهجات بألفاظ أخرى من ذلك لفظ اللحن أو اللسان، يقول عبده الراجحي: “وغاية ما وجدناه عندهم هو ما تردِّده معاجم من أن (اللهجة) هي اللسان أو طرفه أو جرس الكلام، ولهجة فلان لغته التي جبل عليها فاعتادها ونشأ عليها “[6]… وتأسيسا على ما سبق يمكن أن نحدِّد اللهجة بكونها: “مجموعة  من الصفات اللغويَّة تنتمي إلى بيئة خاصَّة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة، وبيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل تضمّ عدَّة لهجات، لكلٍّ منها خصائصها…”[7] فاللهجات العربيَّة الحديثة مثلا، متنوِّعة ومتعددة بتعدد الدول التي تنطق بالعربيَّة، إذا اعتبرنا أن اللهجات ما هي إلا انحراف أو تشعُّب من اللغة الفصحى الأصل، وحسب علي عبد الواحد وافي، فاللهجات موزَّعة  إلى مجموعات، كل مجموعة تشمل لهجات متقاربة في أصواتها ومفرداتها وأساليبها وقواعدها، فهناك مجموعة اللهجات الحجازيَّة-النجديَّة/اللهجات السوريَّة/اللهجات المغربيَّة/اللهجات العراقيَّة…”[8]

 

الفروق القائمة بين اللغة واللهجة :

إنَّ نظرة تأمُّل إلى النظم المشكِّلة للغة العربيَّة الفصحى واللهجات الحديثة، تؤكِّد أن هناك فروقا واختلافات كامنة بينهما، نبينها وفق الآتي:(سنركِّز حديثنا على الفرق بين العربيَّة الفصحى واللهجة المغربيَّة العاميَّة…)

اللهجة(العاميَّة)/لسان دارج[9] اللغة(الفصحى)
لغة شعبيَّة /التداول اليومي لغة رسميَّة عالمة
فرع أصل
الخروج عن النظام اللغوي الضبط والصرامة اللغويَّة
التعدُّد والتنوُّع (بتعدّد مناطق وقبائل المغرب) موحَّدة
تضمّ الدخيل (من ألسن أخرى،تمّ انتقاء ألفاظ وقواعد من الأمازيغيَّة /الفرنسيَّة/الاسبانيَّة ودمجها في الخطابات اليوميَّة… تضمّ الغريب والدخيل والمعرب
مدنَّسة/لغة الشارع مقدَّسة/لغة الكتاب
أقل اهتماما(قلَّة البحوث والدراسات) أكثر اهتماما(تعدُّد الدراسات والبحوث)
غالبا استعمالها منطوقة تستعمل مكتوبة ومنطوقة

 

بعد معاينة للفروق التي أفرزها الجدول السالف الذكر يمكن القول بأن اللهجة المغربيَّة فرع عن العربيَّة الفصحى، ذلك أنَّ اللهجة التي يتحدَّث بها المغاربة في مختلف المناطق تطلعنا على أنها قد استعارت جملة من الخصائص اللغويَّة الخاصَّة الفصحى على مستوى: القواعد النحويَّة والصرفيَّة، والدلاليَّة وكذا المعجم مع حدوث تغييرات في بعض السياقات، ولكي نبيِّن للقارئ الكريم أن اللهجة المغربيَّة قد استعارت بعض القواعد الخاصَّة بالفصحى،سنقوم بدراسة المثنَّى وكيف وظَّف في الفصيح واللهجة العاميَّة.

 

المثنَّى بين الفصيح واللسان الدارج

يرمز المثنَّى إلى اسم دال على العدد اثنين،حيث يلجأ إليه المتحدِّث في خطاباته قصد التعبير عن “اثنين”أو “اثنان “،(تذكيرا وتأنيثا) من كل شيء، بمعنى أنه يوجد في كل اللغات سواء المنتمية إلى فصيلة اللغات السامية أو المنتمية إلى فصيلة اللغات الهندو أوروبيَّة، مع  اختلافات في التركيب تتلاءم مع طبيعة كل لغة، ففي العربيَّة الفصحى، يشار إلى المثنَّى بزيادة ألف ونون أو ياء نون على الاسم، فنقول مثلا:

رجلان / رجلين- تلميذتان / تلميذتين …

ويحضر المثنَّى في اللسان الدارج المغربي(اللهجة العاميَّة) ولكن وفق بنية تركيبيَّة ونحويَّة مغايرة للفصيح، فمثلا إذا أراد المتكلِّم أن يعبِّر عن كتابين يقول: “جوج كتوبا “/ وإذا أراد أن يخبرنا المتحدِّث بأنه يمتلك درهمين يقول: ” عندي جوج دراهم…”

من خلال استقراء الأمثلة السالفة نسجِّل الآتي:

– لا يُعبَّر عن المثنَّى في اللسان الدارج وفق الصيغة التركيبيَّة والنحويَّة المتضمِّنة في الفصيح (أي بزيادة ألف ونون أو ياء ونون).

– يشار إلى العدد اثنان بكلمة : جوج، وكلمة جوج ما هي إلا تحريف لكلمة زوج من خلال قلب الزاي جيما. وبالأوبة إلى معجم لسان العرب يتبيَّن لنا أنَّ الكلمتين مترادفتان، كلاهما يدلّ على العدد اثنين .

يقول ابن منظور في لسان العرب:” الزوج: خلاف الفرد. يقال زوج أو فرد…وقال تعالى: وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج”، وكل واحد منهما أيضا يسمَّى زوجا، ويقال: هما زوجان للاثنين وهما زوج كما يقال: هما سيان وهما سواء، ابن سيده: الزوج الفرد الذي له قرين..والزوج: الاثنان.

وعنده زوجا نعال وزوجا حمام، يعني ذكرين أو أنثيين. يعني ذكرا أو أنثى…”[10]

اعتمادا على التعريف المعجمي نقول بأن:    جوج

زوج

 

اثنان:تذكيرا

أو تأنيثا

بعد مقارنة للمثنى بين البنيَّة التركيبيَّة في الفصيح وفي اللسان الدارج، نتساءل :هل تأثَّر اللسان الدارج بلغات أو لهجات أخرى،جعلت المثنَّى يوظَّف وفق صيغة مغايرة للفصيح؟ بمعنى هل من أصول لغويَّة تمَّ الاعتماد عليها؟

إنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة ستقودنا إلى جولة مع تاريخ اللغات بالمغرب، فكما يُعلم لم تنتشر العربيَّة بالمغرب إلا في فترة الفتوحات الإسلاميَّة، من خلال العمل على نشر الإسلام في البلاد، هذا الدين الذي تعتمد نصوصه على الفصيح . ولم يتلقَّ المغاربة العربيَّة إلا في إطار فترات زمنيَّة متباعدة، نظرا لتجذُّر اللهجات البربريَّة في ثقافتهم، ومع الغزو الإمبريالي بقيادة فرنسا وإسبانيا، انتشرت لغات جديدة لم يكن للمغاربة عهد سابق بها، ممَّا ساهم في تكوين هويَّة لغويَّة جديدة، فأدَّى بذلك الاتِّصال السياسي والثقافي والاقتصادي إلى حدوث تأثُّر وتأثير بين فصائل لغويَّة جديدة، على مستوى: القواعد والمفردات والدلالة والأصوات.. فقد تأثَّر اللسان الدارج مثلا بالفرنسيَّة واقتبس منها كلمات كثيرة  على مستوى المعجم أصبحت متداولة في التواصل اليومي: من ذلك: موطور/تلفزيون/طابلة.

هكذا يمكننا أن نقول بأن قاعدة المثنى المستخدمة في اللسان الدارج مستقاة من اللسان الفرنسي،وذلك وفق الجدول الآتي:

المثنَّى في اللسان الفرنسي المثنَّى في اللسان الدارج المثنَّى في اللسان العربي الفصيح
Deux livres جوج كتوبا كتابان/كتابين

 

إذا قمنا بمقارنة بين التركيبين في اللسانين الدارج والفرنسي،سندرك أن :جوج تقابل deux:

وهما كلمتان تعبران عن وحدة عدد .لهذا فالمثنى في اللسان الدارج شبيه بالمثنى الموظف في اللسان الفرنسي.

 

خلاصة :

تأسيسا على ما سبق ذكره في المقال يمكننا أن نؤكِّد على الآتي:

– تتَّسم اللهجات بعدَّة خصائص لغويَّة وتركيبيَّة، تشفع لها بأن تنال عناية الباحثين شأنها في ذلك شأن اللغات الأخرى بفصائلها المتنوِّعة والمختلفة.

– اللسان الدارج/العاميَّة المغربيَّة تزخر بعدَّة ظواهر لغويَّة تؤكِّد أنَّ هذه الأخيرة تفاعلت مع باقي الألسن، وذلك ضمن علاقات تأثير وتأثر.

– الاهتمام باللسان الدارج في المغرب لا يعني أننا ندعو إلى تبنِّي هذا الأخير في مختلف الأنشطة الثقافيَّة واليوميَّة والرسميَّة.

– الاهتمام باللغات من شأنه أن يسهم في الرقي بالمشهد الثقافي المغربي الذي يزخر بالتعدّد والتنوّع .

قبل الشروع في هذا المقال انطلقنا من فرضيَّة تقول إنَّ اللسان الدارج/العاميَّة المغربيَّة فرع عن العربيَّة الفصحى، لنصل في الأخير إلى حقيقة مفادها أن هذه العاميَّة تأثَّرت بعدة ألسن منها: الأمازيغيَّة/العربيَّة/الفرنسيَّة/الاسبانيَّة…مما يعنى أنها عبارة عن خليط أو مزيج من الألسن.

 

[1] – الخصائص،ابن جني،تح:على النجار/مطبعة دار الكتب،1952،ج1.ص 33

[2] – المقدمة،ابن خلدون،دار الكتب العلميَّة،بيروت/ط1. 1993/ج2،ص295.

[3] – محاضرات في المدارس اللسانيات المعاصرة، شفيقة العلوي، أبحاث للترجمة.ط1/2004.

– نفسه: ص15.[4]

[5] – نفسه: ص 15

[6] – اللهجات العربيَّة في القراءات القرآنيَّة، عبده الراجحي، دار المعرفة الجامعيَّة .1996/ص50

[7] – إبراز صلة اللهجات المعاصرة بالفصحى وأثرها فيها،د.فاطمة حسن شحاده/ ص16.

[8] – فقه اللغة،علي عبد الواحد الوافي. دار نهضة مصر للطبع والنشر،القاهرة/ ط8،ص 148-149.

– أشرنا الى اللهجة العاميَّة المغربيَّة بلفظ لسان في هذا السياق،لكوني المقال يركز على الجزء المتعلق بالقواعد الخاصة باللهجة.[9]

– لسان العرب، ابن منظور.مادة: زوج…[10]


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة