القراءة التاريخيَّة للسيرة النبويَّة بين منهجيَّة الضبط والتحقيق ومنهجيَّة التزييف والأباطيل
السيرة النبويَّة جنس أدبي تاريخي علمي عريق تتداخل فيه أجناس كبرى مختلفة الأسلوب يمتزج فيها: أسلوب المحدِّثين بأسلوب المفسِّرين والمؤرِّخين، فهي جماع هذه الأجناس الثلاثة ومزج متوازن بين أساليبها بحيث قام المؤرِّخون القدماء بحشد الآثار وتمحيص الأسانيد وتسجيل ما دق من الوقائع والشؤون، وقام المحدثون بالتعليل والموازنة وربط الحوادث المختلفة في سياق متماسك.
فالمزج بين الطريقتين على نحوٍ جديد يجعل تفاصيل السيرة موضوعا متماسكا يشدّ أجزاءه روح واحد تمَّ فيه توزيع النصوص والروايات بطريقة تتَّسق مع وحدة الموضوع وتعين على إتقان صورته واكتمال حقيقته، لكي تكون السيرة شيئا ينمِّي الإيمان ويزكِّي الأخلاق ويلهب الكفاح ويغري باعتناق الحقّ والوفاء له.(1) وهذا العلم يتناول النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وما عرف من أحداث ووقائع تشكِّل بداية تاريخ الإسلام بأحكامه ومبادئه وقيمه.
يعدّ القرآن الكريم وكتب الحديث والسنن وكتب السير والشمائل وكتب التاريخ وعلم الرجال وكتب الأدب العربي أهمّ المصادر والمراجع للسيرة في مختلف أحوالها وأطوارها.
وقد وضع علماء الحديث منهجا نقديا انعكس على معظم العلوم النقليَّة ( اللغة والأدب والتاريخ ) فالمنهج أساس كل العلوم النقليَّة وهو ميزان تصحيح الأخبار كما يحول دون انتشار الخرافة والبدعة في الحياة الإسلاميَّة.
ولم تخلُ كتب السيرة من الأخبار الواهية والزائفة وقد تعامل معها العلماء بالتمحيص والنقد وتخلصيها من كل مع علق بها من زيادات القصص وأوهام الكتاب وتصحيفات النساخ وتضخيمات الرواة، اعتمد العلماء التقات المنهج العقلي في نقد الأسانيد والمتن وركَّزوا على الأسماء والروايات الثابتة، وتوخّوا في رسم الأحداث التاريخيَّة منطق الترابط الزمني، فلا بد للمؤرِّخ من منهج يوصله إلى الحقيقة، إذا أنعم النظر في كنهه، أدرك مقاصده بحيث يقيس الأحداث والوقائع على ضوء ما تضمَّنته من غايات تتَّسق مع كليَّات الشرع الكبرى ( في حفظ الدين والعقل والنفس والمال)، وتسهم في إصلاح السلوك وتقويم الاعتقاد وتعود بالنفع على الفرد والمجتمع.(2). وتأسيسا على ذلك، فإنَّ السيرة ليست مجرَّد سرد روايات لأحداث ووقائع، ولكنها تمثِّل لقيم روحيَّة وأخلاقيَّة وجماليَّة، وقوَّة خلاقة تعكس فعاليَّة الإنسان في حركة التاريخ.
فمحور السيرة شخصيَّة النبي عليه السلام والشخصيَّة النبويَّة تتمثَّل فيها الرمزيَّة بكل معانيها، فيها تتجسَّد المثل العليا والقيم الجماليَّة والأخلاقيَّة، ويعتبر النبي مصدرا للإلهام الأخلاقي والروحي للمسلمين في كل العصور.
فظاهرة النبوَّة لا تفسَّر بارتباط الأسباب بالمسبِّبات وإنما بارتباط العلَّة بما يزيلها، فالعناية الإلهيَّة هي التي تحوِّل الأسباب الطبيعيَّة إلى الحكمة الأبديَّة، التي تكشف أوائلها عن خواتمها، وأن المقدّمات والنتائج لا تستقيم إلا بمقدّمة واحدة هي رسالة النبوة، تبدأ المقدّمات من طوالع الغيب ثمَّ تتجلَّى في وقائع الحسّ والعيان من أحوال العالم وأحوال الجزيرة العربيَّة. فبنور النبوَّة بزغ فجر التاريخ الجديد للإنسانيَّة فنشأت ديانة الإنسانيَّة بعد ديانة العصبيَّة، والنبوَّة الهادية بعد نبوَّة الوقاية، والقيادة.
فالرسالة الصادقة هي عقيدة شاملة وأسباب تمهِّد لها ورجل يضطلع بأمانتها في أوانها، فإذا تعذَّر على هذه العلامات أن تجتمع، فلا شيء ينوب عنها أو يعوِّض ممَّا نقص منها، أمَّا العلامة التي لا التباس فيها ولا سبيل إلى إنكارها فهي علامة الكون وعلامة التاريخ (3).
إنَّ فهم المعاني التاريخيَّة مرتبط بالنظر إلى الآيات الكونيَّة وبالتفكير في خصائص الموجودات، ومن هذا المنطلق تتجلَّى حقيقة النبوَّة باعتبارها تعبيرا عن الحكمة العليا تتجسَّد كرسالة وعقيدة دينيَّة في التاريخ يطلع بأمانتها نبي مرسل.
إنَّ فهم المعاني التاريخيَّة مرتبط بالنظر إلى الآيات الكونيَّة وبالتفكير في خصائص الموجودات، ومن هذا المنطلق تتجلَّى حقيقة النبوَّة باعتبارها تعبيرا عن الحكمة العليا تتجسَّد كرسالة وعقيدة دينيَّة في التاريخ يطلع بأمانتها نبي مرسل.
والله بعث الأنبياء ليكونوا أسوة لأممهم يهدونهم بدعوتهم إلى طريق الحقّ، وبعث النبي ليكون بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا ورحمة للعالمين، وليكون لهم أسوة وقدوة ومثلا أعلى للناس من بعده.
لقد عرفت الإنسانيَّة في تاريخها الطويل كثيرا من العظماء فمنهم ملوك وقادة وحكماء وفلاسفة وشعراء.هل في حياة هؤلاء العظماء ما يستعين به بنو الإنسان على الخروج من أزماتهم النفسيَّة والاجتماعيَّة وهل في دعوتهم ما يجلو صدأ القلوب؟
لا ينتظر منهم حلّ المعضلات العويصة للإنسانيَّة، والسبب أنهم لا يقدِّمون للناس المثل التي تحتذى والأسوة التي يقتدى بهم فيها، فلا بد من أن تجتمع خصلتان: الإيمان والعمل الصالح للقيام بإصلاح العالم، وقيادة الناس إلى الرشاد الكامل والفلاح الشامل.
لقد جمع النبي مكارم الخصال والكمالات التي تفرَّقت في من سبقه من الأنبياء والصالحين، فكان النبي الخاتم أي النبي الجامع للفضائل والكمالات فحقّ للناس أن يتَّخذوا من حياته أسوة حسنة ومثلا أعلى (وسيرة تاريخيَّة) فاعلة في التاريخ تتمثَّل فيها سيرة الكمال الإنساني، يسير الناس في ضوئها لاقتحام العقبات.
إنَّ الحياة المثاليَّة لن تكون أسوة للناس ما لم تكن أعمال صاحبها الذي يؤسِّس نحلة ويدعو إليها بسيرته الكاملة وهديه العالي مؤيّدا بالصدق في القول والعمل فتهوى إليه الأفئدة وتتطلَّع إليه الأبصار فيكون مثالا به يقتدى، فالناس يحتاجون من أجل بلوغ الكمال وسلوك سبيل الرشاد إلى هداة ودعاة طهَّرت حياتهم وزكَّت نفوسهم وصفت قلوبهم وتكون سيرتهم كاملة في كل النواحي ولم يجتمع ذلك إلا في الأنبياء عليهم السلام (4).
وليست الأفكار الصحيحة والنظريات الشائعة والأقوال الحسنة هي التي تجعل الإنسان إنسانا كاملا وتجعل من حياته أسوة للناس ومثلا أعلى في الحياة.
إنَّ التاريخ أصدق شاهد والمهمّ من الأخبار ليس ما يثبت على النظر ولكن ما يبنى على حقيقة ثابتة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم حيث ينبغي أن تكون توكيد للمنطق السليم والخلق القويم.
ومن نافل القول، إنَّ الأحداث العظام في التاريخ توزن بما فيها من فتوح الروح، وقد فتحت الرسالة المحمَّديَّة للإنسانيَّة آفاقا جديدة في عالم الضمير بوحي من روحيَّة الإيمان. ولم يقم في العالم أحد غيره جعل من الإيمان قوَّة فاعلة في التاريخ، فلا إيمان إلا بالعمل الصالح، ومن شعب الإيمان كلمة الشهادة أي الإيمان برسالة النبي، ومن علامة هذا الإيمان اعتقاد القلب بمحبّته وتعظيمه واحترام أهل بيته. وقوام الإيمان انه أمان وسلام وحقّ وهدى، ومن لا إيمان له لا أمانة له ولا أخلاق له.
إنَّ الفتوحات المحمّديَّة فتوح إيمان وقوّته قوَّة إيمان ورسالته رسالة إيمان، وقد حكم له التاريخ بأنه كان قدوة للعالمين، وأنَّه كان أعظم الرجال أثرا، نقل العالم كله من ركود إلى حركة ومن فوضى إلى نظام، ومن مهانة حيوانيَّة إلى كرامة الإنسانيَّة (5) لم تدرك شخصيَّة دينيَّة عبر التاريخ من الفوز والتوفيق ما بلغه النبي، ولم يصادف مجدّد أو مصلح ذلك المحيط الذي بدأ فيه رسالته.
إنّ المنطق الصحيح أن يرجع بالحوادث إلى الأسباب الثابتة، ومهما تكن الأسباب التي تحيط بالحدث والوقائع فلا بد من بحث عن سبب عام محيط بجميع الأسباب التي تختلف فيها بيئة عن بيئة وعصر عن عصر، لا بد من عامل واحد حبَّب الإسلام إلى الأفراد والجماعات وتفتح له السرائر في نفوس الضعفاء والأقوياء وتجعله قوَّة غالبة وقوَّة صامدة، لا تخفي حقيقته إنَّه عقيدة شاملة وبذلك حقَّقت الرسالة المحمَّديَّة صفة الشمول للعقيدة الدينيَّة على أتمّ شروطها ، إنها قوة الإيمان المتجليَّة في نورانيَّة المحبَّة التي تجعل المسلم يستحضر الرسول في ضميره ويتبعه ببصيرته في عمله وتفكيره: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .”آل عمران/.31
فليتفقَّه المسلمون سيرة رسولهم، ولن يتمّ ذلك الا بالفقه بالرسالة والإدراك الحقّ لحياة صاحبها الالتزام الدقيق لما جاء به (6).
فالسيرة النبويَّة تمثِّل في كل العصور مصدرا للإلهام الاخلاقي-الروحي وفيها يعد السلوك النبوي التجسيد الأفضل للمثل والقيم السامية، إنها مصدر من مصادر التوق الروحي للمؤمن ومرجع من مراجع وعيه وحساسيته (7).
والواقع أن انتشار الإسلام إنما هو في حقيقته انتشار حضارة جديرة بالانتشار وهو حركة من حركات التوسّع التاريخي تبعثها دواعي النشاط التي تمهِّدها المعرفة وتشحذها العقيدة الشاملة التي تسود الدنيا (8).
فكم من عقيدة جديدة صنعت مثل هذا الصنع؟ وكم ظاهرة من ظواهر الاجتماع تكرَّرت في تواريخ الدول والأديان؟ إنَّ كثرة الكتابة في موضوع الإسلام وسيرة نبيّه دليل قاطع على جاذبيَّة الإسلام لأنه عقيدة مؤسَّسة على قوة الإيمان ودعوة تبثّ الإيمان وتحضّ على النظر إلى المستقبل. وحيثما غلب القلق في العالم وفقد أسباب الطمأنينة في الباطن والظاهر، سيبحث عن عقيدة روحيَّةتشفي اضطراب النفوس وضيق الصدور، وتعيد الرجاء بالنظر إلى المستقبل من مرجع ايمان وغاية تستحقّ الجهاد.
فالإسلام رسالة جامعة لشؤون الدين والسياسة والاجتماع، وما من حركة كبرى في التاريخ تقوم على الماضي الذي لا مستقبل بعده، وإنما تقوم الحركات العظمى جميعا على الرجاء في المستقبل. والإسلام يقوم على عقيدة الإيمان تنظر إلى المستقبل، فتفتح باب الحياة الصالحة وباب الحياة الخالدة. وهكذا كل عقيدة على معنى من معاني الاعتقاد تحفِّز الأمَّة للنهوض والانخراط في حركة الحياة في صورة خلق جديد.
إنَّ كثرة الكتابات الغربيَّة حول السيرة النبويَّة تفتقر إلى شرط الإيمان الروحي الذي هو قوام رسالة النبوَّة، وبالتالي فإن المنهج الاستشراقي حتى إذا توسَّل بقواعد البحث التاريخي وأصوله، فإنه لن يستطيع الإحاطة بحقيقة السيرة التي تتطلَّب منهجا متماسكا يمتلك عناصر جماليَّة خاصَّة تليق بمكانة الرسول ودوره الخطير في إعادة صياغة العالم بما يرد إليه الوفاق المفقود مع نواميس الكون.
إن ما يقدِّمه لنا المنهج الغربي الاستشراقي هو مجموعة أبحاث تحمل اسم السيرة وتتحدَّث عن حياة الرسول وتحلِّل مبادئ رسالته، إلا أنها تحمل ملامح وقسمات غير مادة السيرة وروح غير روح النبوة ومواصفات غير مواصفات الرسالة (9).
إنها نتائج تنحرف عن سمة العلم وتسعى إلى إخضاع حقائق السيرة لمقاييس تنسخ ما هو جميل وتزيِّف كل ما هو أصيل وتميل إلى تشويه القيم المشعَّة لكي يسود الانحلال.
(2)
أسَّست الكتابات الاستشراقيَّة حول الإسلام حقلا معرفيا خصبا، وتبلور عن الخطاب الاستشراقي مناهج أسهمت في تشكيل العقل الغربي كما رسخت في الوعي الجمعي موقفا معاديا للإسلام.
تأثَّرت دراسات الإسلام في الغرب، بالأفكار التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر حول التاريخ الحضاري وطبيعة الديانات وتطوّرها، كما أنَّ النسق المعرفي خضع إلى ما حدث في الغرب من تطوّر العلوم في مختلف المجالات. وضمن هذا السياق جاء الاهتمام بالتراث الإسلامي، وتمَّ تأسيس مراكز وكراسٍ في الجامعات الأوربيَّة العريقة للتعمق في دراسة الدين الإسلامي في كل جوانبه ومجالاته (اللغة والأدب والتاريخ والشريعة والحديث النبوي والقرآن الكريم) وانطلاقا من قراءة الأحداث التاريخيَّة تناول بعض كتَّاب الغرب حياة النبي عليه السلام ورسالته ومن خلال هذه الكتابات أصبح لدى الغرب مواقف متباينة من الإسلام،تمثِّل النظر إلى الإسلام باعتباره قوَّة منافسة للحضارة الغربيَّة (المسيحيَّة _اليهوديَّة) وذلك منذ ظهوره على مسرح التاريخ ،قد يختلف الأسلوب والمنهج مع تغيُّر أطوار السياسة من جيل إلى جيل(10).
اهتمَّ المستشرقون بالسيرة النبويَّة وصنّفوا فيها لأنها جامعة لأصول الإسلام وتشتمل على تعاليم الدعوة والرسالة، وتتضمَّن آداب العقائد والمعاملات في التربية والاقتصاد والسياسة والأخلاق والسلوك.
بحيث إذا نجحوا في التشكيك في أساسياتها هانت عليهم هدم حلقاته، وهذا ما يفسِّر كثرة طعونهم في القرآن والافتراء على النبي.
تناولت الدراسات الغربيَّة صورة النبي معتمدة على مناهج تشكيكيَّة ونوايا عدائيَّة تغلب الدوافع السياسيَّة والدينيَّة والاستعماريَّة، ممَّا أنتج صورة غير منصفة لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم في مجمل الكتابات التي تناولت سيرة النبي وأحوال عصره، وقد عمَّقت هذه المعرفة المشوّشة الصراع بين الإسلام والغرب، وأدَّت إلى أزمات متكرِّرة.
إنَّ الكتب الغربيَّة تحتوي على كثير من التضليل المعرفي، والمنهج الغربي في القراءة التاريخيَّة للسيرة النبويَّة يقوم على نزع “القدسيَّة ” من الحياة الاجتماعيَّة، ويحقّ لنا أن نشكّ بأن يكون ذلك ممكنا أصلا، لأن الاجتماع الإنساني إذا أفرغ من الرموز فإنه يصبح بدون معنى ولا قصد (11).
فالمقدَّس يتجلَّى في الاجتماع البشري باعتباره حاملا لرسالة حقيقيَّة كاملة المعنى بالنسبة للثقافة أو الدين، فقدسيَّة النبوَّة إذن لا تقتصر على ما هو تاريخي أي بما حدث في الماضي بل ترتبط بمعنى الوجود الإنسان في جميع المناحي.
المقدَّس يتجلَّى في الاجتماع البشري باعتباره حاملا لرسالة حقيقيَّة كاملة المعنى بالنسبة للثقافة أو الدين، فقدسيَّة النبوَّة إذن لا تقتصر على ما هو تاريخي أي بما حدث في الماضي بل ترتبط بمعنى الوجود الإنسان في جميع المناحي.
سلك الكتَّاب الغربيّون في دراسة السيرة النبويَّة مسالك متعدَّدة أغلبها بعيد عن الموضوعيَّة العلميَّة التي يتبجَّحون بها، فغلبوا الهوى على المنهج العلمي، واعتمدوا على الروايات المكذوبة والضعيفة، وقاموا بتحريف النصوص المقتبسة مما أدَّى إلى تزييف الأحداث، وهذا ما وقع فيه عدد من كبار علماء الاستشراق نذكر من بينهم ( جولد زهير وهنري لامنس وبلاشير وبول كازانوفا ووات وموير) وغيرهم كثير، حيث ينكرون حقائق موثوقا بها وذلك بتفسير النصوص تفسيرا بغير دليل، وتقديم افتراضات لا برهان عليها، ولا شكّ أن قراءاتهم لنصوص السيرة النبويَّة كانت نتيجة الخلفيات العقائديَّة، حيث اتَّخذت منحى الصراع والعداوة وتداخلت في ارائهم وتفسيراتهم تبعا لانتماءاتهم الفكريَّة والسياسيَّة والدينيَّة، ولم تستمدّ بمعرفة صحيحة إيجابيَّة عن الإسلام عموما وعن السيرة النبويَّة خصوصا.
لقد رسَّخت الصورة المشوّهة التي رسمتها الكتابات الغربيَّة عن الرسول صلى الله عليه وسلم العديد من الأفكار العدوانيَّة، وتسرَّبت إلى الخطاب المعرفي فأثَّرت في أحكامه ومواقفه ونتائجه وأبحاثه، كما أثَّرت في المخيال والذاكرة الجمعيَّة للغربيين، وترتّب عن ذلك أن ضاعت الحقيقة الناصعة عن الإسلام، وضاعت معها كل معرفة جادَّة يمكن أن يكونها المتلقِّي الذي يطمح إلى الإطلاع على حقيقة هذا الدين ورسالة رسوله الذي أوقف حياته على هداية البشريَّة إلى تعالميه، نتيجة لسلطة الأفكار وسلطة الصور النمطيَّة الثابتة التي تحكم توجّهات المعرفة الاستشراقيَّة منذ نشأتها.
وبهذا الصدد يقول المستشرق الإيطالي الأمير(ليوني كيتاني 1859-1926) في كتابه تاريخ الإسلام ” أليس الرسول جديرا بأن يقدِّم للعالم سيرته حتى لا يطمسها الحاقدون عليه وعلى دعوته التي جاء بها لينشر في العالم الحبّ والسلام؟ وفرصة لدراسة الإسلام والتأمّل فيه من المستوى الذي كان يستحقّه ويليق به والذي لا يستغني عنه مجتمع يتطلَّع إلى العيش المشترك في الحضارة الإنسانيَّة.
ويرى “فرنسيسكو جبريلي (1904/1996)، بأن النبي أحرز خبرة كبيرة بعد صبر طويل ومعاناة والكدّ والعمل الجادّ، وأنَّ أمانته وعمق مشاعره واضحة جدا لأي ذهنيَّة غير متعصِّبة. لقد استمرَّ في جهاده بحماس وعاطفة جياشة وإيمان راسخ برسالته الحقَّة وسموّها الديني والأخلاقي، وكان الشخصيَّة الأنبل والأكثر حيويَّة بين أتباعه (12).
افتقدت الكتابات الغربيَّة حول السيرة للمنهج العلمي الصحيح في التاريخ والواقع، بحيث إنه من المتعذَّر عليهم التجرَّد من نزعاتهم المختلفة، وقد بلغت تحريفاتهم لسيرة النبي والصحابة مبلغا يخشى على صورتها الحقيقيَّة من شدَّة التحريف فيها، فقدَّموا لنا صورا خياليَّة هي أقرب إلى أشخاص القصص والروايات.
أغلب الدراسات صدرت عن أقلام حاقدة غلب على أصحابها التعصّب الأعمى والانحياز على حساب الحقيقة العلميَّة، وانتهاج لغة السباب والحقد والتشويه وقلب الحقائق والتصرّف في نصوص السيرة حتى تغذى آراءهم في الطعن والافتراء (13).
إنَّ الانحرافات المنهجيَّة في الدراسات الاستشراقيَّة أدَّت إلى جعل الوقائع التاريخيَّة مجالا انتقائيا للتدليل على فكرة محدَّدة مسبقة أو اتجاه محدَّد سلفا بالانتقاء والتفاسير والنفي الاعتباطي بدون دليل قاطع. يتذرَّعون بالروايات المختلفة من غير تمحيص أو تروٍ في الاستنتاج ليجعلوا التاريخ ينطق بما ليس فيه.
إنَّ فهم السيرة لا يمكن أن يتم إلا وفق نظرة شموليَّة تدرس الإسلام ضمن حركة التاريخ الإنساني، والمنهجيَّة العلميَّة الصحيحة هي التي تجمع بين العلم والعدل في الرواية مع الإحاطة التامَّة بالعلوم الموصلة والمناهج الحديثة في العلوم الاجتماعيَّة للاسترشاد بنظرياتها في فهم التشكلات الكبرى في التاريخ. والعوامل الأساسيَّة التي أثَّرت في الأحداث والوقائع الاجتماعيَّة. ومهما تكن الأسباب التي تحيط بالحدث والوقائع فإن المنطق الصحيح يتمثَّل في أن نرجع بالحوادث إلى الأسباب الثابتة، ولا بدّ من البحث عن سبب عامّ محيط بجميع الأسباب يعكس الجدل المعتمل بين القوى الفاعلة داخل الواقع المدرك الذي يستطيع المدرك إدراكه من الدليل الحاضر في الوعي في حدود معرفته به وحدود وضوحه في وعيه (14).
-3-
إنَّ ما نتحرّاه من دروس السيرة أن تكون قوَّة روحانيَّة تطوي عوارض الزمن فيما تفيض به من حياة إنسانيَّة، وتتحلَّى به من قيم حيَّة يأتم بها المقتدي فيما اضطلع به من أمانة العقيدة وأمانة الفكر وأمانة الحق،وهذه الروافد كافة تجتمع لكي تجعل المواقف من سيرة الرسول(ص) متوحّدة تتغلغل في نسيجه الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبَّة واليقين (15).
والنبوَّة هي عصب السيرة وسداها ولحمتها، ولن يستطيع المنهج التاريخي الإحاطة بجميع أبعادها والنفاذ إلى مقاصدها وإدراك حقائقها، لأن الفهم الجاد للسيرة يقتضي منهجا متماسكا قادرا على الفهم الحقيقي لوقائع السيرة ونسيجها العام.
والمنهج التاريخي الذي يدرس السيرة بعقليَّة منغلقة تشكيكيَّة، لن يكون في قدراته مهما اجتهد في تحليلاته المنطقيَّة وحاول الإفادة من العلوم المساعدة (الموصلة ) للحقيقة التاريخيَّة الموضوعيَّة، أن يقدِّم صيغة ناصعة تقرب حقائق السيرة وصورها المشرقة إلى الأذهان الواعية.
ولن ترقى الأبحاث الغربيَّة حول السيرة إلى درجة البحث العلمي الجادّ، إلا إذا تجاوزت التعصُّب الأعمى كما فعل (لامنسودوزيومرجوليوت.) وغيرهم، وتخلَّصت من النظر إلى السيرة من منظور التصوّر المادّي للكون والحياة، بغية تحويل السيرة إلى حقل لتجارب العقل النقدي الغربي (16).
لن ترقى الأبحاث الغربيَّة حول السيرة إلى درجة البحث العلمي الجادّ، إلا إذا تجاوزت التعصُّب الأعمى كما فعل (لامنسودوزيومرجوليوت.) وغيرهم، وتخلَّصت من النظر إلى السيرة من منظور التصوّر المادّي للكون والحياة، بغية تحويل السيرة إلى حقل لتجارب العقل النقدي الغربي.
يرى المؤرِّخ “شارل سينيوبوس” بأن المنهج التاريخي الغربي كما يرى المؤرخ وسيلة للمعرفة (Procédé de connaissance) وقصد بذلك ان المنهج التاريخي هو أسلوب يطبق على مادة للكشف عن الحقيقة، بمعنى أن التاريخ ليس علما للوقائع بل معرفة بخبر الوقائع. وتفسير للحوادث للكشف عن الروابط التي تجمع بين شتاتها وتجعل منها وحدة متماسكة متفاعلة ممتدَّة في الزمان والمكان، ولكي نفهم الحادثة يجب توفّر معرفة علميَّة يتوصَّل لها عن طريق البحث أو الاستقصاء وتوخي الحقيقة، باعتبار التاريخ علم نقد وتحقيق ومعرفة منظَّمة بالظواهر والأحداث.
لكل معرفة أو علم منهجه الضابط والمنظّم فإذا كان المنهج ماديا في تصوره للكون والحياة أنتج أفكارا ماديَّة.
أن الضابط المنهجي يعني المبادئ الناظمة للأفكار التي تقنِّن الفكر حتى لا يتحوَّل إلى مجرَّد تأمّلات وخواطر انتقائيَّة، فالمنهجيَّة كناظم مقنّن لإنتاج الأفكار تخرج منها مناهج البحث وطرقه في الاستدلال والإنشاء، وتعنى بالوسائل والإجراءات للوصول إلى أحكام كليَّة بغرض فهم الوقائع التاريخيَّة وتفسيرها.
والمنهج ليس مجرد أدوات أجرائيَّة بل هو رؤية معرفيَّة مستشرفة للآفاق تمثِّل النموذج الإرشادي الذي يشمل التلاقح بين رؤية العالم وبين المنظومة القيميَّة ويثبت أن العلم لاينفصل عن إطاره الثقافي والحضاري.
والمقصود بالعلم كل معرفة تقوم على الدليل والاستنباط، وكل معرفة معقولة فهي علم ووظيفة العلم تنحصر في تقسيم الوقائع ومعرفة تتابعها وأهمّيتها النسبيَّة والبحث الدائم لمعرفة كل ما يتَّصل بها من حقائق (17).
وهدف المؤرِّخ محاولة الوصول إلى حقيقة في أمرٍ يتعلَّق بماضٍ اندثر عن طريق جهد شخصي لا عن طريق التجربة القائمة على حقيقة موضوعيَّة، ومن ثمَّ فهو بحكم وضعه يقوم بتدوين الرواية المتضمِّنة للأحداث والوقائع والأفكار والنظم والأشياء بقدر ما تسمح به معرفته وأبحاثه التحليليَّة (18).
ولعلم التاريخ أهميَّة بالغة لخطورته بين حقول المعرفة، وقد تأثَّر علم التاريخ بالتطورات العلميَّة الحديثة وظهر ذلك في فلسفته واتجاهاته، وأسهمت التطوّرات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة إلى إعادة النظر في مفهوم التاريخ وفي النظريات التاريخيَّة، بحيث لم يعد فهم الحاضر يتحقَّق بمعرفة الأحداث والوقائع في الحقبة السابقة، بل تبين أن للحقب السالفة تأثير بصورة من الصور على التشكّلات التي تطرأ في الحاضر، ومن ثمّ فقد تبلورت نظرة جديدة إلى التاريخ تضع في الاعتبار أهميَّة الحضارات الإنسانيَّة وتأثيراتها في ظواهر الاجتماع البشري، وبالتالي لم يعد من المستساغ تفسير حركة التاريخ البشري بمناهج غربيَّة تأثَّرت بالبيئات الثقافيَّة التي نشأت فيها، وهذا لا يعني البتة الاستغناء عن النظريات الحديثة في علم التاريخ بل من الضرورة الاستفادة منها لوضع مناهج تاريخيَّة منبعثة من التراث الإسلامي، تنسجم مع المنطلقات والقيم والمعايير والأهداف الإسلاميَّة التي نستطيع بواسطتها فحص مصادرنا التاريخيَّة ونقد رواياتنا والتمييز بين الأصيل والموضوع وبين الرواية التاريخيَّة من القصص.
ولا شكّ بأن تطوّر الكتابة التاريخيَّة وما رافقها من مناهج ومذاهب ونظريات والتباين في الدقَّة والأسلوب وطريقة الرواية، وعوامل الارتباك في الكتابة التاريخيَّة من أثر التيّارات السياسيَّة المتصارعة والمذاهب الدينيَّة المتباينة ودور القصاص فيها، ممَّا تسرَّب عنه مناهج التشكيك إلى دراسة السيرة النبويَّة بحيث ظهرت العديد من الكتابات التشكيكيَّة في أحداث السيرة وذلك بإسقاط رؤية الكاتب واستنتاجاته وأحكامه وفلسفته على وقائع السيرة فيتمّ تحريفها وطمس حقائقها، الأمر الذي يستوجب كشف ما تنطوي عليه هذه الكتابات من تحريف وأباطيل وسوء فهم وتعصُّب مقيت، والتفريق بين ما تضمّنته من آراء وتأويلات مجحفة ومجانبة للحقائق التاريخيَّة الثابتة.
فالمنهجيَّة العلميَّة تتَّصف بالأمانة والنزاهة في صحَّة القول وسلامة الاستنتاج وتعمل على عرض الحقائق بترتيبها التاريخي لكي نتأكَّد من صحَّة الاستنتاج ولا سيما في أمر الأسباب والمسبّبات.
والواقع أنَّ أمانة العلم تتطلَّب الدقَّة في الاستنتاج والتمكُّن من الأصول المنهجيَّة وفي الأسلوب والعرض وفن الرواية والقص والضبط والعدل في الرواية.
فالتاريخ علم والمؤرِّخ يتحرَّى الحقيقة من خلال بحث الأصول التي تتضمَّن نصّ الشهادة التي تروي حوادث الماضي، فصحَّة الرواية من سلامة الأصول التاريخيَّة، ونقد النصّ إما يكون بغرض تفسيره أو الكشف عن معانيه، وإما يكون الغرض منه إعادة صياغة الرواية لتعكس تصوّر المؤلِّف وتوجّهاته ومآربه، ممَّا لا علاقة له بالموضوع فيظن أنه يروي الحقيقة وهو بعيد عنها، وهذا ما نقصده بالمنهج التشكيكي المتهافت في دراسة السيرة النبويَّة عند بعض الكتاب المهتمِّين بتاريخ الإسلام في عصر النبي وعصر الخلفاء من بعده.
ممَّا يدفع إلى الشكّ في القيمة العلميَّة للدراسات الغربيَّة للتأريخ للإسلام، ما دامت الأحداث والوقائع التي يقدِّمونها طبقا لرؤية المركزيَّة الغربيَّة (تعبيرا عن الثقافة المادّيَّة والرؤية الوضعيَّة ) فتتَّخذ تصوّرا معيّنا هو وحده الذي يملك معيار المنهجيَّة العلميَّة، يعير بها المعارف بالنظر إلى “مضامينها” و”محتوياتها” العلميَّة أو العمليَّة، وكذلك بالنظر إلى آليَّات بنائها ووجوه تقريرها الاستدلاليَّة والتداوليَّة (19).
والجزم بأنَّه أصح الأشكال أو النظريات يدركها ويفسِّرها ويحكم عليها كما يراها، انطلاقا من أن الغرب هو محور العالم في كل عصور التاريخ الإنساني.
وقد أصبحت النظرة الغربيَّة سجينة لوضعها الراهن كقوَّة مهيمنة تتعسَّف في النظر إلى الماضي، ومن هنا ندرك انحراف الرؤية الغربيَّة لتاريخ الإسلام ومدى ما وقعت فيه من أخطاء التفسير والتأويل وإصدار حكم متعسِّف لا يسنده برهان قاطع أو دليل وجيه.
إنَّ جدوى التاريخ إنما في أن يصان الذكر عن الابتذال، حتى لا يختلط الحقّ بالباطل وتضيع الحقيقة ويتساوى الجوهر والطلاء في ميزان الخلود والبقاء.
وسوف نعرض لبعض نماذج الكتابات التشكيكيَّةالتي تؤثِّر فيها النظرة العدائيَّة للإسلام المتجدِّدة البواعث حتى نتحرَّز التحرّز العلمي الواجب من المنهج الذي قامت عليه هذه الدراسات عن الإسلام.
إنَّ جدوى التاريخ إنما في أن يصان الذكر عن الابتذال، حتى لا يختلط الحقّ بالباطل وتضيع الحقيقة ويتساوى الجوهر والطلاء في ميزان الخلود والبقاء.
-4-
شكَّلت شخصيَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أبرز الموضوعات التي تناولتها الكتابات الغربيَّة الحديثة باعتباره محور الرسالة الإسلاميَّة ومتلقّي الوحي ومؤسِّس الأُمَّة.
ويأخذ التأليف في شخصيَّة النبي أشكالا مختلفة، تتلخَّص في محاولات تشويه صورة النبي والطعن في القرآن الكريم، ولا زالت الصورة المتخيَّلة والنمطيَّة عن النبي والإسلام منذ القرن التاسع الميلادي هي الرائجة في الخطابات الاستشراقيَّة والأدبيَّات الغربيَّة، مستمدَّة من تحريفات بيزنطيَّة قديمة وأساطير خياليَّة بحيث أصبحت الأفكار الخرافيَّة والشبهات المتعلقة بالإسلام المادَّة والمرجع الذي ينهل منه خصوم الإسلام وينسجون من خيوطه قصصا تطعن في أمانة الرسول وصدقه ونزاهته.
وما من شخصيَّة من عظماء التاريخ تعرَّضت لبخس حقّها والقدح في دورها وتأثيرها من طرف كتَّاب الغرب كما كان مع النبي عليه السلام.
ولعل السبب في هذه العداوة العميقة للإسلام والمتجذِّرة في التاريخ، يعود إلى الفتوحات الإسلاميَّة للشام ومصر وتركيا والأندلس وصقليَّة. فوقع في الذاكرة الجمعيَّة وفي عقول المفكرين والكتاب أنَّ الإسلام يشكِّل المنافس للحضارة الغربيَّة وقيمها ومبادئها، ومن ثم فتح الباب أمام الدعاية للإقرار، أن الإسلام هو” العدو الأكبر” للمسيحيَّة.
وتمَّ اعتماد المنهج التاريخي التشكيكي في دراسة السيرة النبويَّة ضمن مخطَّط ممنهج يهدف إلى هدم أركان الإسلام ونقض أصوله والتشكيك في شريعته وتفنيد مبادئه وقيمه وتقويض دعوته ورسالته،وذلك من أجل أن تخبو حيويته وروحانيته الباهرة وتتعطَّل قدرات امته حتى لا تتأهَّب لدورها في التاريخ، وبالتالي فان كثرة الكتابات حول تاريخ الإسلام وسيرة النبي عليه السلام يندرج ضمن الاتِّجاهات الحديثة في العالم الإسلامي والدور المتزايد للمسلمين في العالم الحديث الذي تضيق رقعته وتتقارب أجزاؤه نتيجة للثورة التكنولوجيَّة المتسارعة وما صاحب ذلك من تغيّرات هائلة في العالم الإسلامي مسَّت جميع المجالات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة ومناحي الحياة الفكريَّة والروحيَّة والدينيَّة.
وقد أدَّى تسارع التطوّرات وتطلّع المسلمين إلى النهوض واستعادة دورهم وتأثيرهم في الحضارة الانسانيَّة إلى حدوث صراعات واحتكاكات وصدمات مع الغرب المهيمن على العالم (20).
إنَّ ظاهرة العداء للإسلام تجذَّرت واتَّخذت ألوانا وأبعادا ممتدَّة في التاريخ وخلَّفت آثاراً بالغة انعكست بصوة واضحة في أغلب الكتابات التي تناولت سيرة وحياة نبي الإسلام، وقد حاولت هذه الكتابات أن تشكِّك في الدور الحضاري والإنساني للرسالة المحمديَّة وما حملته من مثل عليا وقوَّة إيمانيَّة صالحة لمقاومة القوى الهدّامة، وقد أرست الدعوة المحمّديَّة دعائم المساواة والأخوَّة الإنسانيَّة في العقول والنفوس.
ورفعت الإنسان إلى أرقى الدرجات بوصله بخالق الكون، منه يستمدّ القوَّة الإيمانيَّة الثابتة والعقيدة السمحة التي جدَّدت الحياة الإنسانيَّة ووجَّهت التاريخ وجهة جديدة فكان الأولى أن تدرس السيرة النبويَّة دراسة مجرَّدة مخلصة وموضوعيَّة ومتحرِّرة من رواسب الحروب الصليبيَّة والأهداف الاستعماريَّة والسياسيَّة، ومركب الاستعلاء الذي يحول بين الدراسين وبين الإنصاف العلمي والتقدير الصحيح للقيم والمثل الرفيعة التي كانت تتطلَّب عمق النظر ورحابة الصدر وسعة الأفق والإخلاص والنزاهة، أكثر من الدراسات الخاضعة المصالح المادّيَّة والاقتصاديَّة (21).
والواقع أن الذي هيمن على النظرة الغربيَّة هو الاتِّجاه الواحد الذي يقيم الثقافات والحضارات والديانات بمعيار المركزيَّة الغربيَّة التي تتعامل مع الحضارات الأخرى بالدونيَّة فتسعى إلى صياغتها صياغة تخدم مصالحها وتجعلها قابلة للانصهار في بوتقتها ونهجها.
إنَّ الروح الغربيَّة الحديثة تسيطر عليها رغبة في القوة الموروثة عن الرومان. وهناك فرق بين الإسلام والإمبراطوريَّة الرومانيَّة في التوجّهات والأهداف التاريخيَّة، فقوَّة التماسك الاجتماعي في العالم الإسلامي كانت أرقى من كل شيء خبره العالم.
فتعاليم القرآن الكريم وسنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت الأساس المتين والإطار الذي خصّ البناء الاجتماعي فقوَّة الإسلام قامت على فكرة الحقيقة الدينيَّة الساميَّة، في حين قامت الإمبراطوريَّة الرومانيَّة على قوة الاجتياح والسيطرة والاستغلال، فالأساس الذي قامت عليه الحضارة الرومانيَّة أساس مادّي خالص بعيد عن جميع القيم الروحيَّة، فالآلهة الرومانيَّة لم تكن سوى محاكاة للخرافات اليونانيَّة، ولم يكن ينتظر منها أن تمنح البشر شرائع خلقيَّة، تلك كانت التربة التي نمت فيها الحضارة الغربيَّة الحديثة (22).
إنَّ الإستشراف الغربي للحياة والأخلاق يرجع إلى الإرث الروماني الفكري والاجتماعي الذي كان نفعيا بحتا ولا دينيا، وخاليا من كل استشراف مطلق، فالحضارة الحدثة في واقعها وثنيَّة ماديَّة لا تؤمن بغير القوّة، من أجل ذلك ترى فرقا عظيما بينها وبين الإسلام الذي بني على الأخلاق والمثل العليا، تلك الأسس التي خلقت في الإسلام مناعة ذاتيَّة جبّارة.
كانت العصور الوسطى مليئة بالصراع المرير، بين النزعة الماديَّة العقليَّة والروح الدينيَّة الكنيسيَّة انتهت إلى تحرير العقل الأوروبي من القيود التي فرضتها الكنيسة المسيحيَّة، وتمخَّض عن هذا الصراع ظهور عصر النهضة الأوربيَّة الذي تأثَّر بما قام به المسلمون من تجديد للعلوم القديمة، ثم حملوه بوسائط مختلفة إلى الغرب، فبزغ نور عقلي ملأها بالحياة والتعطّش إلى الرقي(23).
لا مريَّة أن عصر النهضة نتج عن الاحتكاك الحيوي بالثقافة الإسلاميَّة، فكان ولادة جديدة لأوروبا وحضارتها، وانبعاث لحركات الإصلاح الديني، التي كانت الغاية منها تكييف التفكير الديني المسيحي حسب مقتضيات الحياة الجديدة، إلا أنها لم تستطع التوفيق بين العلم والتفكير الديني في أوربا وانقلب النزاع إلى صراع بين دعاة السلطة الروحيَّة ودعاة السلطة الدهريَّة.
وقد حسم الصراع بين الفريقين بقيام الثورات الأوربيَّة في القرن الثامن عشر والثورة الصناعيَّة في القرن التاسع عشر، بحيث أصبحت السيادة للدهرانيَّة وتوطَّد العداء لكل شكل من أشكال السلطان الروحي والديني (24).
ثمَّ انضاف إلى الإرث الروماني، المادّي سلطان المال الذي أصبح إلها جديدا في الغرب يتحكَّم في ضمائر الناس ومصيرهم وحياتهم، وأضحى إله المال الغاية التي يتوجَّه إليه جمهرة عبدة الذهب الذين يسعون إلى جمعه. والخلاصة أنّ هناك سبيين متجذرين في الحضارة الغربيَّة لمناهضة الدين تمام المناهضة في مدركاتها وفي طرقها.
- السبب الأوّل الإرث الروماني المادّي.
- السبب الثاني الثورة ضدّ التفكير الديني للكنيسة المسيحيَّة.
وقد انحصر التديُّن في سلوك فردي محتشم والتعبد للرقي المادّي فقط وفلسفته الأخلاقيَّة، في مسائل الفائدة العمليَّة وكل الفضائل تتعلق برفاهيَّة المجتمع الماديَّة (25).
إنَّ الميل الأساسي للحضارة الغربيَّة إنما هو التخلي عن شخصيَّة الإنسان الروحيَّة وفضائله الخلقيَّة للمقتضيات الماديَّة في مجتمع تتحكَّم فيه الآليَّة التقنيَّة، وهذا يعتبر سمّا زعافا لكل ثقافة مبنيَّة على القيم الدينيَّة، تغلب الاعتبارات الأخلاقيَّة على الانتفاع المادي (26).
إنَّ رفض المسلمين لروح الحضارة الغربيَّة من أسباب عداوة الغرب للإسلام وما يكنّه الغرب للإسلام خاصَّة هو كره عميق الجذور يقوم على التعصُّب الشديد وليس عقليا فحسب، ولكنه يصطبغ بصبغة عاطفيَّة قويَّة، حتى إنَّ أبرز المستشرقين كانوا فريسة للتحيُّز غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام، ويظهر في كتاباته كما لو أن الإسلام لا يمكن أن يكون موضوع بحث علمي بل موضوع اتّهام يمثِّل بعض المستشرقين دور المدَّعي العام الذي يحاول إثبات الجريمة، وبعضهم يطلب له مع شيء من الفتور” اعتبار الأسباب المخفّفة”، وعلى الجملة فإنَّ طريقة المستشرقين تشبه محاكم التفتيش في العصور الوسطى؛ أي أنها لم تنظر إلى القرائن التاريخيَّة بتجرُّد بل كانت تبدأ باستنتاجات متَّفق عليها مسبقا طبقا لما أملاه التعصُّب للرأي.
ففضَّلوا الوقائع التاريخيَّة عن المتن وتأوّلوا الشهادات بروح غير علمي من سوء القصد، والنتيجة رسم صورة مشوهة للإسلام فيما كتبه المستشرقون (27)، وصوّر النبي باعتباره زعيما سياسيا كانت دعوته الإصلاحيَّة محصورة بالجزيرة العربيَّة، ومن تجربة الفتح الإسلامي يستمدّ الوعي الغربي في القرون الوسطى الأسس الانفعاليَّة لتمثّله للإسلام، فأصل العداء للإسلام كان شعورا بالإزدراء يغذّيه إحساس بالتفوّق الديني، وعلى غرور قومي وثقافي، فالتمثُّل مجبول أساسا بالعداوة وهنا يجب الفصل بين الرؤيتين؛ الشعبيَّة التي تغذَّت من الحروب الصليبيَّة، والرؤية المدرسيَّة ( scolastique) التي تغذَّت من المواجهة الإسلاميَّة المسيحيَّة في الأندلس. واحدة انتشرت على المستوى الخيالي والثانية على المستوى العقلاني (28 ). في الأدب الشعبي هناك خلط الملحمي بالخيالي، وبالمقابل في الرؤية المتبحِّرة هناك معرفة سابقة ( وثائق كلوني 1143) وترجمة كتونketton للقرآن مما يدل على أنهم كانوا على علم تام بالجسم العقائدي للإسلام” .
فالإسلام يعتبر من خلال فتوحاته العلميَّة، والفلسفيَّة عنصرا أساسيّا في تاريخ الفكر وهذا الاعتراف يقابله الرفض للإسلام باعتباره دينا أخلاقيا، ممّا يعني فصل الإسهام الفكري للإسلام عن قيمه ومثله،إذ هناك رؤية فكريَّة تهيّأت منذ القرن الثاني عشر الميلادي حتى العصر الاستعماري تنطلق من عداء شديد للنبي. ينبغي تجريد النبي من ادّعائه النبوّة الحقيقيَّة، وأنَّ القرآن ليس وحيا. لذا اعتبر الإسلام في التقليد المسيحي دينا مشوّشا زائفا. شهواني ومادي في روحه وفي مفهومه في الجنّة (29).
هذه الرؤية تقدِّم معرفة ذهنيَّة لبعض الأوساط في العصور الوسطى. والأحكام الصادرة عنه أدخلت في اللاوعي الجماعي للغرب في مستوى عميق، سمح لنا القول بأنه لن يكون بإمكانها الخروج منه. في الغرب الحديث عصر الإصلاح والأنوار والامبرياليَّة تشكَّلت عدة زوايا للرؤية: السياسيَّة والدينيَّة والثقافيَّة والاستعماريَّة.
وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر لم يعد الوعي الديني يجادل الإسلام، ولكن بقيَ عاجزا عن تجاوز جذوره العقائديَّة، مستهدفا حقيقة النبوّة المحمديَّة. إنَّ الشعور بالتفوق والحقيقة يتلازم مع وعي بتفوّق سياسي وحضاري (30).
وطوال العصر الحديث جسَّدت المسيحيَّة وبكل قوّة في الغرب الاتّجاه المعادي للإسلام فكلّما هذَّب الغرب أدواته الثقافيَّة والمعرفيَّة، كلما رأى نفسه كمركز للعالم ومحور للحضارة ونهاية للتاريخ.
في القرن التاسع عشر طغت الفلسفة الوضعيَّة التي تعتمد معرفة الوقائع على التجربة العلميَّة، والنقد التاريخي وتأويل النصوص المقدَّسة (31).
رغم تجذُّر الإسلام في التراث الديني الهائل فإنَّ المستشرق « E.renanأرننست رينان ” (1823-1899) باعتباره مؤرّخا للعلم والأفكار ينظر إلى الدور التاريخي للإسلام نظرة غير منصفة ومختصرة، ففي محاضرته الشهيرة عن ” الإسلام والعلم” يرى أن المسلمين يعادون بقوَّة الفلسفة والفكر العقلاني. وأنَّ ظهور الفلسفة في الحضارة الإسلاميَّة من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر، إنما يعود إلى انتهاء الدور القيادي للعرب في الحضارة الإسلاميَّة. وإذا كانت اللغة العربيَّة قد استخدمت لتمرير الفلسفة، فذلك يعود إلى نجاحها واستمرار دورها كلغة ثقافة.
يندرج موقف “رينان” تجاه الإسلام ضمن رؤيته عن التقدُّم الثقافي وموقفه من الدولة الدينيَّة والاضطهاد الديني.
لقد حصر الاستشراق الإسلام في عمليَّة مواجهة حضاريَّة مع الغرب. فيطرح نفسه ناطقا باسم الغرب، فينظر إلى العلاقات مع الشعوب الإسلاميَّة باعتبارها محكومة بالإيديولوجيَّة الاستعماريَّة (32)، فرؤية الاستشراق لسيكولوجيَّة ” الإسلام” هي رؤية جامدة تبرز أنماطا من العجز الإسلامي عجز عن العلم وعن التقنية أو عن العقلانيَّة.
فلائحة نقائص الإسلام لا تنتهي عند المستشرقين، فالإسلام في نظر ” جولد زهير” جعل الدين دنيويا وأدخل السياسيَّة في الدين فأثَّرت عليه دنيويا، وأن الإسلام كان في البدايَّة ثورة أخلاقيَّة ثمّ أصبح دينيا محاربا في مرحلته المدنيَّة. ويرى سنوكهورغونجي(hargonji) أنَّ الإسلام دخل العالم كدين سياسي، ويقدِّم النبي على أنه ذو مزاج عصبي حساس واعٍ بتفوّقه، ويصنّف الإسلام بأنه دين صراعي.
إنَّ الأفكار التي غذَّت الفكر الاستشراقي في نصف الأول من القرن العشرين كانت تمدّد النظرة القروسطيَّة للإسلام لأنها أساس إشكاليَّة تعطي مكانا واسعا للنبي وتصنّف الإسلام كدين حرب (33).
إنَّ الخوف من قوَّة الإسلام المحرّكة أبرز مفهوم الدين السياسي كبنية تاريخيَّة في أصول الإسلام، يريد أن يقيم حكما لهذا العالم بوسائل هذا العالم (34)، فالسبب الكامن وراء العداء الغربي للإسلام هو أنه يشكِّل قوَّة صامدة تتحدَّى الغرب حيث أخفق المشروع الصليبي في القرنيين ( 12/13) بل تمكَّن العثمانيّون من جلب الإسلام إلى عتبة أوروبا، فخوف الغربيين أفقدهم القدرة على أن يكونوا عقلانيين أو موضوعيّين حيال الدين الإسلامي.
فقاموا بنسج صورة عدائيَّة ومشوَّهة عن الإسلام. وهذا ما يعكس مخاوفهم الدفينة منه، وأصبح اسم النبي محمدصلى الله عليه وسلم الذي حرف إلى ماهوند (mahound) وصوّر على أنه عدو الحضارة الغربيَّة. وأصبحت هذه الصورة العدائيَّة للإسلام إحدى المثل المتوارثة في أوروبا (35). إنَّ معظم الغربيّين يجهلون التراث الإسلامي وهذا ما فسح المجال أمام انتشار الاتّهامات المضلِّلة، وغير الموضوعيَّة ويكشف عن موقف الساسة ورجال الدين والفكر المعادية والظالمة للإسلام والمسلمين، ورسَّخ نوازع عصبيَّة تقليديَّة، قديمة، وتعتبر رسوم الكاريكاتور والإعلانات والمقالات الهجائيَّة نابعة أصلا من مخاوف قديمة وعميقة الجذور عن مؤامرة إسلاميَّة للاستيلاء على العالم (36)، ومن خلال هذه النظرة النمطيَّة الأحاديَّة يلقون اللوم على الدين في كل اضطراب أو حدث يحدث في المجتمعات الإسلاميَّة. وطبقا للنمطيَّة الأحاديَّة فإن الافتراض الشائع في الغرب اختزال الإسلام في المذهب الوهابي، باعتبار أن اتباع المذهب يقولون بأنهم يرجعون إلى أصول الدين ويتعلَّق الأمر بمذهب فقهي متفرّع عن مذهب الإمام أحمدبن حنبل ( ت 241ه) وقد ظهر في الجزيرة العربيَّة على يد محمد بن عبد الوهاب ( ت 1206ه) وهو عالم سني مجدّد منكر للبدع، والمذهب جاء استجابة لظروف العصر الذي برز فيه. وليس هو الإسلام بل مجرَّد اجتهاد فقهي في الشأن الديني، وأهم مسألة شغلت ذهن الشيخ بن عبد الوهاب هي مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام ومزيته الكبرى إذا ضاع دخله الكثير من الفساد، وهو يماثل المذهب الطهراني في المسيحيَّة الذي ظهر في القرن السابع في إنجلترا، وهولندا وولاية ماساتشوستس الأمريكيَّة(37). إنّ الدين يزوِّد الناس بالإيمان ليجدوا معنى الحياة وقيمتها ويغرس فيهم المثل العليا التي تمدّهم بالإلهام. وإنّما تقاس الأديان بما تودعه من القيم والحوافز، وبما تزيده من نصيب الإنسان من حريَّة الضمير وحريَّة التمييز. وقد جعلت الدعوة المحمديَّة من حريَّة الضمير جهادا دائما وعملا دائبا يتقدَّم فيه الإنسان شوطا بعد شوط ليسمو في مراتب التجربة الروحيَّة والتبصُّر بحقيقة الوجود.
فالعقل والحواس جميعها مسؤولة في تحمّل تبعة البحث والتمحيص والاستقراء والاختيار على منهج النبوَّة لسداد حركة الحياة. فلا غرو أن ينصبّ اهتمام الباحثين والكتاب على دراسة سيرة النبي وأحوال عصره، وقراءة مضامين الدعوة وتعاليم الرسالة من زوايا متعدِّدة.
إنَّ الاتّجاهات الحديثة في الأدبيّات الغربيَّة غالبا ما تسقط مفاهيمها الخاصَّة على التجارب الحضاريَّة الكبرى، من خلال إنتاج خطاب مؤسّس على التفوّق والهيمنة، يحتكر الحقيقة والمعرفة، ويوظّف مناهج البحث لخدمة أهدافه الإيديولوجيَّة والسياسيَّة. فالكتابات التي أنجزت حول سيرة النبي وتاريخ الإسلام تندرج ضمن جدل التاريخ والفكر الذي تحكمه سلطة الإيديولوجيَّة الغربيَّة الحديثة.
إنَّ القدرة في تمثُّل الإحساس بالتاريخ مجال تتباين فيه الأمم، فهناك الجماعة التي تعيش في ماضيها ومستقبلها، وتدور حياتها على التخليد والتأبيد ولتسجِّل سير رجالها على الجدران وفي الأوراق والتماثيل، فيكون إحاسسها بالتاريخ عميق ودقيق، ففي أحضان التاريخ نشأت السيرة واتَّخذت سمتا واضحا، فكانت تسجيلا للأعمال والأحداث والحروب.
ويذهب توينبي إلى أن اعترافات أوغسطينوروسو وكل ما يتَّصل بالسير والتراجم لا يدخل في دائرة التاريخ وإن كانت تحقّق غاية تاريخيَّة من الناحية العمليَّة. وقد انتشر أدب السيرة في العصور الوسطى المسيحيَّة. أمّا علماء الإسلام فإن السيرة تندرج ضمن علم الإخبار والتاريخ. ويعتبر ابن خلدون أن الغاية من التاريخ القدوة الحسنة وتجنُّب المزالق والاعتبار بالأخطاء (38).
وقد بدأ المسلمون بكتابة سيرة الرسول عليه السلام كأساس يجعل من الكتابة التاريخيَّة القائمة على منهج الإسناد عليها بوقائع الاجتماع وما تقتضيه “طبائع العمران” فمهمَّة علم التاريخ أن يفسح مجالا للعقل ليفهم الماضي والحاضر، وبتبنّى العوامل الفاعلة فيهما واستخلاص العبرة من الماضي التي ستمكّننا من العمل بصورة أحسن من أجل الحاضر والمستقبل، عملا منظّما ينطلق من حقائق الواقع ليدخل في حسابه ” الممكن والممتنع” (39).
فتصحيح الأخبار شرط في توسُّل الحقُ ومعرفة الحقيقة، واستخلاص الدروس من الوقائع والأحداث، وثمرة العلم تدرك من غايته ومقصده، وطريقته وما يحقّقه من معارف نافعة. ويجب أن نميّز بين السيرة كعلم يؤرِّخ لأحوال النبي ويقدِّم لنا فائدة الاقتداء والهداية، وفنّ السيرة التي يقوم على نسج روايات وقصص وأساطير حول أشخاص ووقائع وأحداث يمتزج فيها الخيال بالواقع. فتكون أقرب إلى الفنّ القصصي والسيرة الفنيَّة (the art of biographie) ليس فيها من حياة الشخص المترجم أو تجاربه الإنسانيَّة إلا القليل فإذا سيطرت عليها العاطفة عصفت بما فيها من صدق، وأفسدت الأساس الذي تعتمد عليه السيرة وهو تأثير الشخصيَّة في الأحداث، والتجارب الإنسانيَّة(40).
فالسير الأدبيَّة تهيّئ الجو القصصي على مثال ما في القصص كما هي الحال عند ” أميل لودفيج ((E.ludwig في بسمارك ونابليون والمسيح، يعتمد على نجوى الذات ووصف الحركات النفسيَّة (حيث تقلّ لديه المصادر والوثائق) بحرّيَّة أعظم ممّا تسوّغه كثيرة المصادر عند وجودها.
وذكر ” لودفيج” في كتابه عن ” نابليون ” أنه وجّه همّه إلى كل ما يتعلَّق بشخص نابليون النفسيَّة مثل خلافه مع زوجته وإخوته وحالات اكتئابه، وغضبه وشرهه وخيره مع الصديق والعدو (41).
ومن الكتَّاب من يمزج بين الأدب القصصي والسرد التاريخي، كما فعل ” أندري موروا (andremaurois) (1967/1828 في سيرة شللي shelley قصَّة محكمة النسيج والتشخيص، وهذا لا يتيسر إلا إذا كان المترجم له شخصا ذا أحداث وأعاصير تتنازع حياته مثل شللي. إنَّ حياة شللي كما صوّرها موروا مكتوبة بشكل تخيل إلى القارئ إنها من اختراع الكاتب، رغم أنها مستقصاة من الرسائل والوثائق.
يقول في وصف حال ” شيللي” : ” أغلق شللي كتابه وتمدَّد على العشب المشمس المنمَّق بالأزهار وأخذ يتفكَّر في بؤس الإنسان. ومن بنايات المدرسة وراءه تأدَّت إليه همسات وأصوات غبيَّة تضطرب، وتتموَّج على صفحة البر والماء، ولكنه في جلسته أمعن ” النظرة الساخرة التي تنفذ إلى نفسه ، فانهمرت دموع الغلام وشدَّ بيديه وأقسم بأنه سيكون عادلا حكيما حرّا وأنه سينذر حياته كلها لعبادة الجمال (42).
هل حدث هذا كله حقا؟ أم أن هذا كله من خيال الكاتب الأديب؟ لا جدال أن هذا الأسلوب ينتجه الفن القصصي، أقتضته الروح القصصيَّة.
أمَّا التدوين التاريخي أو السرد التاريخي فيعتمد على المنهج التاريخي في عمليَّة القصّ والتحليل الدقيقين للماضي لإعادة بنائه من واقع الحقائق المستخلصة من تدوين التاريخ بهدف استنباط العبرة من كل الأحداث.
لقد تأثَّرت كتابة السير التاريخيَّة والأدبيَّة بالدراسات النقديَّة للنصوص والنظريات النفسيَّة والحديث عن الأشخاص تأريخا لآرائهم ودورهم السياسي، وعلاقاتهم الاجتماعيَّة. وأصبح هذا الاتجاه الطابع الذي يحيل على القصة التاريخيَّة، ومن مخاطر “المنهج التاريخي” الاستقراء الناقص والأحكام الجازمة والتعميم العلمي.
لقد تأثَّرت كتابة السير التاريخيَّة والأدبيَّة بالدراسات النقديَّة للنصوص والنظريات النفسيَّة والحديث عن الأشخاص تأريخا لآرائهم ودورهم السياسي، وعلاقاتهم الاجتماعيَّة. وأصبح هذا الاتجاه الطابع الذي يحيل على القصة التاريخيَّة، ومن مخاطر “المنهج التاريخي” الاستقراء الناقص والأحكام الجازمة والتعميم العلمي.
فالاستقراء الناقص يؤدِّي إلى الخطأ في الحكم، ومن الاستقراء الناقص الاعتماد على الحوادث البارزة والظواهر الفذَّة التي لا تمثِّل سير الحياة الطبيعي، فما نراه أكثر دلالة قد لا يكون كذلك في ذاته، بل ربما كان انجذابنا الخاصّ للإعجاب به أو الزرايَّة عليه هو علَّة ما نرى فيه من دلالة بارزة، الأسلم أن نجمع أقصى ما نستطيع الحصول عليه من الدلائل: حدثا أو نصّا أو مستندا، وإلا نصدر أحكامنا إلا بعد الانتهاء من جميع هذه الأسانيد فذلك أضمن وأكفل للصواب (43).
أمَّا الأحكام الجازمة فإنها تعود في الغالب إلى أننا لا نملك جميع مستندات الرواية، فيكون الظنّ والترجيح فيحال وجود سبب واحد للظاهرة أو الحدث أسلم من الجزم والقطع.
إنّ فهم الحوادث والتطوّرات الكبرى في التاريخ تتطلَّب إعادة النظر في النظريات التاريخيَّة. وبالرجوع إلى الأصول الحضاريَّة والدينيَّة التي شكَّلت الوعي التاريخي للمجتمعات البشريَّة وكان لها أثر كبير في تطوّر الحضارة الإنسانيَّة. ولن نميِّز الروايات التاريخيَّة من القصص إلا بدراسة نقديَّة للكتابة التاريخيَّة، تكشف لنا عن التطوّرات العامّة في تطوّر الكتابة التاريخيَّة.
والسيرة النبويَّة جزء من علم التاريخ ساهم فيها المؤرّخون قبل أن يتخصَّص فيها علماء السيرة (ابن إسحاق، والواقدي وابن سعد وابن كثير.) وتعود السيرة إلى أصلها في علم التاريخ، حيث يتحوَّل التاريخ إلى رصد للحوادث. فسيرة ابن إسحاق ( ت 151هـ) التي هذبها ابن هشام ( ت 218هـ) يوازيها مغازي الواقدي ( ت 207هـ) عند فحص الروايات نرى أنها متباينة في الأهميَّة والعنصر التاريخي أو المتن الذي يرجع بالدرجة الأولى إلى المحدثين، كما تتضمّن أخبارا مأخوذة من القصص الشعبيَّة والشعر الموضوع والإسرائيليّات في فترة ما قبل الإسلام، وكل قراءة جديَّة للسيرة لا بد أن تميِّز بين جميع هذه العناصر (44).
وعند التدقيق سنجد أن المادَّة التاريخيَّة ترجع إلى مؤرِّخين أقدم من ابن إسحاق كالزهري وهي ليست موجودة في سيرة ابن هشام، ونستطيع بدراسة المصادر المبكّرة أن نحصل على معرفة تطوّر الكتابة عن السيرة وكيف تمّ الانتقال من الأخبار التاريخيَّة إلى الأخبار التي يسيطر عليها الشعور الديني والاتّجاه نحو المبالغة التاريخيَّة بصورة قويَّة، وهكذا نستطيع قراءة للسيرة تستند إلى أصولها ومن خلال نقد تاريخي للروايات عنها (45).
فعلم التاريخ عند العرب جزء من التطوّر التاريخي العام، وصلته بعلم الحديث وبالأدب وثيقة، وتستحقّ الاهتمام. ثمَّ إن ظهور الإسلام وتكوين الإمبراطوريَّة، والتصادم بين الآراء والتيّارات الحضاريَّة، وتطوّر الأمة، وخبراتها، وهذه كلها حيويَّة لفهم التطوّرات الأولى للكتابة التاريخيَّة. لقد ظهر علم التاريخ في صدر الإسلام، إلا أنَّ الاستمرار الثقافي يوجب الالتفات إلى التأثير في تراث ما قبل الإسلام (46).
إنَّ الكتابات والنقوش التي ظهرت في مدَّة تتراوح تواريخها بين القرن الثامن قبل الميلاد والقرن السابع الميلادي، تشير إلى وجود مماليك في جنوب الجزيرة العربيَّة، تيوقراطيَّة يحكمها أمير كاهن، ثم تتدرَّج إلى ملكيَّة دنيويَّة تسود فيها بعض الأسر من المحاربين والملاكين. وتسجّل تلك الكتابات أعمال الري وإنشاء الأسوار، والتحصينات والحملات العسكريَّة. مع بعض الكتابات الدينيَّة، كما تخلِّد للأعمال المهمَّة، مما يوحي بوجود الفكرة التاريخيَّة. إن الروايات الموجودة في المصادر الأولى ذات طابع أسطوري وهي مزيج من القصص الشعبي والإسرائليّات.
وحاولوا تمجيد عرب اليمن، بأن ينسبوا إليهم أمجادا في الحرب والصنعة، واللغة والأدب وحتى في الدين ليدللوا على أنهم سبقوا عرب الشمال في أمجادهم، أمّا في شمال الجزيرة فقد كانت لدى المناذرة” كتب” تحوي أخبار عرب الحيرة وأنسابهم وسير آمرائهم، وكانت هذه محفوظة في كنائس الحيرة، كما أنهم كانوا يعرفون الكثير من الأخبار الفارسيَّة، وقد استفاد بعض المؤرِّخين فيما بعد من هذه الكتب والأخبار في تآليفهم (47).
وكانت لدى عرب الشمال روايات شفويَّة، وقصص عن آلهتهم ومآثرهم وغزواتهم ومعاركهم ( الأيام) وحول أنسابهم. وقصص “الأيام” مجموعة روايات شفويَّة قبليَّة ينقصها التآلف والسبك وليست فيها فكرة تاريخيَّة وأهمّيتها أن أسلوبها أثَّر في بداية الكتابة التاريخيَّة في صدر الإسلام.
وبظهور الإسلام بدأت نظريات جديدة وجاء القرآن بنظرة كونيَّة للتاريخ تتمثَّل في توالي النبوات والنبي صلى الله عله وسلم خاتم الأنبياء، ونصّ القرآن أن الرسالة موحى بها وأنَّ السيرة مثل للمسلمين يقتدون به (48). وكان التقويم الهجري عنصرا حيويا في نشأة الفكرة التاريخيَّة.
ومن المنهجيَّة القرآنيَّة استمدَّت الدراسات التاريخيَّة أسلوبها متأثِّرة بمنهجيَّة علماء الحديث، فعلم الحديث هو علم نقل الأخبار وتداولها بين الأجيال من السلف إلى الخلف، والهدف من هذا العلم هو حفظ الخبر ونقله ، وما حديث النبي إلا الخبر المرفوع إليه. والرواية أيضا إخبار.
من المنهجيَّة القرآنيَّة استمدَّت الدراسات التاريخيَّة أسلوبها متأثِّرة بمنهجيَّة علماء الحديث، فعلم الحديث هو علم نقل الأخبار وتداولها بين الأجيال من السلف إلى الخلف، والهدف من هذا العلم هو حفظ الخبر ونقله ، وما حديث النبي إلا الخبر المرفوع إليه. والرواية أيضا إخبار.
وقد بدأت دراسة سيرة الرسول ( أو المغازي) في المدينة ضمن دراسة الحديث، ولا شكّ بأن منهج المحدثين منهج تاريخي نقدي وقواعدهم أصبحت القواعد للإثبات التاريخي، فاستفاد منه علماء التاريخ وغيرهم في إعادة كتابة التاريخ وتدوين الأخبار، وفي نقد المروي وموازنة الروايات ومقارنتها (49).
فالسيرة تاريخ وعلم يشمل الماضي والحاضر والمستقبل، يهتمّ بأقوال النبي وأفعاله للاهتداء بها والاعتماد عليها في التشريع والتنظيم فالوعي بالسيرة وعي بالتاريخ ووعي بتعاليم الرسالة باعتبارها وعاء الفعل الحضاري وميدان في التنزيل القيِّم على الواقع.
-5-
السيرة ليست مجرّد سرد أحداث وقعت في الماضي، ولكنها نشاط معرفي وتدوين للحياة البشريَّة وما يحكمها من عوامل تربط الماضي بالحاضر، وتخرج الجديد من القديم بهم العصر وفعل الزمن.
ليس الغرض من قراءة السيرة سرد لما قام به القدماء وعرض لإنجازاتهم واجتهاداتهم في عصرهم كما أن اللغة الأدبيَّة والشعريَّة لا تكفي لأنها تجديد في الأسلوب وليس في التصوّرات، كما تفعل بعض السير الأدبيَّة المعاصرة بالرغم من شيوع مناهج النقد التاريخي، سواء تعلَّق الأمر بعلم الرواية عند القدماء أو بالنقد التاريخي للكتب المقدَّسة عند المحدثين (51).
ومنهج العلوم الاجتماعيَّة واللسانيَّة لتحليل الخطاب بقصد التعرّف على مكوّناته الفكريَّة ويطبّق على جميع أنواع النصوص، فالصحّة التاريخيَّة أهم للنص الديني. من إصدار الأحكام العامّة أو أحكام مسبقة تفرض على النص من خارج النص، وليس من داخله فتحليل الخطاب وسيلة وغاية الموضوع المتعدِّد الجوانب؛ من تحليل الألفاظ إلى تحليل المعاني، ثمّ الانتقال من عالم الألفاظ إلى عالم المعاني، ومن عالم المعاني إلى عالم الأشياء،وحركة المعاني والأفكار في التاريخ.
ومن ثمّ سيتحوّل منهج تحليل المضمون من مجرّد تحليل للأشكال اللغويَّة إلى وصف للمضمون على مستوى المعاني والأشياء والبواعث وحركة التاريخ، فالنصّ تجربة حيَّة بعد التدوين والتجربة نصّ حيّ قبل التدوين (52).
السيرة تاريخ إخباري حيّ شعوري يتمثّله الناس عبر التراث الحي دون حاجة إلى تأويل أو تنظيرأو توجيه فكري، وأهميَّة السيرة أنها تذهب من الواقع إلى الدلالة، ومن الحوادث إلى مغازيها، فالحوادث حاملة للمعاني وهي ليست المقصودة من التاريخ، فالسيرة تحقّق للدلالة في التاريخ وللمعاني في الأشخاص وللحقائق في الواقع.
وليست الأحداث والوقائع التي تخطئ روايتها أو تصيب، لأن الرواية مجرد رؤية للحدث، وليت الحدث نفسه فالخطأ بمعنى عدم المطابقة هو خطأ في تصوّر الحقيقة التاريخيَّة، التي لا تعرف إلا من خلال الرواية، ففي الرواية تختلط الرؤية الذاتيَّة بالواقع التاريخي (53).
والصعوبة في كتابة السيرة تكمن في الجمع بين الوقائع والدلالات، وبين ما هو معروف وما يدعو إلى التأمّل والقراءة والتأويل، فسيرة النبي وصف للتجارب الإنسانيَّة فالأشخاص والوقائع ما هي إلا حوامل للمعاني وليست المعاني ذاتها (54)، وعلم السيرة يدور حول محورين ” الرسول والرسالة” أو تجليات النبوَّة في التاريخ.
وقد تناولت كتب السيرة جوانب تفصيليَّة من حياة الرسول ( أخلاقه وشمائله ومغازيه أمّا محور الرسالة فيتناول نشأتها وتطوّرها واكتمالها وانتشارها.)
وتتناول السيرة دلائل النبوَّة ومنهج الرسول في القيادة والرحمة والإيمان ثم فضل الصحابة وطاعتهم وجهادهم في الدعوة للإسلام وفضل الهجرة والتربية وفقا لمنهج الأنبياء من أجل الرقي في السلوك والتفكير التأمّلي وصفاء العقيدة. والمضامين الاجتماعيَّة والسياسيَّة في الإسلام والانتقال من الرواية إلى الدراية. ووظيفة الرسول تبصير العباد ورفع الحرج ومنع التعسّف والظلم.
وتتطرَّق السيرة إلى التعلّق بالرسول وحبّه الحكمة والعلم والذوق الرفيع والالتزام بهديه، وعلم السيرة هو تشخيص للسنن القوليَّة والفعليَّة للرسول المبلِّغ للرسالة الهادفة إلى تغيير الاجتماع البشري في التاريخ (55).
فقراءة السيرة تندرج ضمن علم التاريخ باعتباره إخبار للاعتبار والاقتداء بسيرة النبي عليه السلام، إذ الاعتبار بالقدوة هو رؤية ومعايشة لهذه القدوة، والتأسِّي بفضائلها وكمالاتها.
وخلاصة الرأي أنَّ السيرة مزيج من التاريخ والأخلاق، بلغة الأدب وروح الإيمان، وخطاب إلى عالم يتهيأ للتبديل والهدم ثم للبناء. ولن يكون شيئا مذكورا في التاريخ ، إذا حرم العلم والثروة والحريَّة والمكانة السياسيَّة، وهي عدَّة الأمم في تنازع البقاء.
ودرس السيرة أن المسلم يعتصم بقوة الإيمان. وهذه العصمة هي سر العقيدة الوافيَّة تلوذ به الأمّة حين تخذلها كل عصمة، وهي قيمة حقيقيَّة لا تفرط فيها أمّة متى وجدتها، ولا يكون التفريط فيها إلا علامة على الوهن والانحلال (56). وقد واجه العالم الإسلامي في العصر الحديث صدمة الحداثة والاستعمار ويتبيَّن من رّد الفعل على الصدمة الماثلة أمام كل نظر، المتجدِّدة في كل جهة،أن العالم الإسلامي لم يزل بنية حيَّة تستجيب للمؤثِّرات وتستبقي منها ما صلح.
وعلامة البنية الحيَّة، أن تستجيب للمؤثرات، وأن تعالجها بما يصلح ويجدي، وأن لا تستبقي إلا ما هو جدير بالبقاء. وغني عن البيان أن الفضائل المثلى التي يحضّ عليها القرآن الكريم هي الفضائل التي ينشدها المسلم وكل إنسان يتطلّع إلى الكمال ويروِّض نفسه على الأفضل من الخصال ومن الأفعال على منهاج النبوة الذي يهتدي به الأحياء في معارج الرفعة والارتقاء. والتعاون في أمانة الحكم وأمانة الإصلاح والصلاح، والحقّ للجماعة البشريَّة بين التشاور والتعاون والارشاد والاسترشاد.
الهوامش
1.محمد الغزالي : فقه السيرة، دار الشروق ، ط 2-2014، ص 6.
- 2. الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، السيرة لنبويَّة قصة المولد ، تحقيق ، د. نجم الدين خلف الله، دار السلام 1-2016، ص24.
- 3. عباس محمود العقاد مطلع النور، وطوالع البعثة النبويَّة كتاب الهلاك، 1955- ص15.
- 4.السيد سليمان الندوي، الرسالة المحمديَّة ، الدار السعوديَّة للنشر والتوزيع، ط 1-1980، ص37.
- 5. العقاد ، عبقريَّة محمد ، دار الهلال، بيروت، 1967،ص 11.
- 6. محمد الغزالي، فقه السيرة ، مصدر سابق، ص 8.
- 7. الطاهر بن عاشور، السيرة قصة المولد، ص21.
- 8.العقاد مايقال عن الإسلام كتاب الهلال 1966 ص109
- 9. د/ عماد الدين خليل، المستشرقون والسيرة النبويَّة، دار ابن كثير، 2005،ص 8.
- 10.أحمد بابانا العلوي: الرسول في مرآة الفكر الاستشراقي، دار ابي رقراق، ط1، 2016، ص12.
- 11. ميريشياإلياد:البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة د/ سعود المولى ، مركز دراسات الوحدة العربيَّة/ ط-1/2007/ص 42.
- 12.فرنشيسكوكبرييلي: محمد والفتوحات الإسلاميَّة ترجمة د/ عبد الجبار ناجي، المركز الاكاديمي للأبحاث، .ط1/2011، ص144.
- 13.عماد الدين خليل، المستشرقون والسيرة النبويَّة ص 19.
- 14.هيجل، العقل والتاريخ ، ترجمة أمام عبد الفتاح أمام ، دار التنوير ، ط3-2007.
- 15.=يرى هيجل ان من شأن الفهم أن يدرك الأشياء ( باطنا وظاهرا) والفهم يصبح وعيا بالوجود الموضوعي – كما يرى أن الوقائع هي معطى تخضع لمعايير العقل ، فالانسان يدرك الواقع التاريخي وفقا لمتطلبات تفكيره. وينتهي بأن التاريخ الحقيقي تبدأ مع ظهور الوعي لدى الإنسان، وأن العقل الموصل بالحريَّة هو الذي يحكم حركة التاريخ. ( تراجع الصفحات من 30-54).
- 16.عماد الدين خليل، مصدر سابق، ص6.
- 17.نفس المصدر ، ص11.
- 18.د. يمني طريف الخولي، نحو منهجيَّة علميَّة إسلاميَّة توطين العلم في ثقافتنا – ابداع ط1/2017- ص 44. انظر أيضا حول المنهجيَّة كتاب محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجيَّة القرآن المعرفيَّة ، دار الهادي ط 1، 2003، ص34-35.
- 19.هرنسو علم التاريخ ، ترجمة عبد الحميد العبادي، دار الحداثة ط2/1982/ ص5.
20. لويسجونتشك كيف نفهم التاريخ.
.مدخل إلى تطبيق المنهج التاريخية ترجمة عايدة سليمان وعارف مصطفى ، دار الكاتب العربي، بيروت 1966، ص42-62.
- 20 حمو النقاري ، روح المنهج ، منشورات ابداع، ط1/2018، ص3.
- 21 ه-م جيب، الاتجاهات الحديثة في الإسلام ،ترجمة مجموعة من الأساتذة المكتبة التجاريَّة، بيروت ط 1/1961، ص 7.
- 22 أبو الحسن علي الحسني الندوي، الإسلام والغرب مؤسسة الرسالة / ط 3/1994، ص 17.
- 23 محمد أسد الإسلام، على مفترق الطرق ، ترجمة الدكتور عمر فروخ، دار العلم للملايين ط1/1987، ص 37-38.ذ
- المرجع السابق، ص 43.
- 24 نفس المرجع ، ص 45.
- 25 نفس المرجع، ص 48.
- 26 نفس المرجع، ص 50.
- 27 نفس المرجع، ص 53-54.
- 28 هشام جعيط، أوروبا والإسلام، صدام الثقافة والحداثة، دار الطليعة بيروت، 2007، ص 11-12.
- 29 المرجع السابق ، ص 13.
- 30 نفس المرجع، ص 15.
- 31 نفس المرجع ، ص 33
- 32 نفس المرجع، ص 40.
- 33 نفس المرجع، ص 44-45
- 34 نفس المرجع، ص 85
- 35 كرين أرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب محاولة جديدة لفهم الإسلام ، ترجمة محمد الجوارا، دار الحصاد، دمشق، ط2، 2002، ص13-14.
- 36 المرجع السابق، ص 15.
- 37 نفس المرجع، ص 16. بالنسبة لترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يراجع كتاب أحمد أمين : زعماء الإصلاح في العصر الحديث، المكتبة العصريَّة 2011.
- 38 احسان عباس، فن السيرة ، دار الشروق، عمان، ط -1996، ص 11-13.
- 39 محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، العصبيَّة والدولة معالم نظريَّة خلدونيَّة في التاريخ الإسلامي ، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 8، ص 85.
- 40 إحسان عباس، فن السيرة ، ص36.
- 41 المرجع السابق، ص 47.
- 42 المرجع السابق، ص 48
- 43 سيد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه ، دار الشروق ، ط 1980، ص 146.
- 44 د/ عبد العزيز الدورى ، نشأة علم التاريخ ، ط 2-2007، ص 10.
- 45 المصدر السابق، ص 16.
- 46 المصدر السابق، ص 13.
- 47 المصدر السابق، ص 14-15.
- 48 المصدر السابق، ص 17.
- 49 الدكتور همام عبد الرحيم سعيد، كتاب الأمة ، العدد 16، الفكر المنهجي عند المحدثين، طبعة 1، 50 1408هـ/1987م ، ص12.
- 51 نشأة علم التاريخ عند العرب، ص 18.
- 52 حسن حنفي ، علوم السيرة من الرسول إلى الرسالة ، مكتبة مدبولي 2013، ص9.
- 53 حسن حنفي، حصار الزمن الماضي والمستقبل، مركز الكتاب للنشر، الطبعة الأولى، 2006، ص10-11.
- علوم السيرة ، ص 26-27.
- 54 نفس المصدر ، ص 27.
- 55 نفس المصدر، ص 557-558.
- 56 العقاد، الإسلام في القرن العشرين، دار التقوي 2016، ص127.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
مقال جدير بالقراءة خصوصا وأنه تطرق للعديد من المستشرقين الذين لهم حقد على الإسلام والمسلمين، كما أن تطرف لقضية المسلمون والنية النبوية ، ” لأمن المسلم يعتصم بقوة الإيمان “