أدبالتنويريسلايدر

الأدب ينتحر بتكاثره المجنون

        إنَّ دارسي الأدب يعلمون حقّ العلم أنَّ هناك شيئا اسمه رداءة الأدب، وتبرير هذا الموقف ملخصه مؤلّفات عديدة، أدلها الإشارات التي أشار إليها عميد الأدب، طه حسين، في مختلف كتبه؛ إذ تعود رداءةُ الأدبِ في نظره إلى سببين، الأول متعلَّق بدور النشر، المنساقة أمام الربح بدل الجودة، وطبعها للأعمال الأدبيَّة مهما كانت، دون تحكيمها إلى معيار موضوعي، والأمر الثاني، مرتبط بالأديب أو الكاتب بعينه، الذي يكتب وكأنَّه يحلم بالكتابة، والقارئ الذي يقرأ قليلا وكأنه يتنفر من القراءة، وحدَّدتُ في مقالٍ كتبته عن كتاب مرايا القراءة لخالد بلقاسم، معنى كون الواحد قارئا وكاتبا، أو بالأحرى انتسابه إلى فعلي القراءة والكتابة.

نعيش اليوم موجة خياليَّة في عدد الكتب الأدبيَّة التي تصدر كل يوم، وكل سنة، والإشكال ليس مرتبطا بالتأليف، من حيث القلّةُ والكثرة، وإنما متعلِّق بطبيعته، شكلا ومضمونا، وأخصِّص القول ههنا على الجانب الإبداعي. كثرةُ الإصدارات شيء محمود ومقبول، نحبّه ونفتخر به، لا نجعله أمرا سلبيّا، ولا نحسد عليه أحدا، ولكن حينما نأتي لقراءة هذه الإصدارات، فإننا نشعر بخيبة أمل كبيرة وفظيعة، فلمجرد قراءة الصفحة الأولى تحسّ بجودة ورداءة ما تقرأ، ولهذا السبب وسمت المقالة بعنوان: “الأدب ينتحر بتكاثره المجنون”، وهي عبارة أخذتها واستعرتها بالحرف من رواية الستارة لميلان كونديرا، ويبدو العنوان بالنسبة إلى القارئ مجازيّا، ولا غرابة أنْ يستفسر أيضا عن مدلول العبارة ومقصدها، والإجابة عن مطلبه ستكون واضحة ومتعينة، بالتحقُّق من العبارة في علاقتها بالأعمال السرديَّة والشعريَّة التي نقرأها اليوم.

 

نعيش اليوم موجة خياليَّة في عدد الكتب الأدبيَّة التي تصدر كل يوم، وكل سنة، والإشكال ليس مرتبطا بالتأليف، من حيث القلّةُ والكثرة، وإنما متعلِّق بطبيعته، شكلا ومضمونا.

إنَّ العنوان ذو دِلالة عميقة، وشافية كافية ووافية، عميقة؛ لأنها تحمل مداليل متعددة، تبلّغ رسالةً مشفرة لكل كاتب يسعى وراء الكثرة في التأليف، ظنّا منه أنه يكتب كتبا كثيرة، وأدبا جيّدا، فتغدو لديه الكتابة في نظره، شيئا مألوفا وعاديا، يمكن أن يؤلِّف بها مئة كتاب في الشهر الواحد، ونقرّ وإن كنَّا بعيدين عن مستوى الإقرار، أنَّ الكتابة دائما ما تتعالى عن الأديب، ولو كان محترفا وممتهنا للكتابة، أو شهد له لفيف من الكُتّاب بالبراعة والحذاقة في صنيعه الكتابي، ولدينا نماذج كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، وقد يعرف منها قارئ المقالة نماذج معينة، ويعود سبب ظنّهم هذا الظن السيء، إلى الشهرة، نظرا لكونها تحجب عن الأديب رداءة أدبه، فَرسمُ الكاتب لاسمه عند عامَّة الناس، واكتسابه للشهرة، يعمي بصيرة القارئ العادي، ولا أقصد القارئ العميق، لأنّ القراء العاديّين، يفتخرون بكل كتاب قرأوه ويقرأونه لكاتب مشهور،  ويبدأون بسرد عبارات عديدة عن جودة ما كتبه، والحقيقة أن لديه أدبا رديئا وجيدا، ولكن تعاميهم وراء مزق الشهرة وزعيقها، قادهم نحو اعتبار جميع كتبه جيدة، وكما قال كونديرا في رواية البطء: “إنَّ المغفلين تماما وحدهم من يقبلون أن يجُرّوا وراءهم، بمحض إرادتهم زعيق الشهرة”، معناه يبتغون أن يتبعوا من قبل عامَّة الناس، والمشاهير في نظره أيضا، أصبحوا شبيهين بالمؤسَّسات العموميَّة، مثل التأمين الصحي والضمان الاجتماعي، وغدا الكاتب المشهور بهذا مؤسَّسة عموميَّة، تحجب عنه شهرته رداءة أدبه، وتعلمون أنه إذا تكلّم يوما ما، في يوم ثقافي نُظم من أجل تكريمه بما كتب وألّف، فإن مختلف الكلمات التي تقال عنه  أو كُتِبت عن كتبه، تكون كاذبة ولا علَّة لاعتبارها موضوعيَّة، ولو كان الناقد الذي كتب الكلمة غير راض بكتبه، فسيضطر لا محالة إلى مدحه وشكره والاعتزاز بأدبه، ومن ثمة إعطاء شرعيَّة مزيفة ومصداقيَّة كاذبة، بجودة جميع كتابات الأديب الــمُكَرم، وعليه يصبح القارئ بلا بصيرة لمعرفة رداءة أدبه، الأمر الذي يحقِّق لدينا صحة فكرة انتحار الأدب.

والعبارة شافية وكافية ووافية، لأن قارئها يفهم منها، أن الأدب في خطر بلغة تودورف، وأنه ليس بخير بلغة العامَّة، وبها يمكن إعادة النظر في الأدب، بحثا عن أسباب انتحاره المجازي، والتي تعود في نظر ميلان إلى سبب واحد، هو التكاثر المجنون، وإن التكاثر في الأصل شيء غير محمود في جميع مجالات الحياة، لأنه لصيق بصفة الإلهاء، إن الناس يلهيهم التكاثر حتى يزوروا المقابر، ليعودوا إلى العبادة والخوف من الله، وإن القرَّاء يعميهم التكاثر عن عدم معرفة كاتب جيِّد يقرأون له، فينساقون وراء قراءة كل شيء، ويجعلهم قبس الكتابة قادرين على اختيار المقروء الحقيق بالقراءة، إنَّ التكاثر المجنون في الأدب يجعلنا نقف على عتبة لا متناهية من الرداءة، ومن ثمّة انتحار الأدب.

ينتحر الأدب معناه أن ينتهي خلوده ويضيع مجده، والخلود في الأدب مرتبط بسمة لا يتَّسم بها إلا الأدب الجيِّد، والقلَّة القليلة التي ينتسب أدبها إلى الخلود، أو إلى المجد القرائي؛ لأن أدبهم يمتاز بصفة القبس القرائي والكتابي، تغدو كتاباتهم مثيرة وشائقة، تستهوي القارئ دائما، تبدو كما لو أنها قادمة من المستقبل وساكنة فيه. ووظف الكاتب فعل ينتحر دون فعل انتحر، كون أن مسألة انتحار الأدب دائمة ومتجدِّدة، بفعل استمرار تكاثر الأدب.

لم ندرك حينما بدأنا القراءة طريقة التمييز بين الأعمال الأدبيَّة الحقيقيَّة بأن تسمَّى أدبا، أو حقيق بها أن تنتسب إلى الأدب الجيِّد، أما الآن، فإننا مدركون إدراكا جيدا لأدب جدير بالقراءة المداومة، وبالمصاحبة المتأنيَّة، من أجل فهمه وتأويله، وسبر أغواره وملامسة أعماقه الدلاليَّة.

 

ينتحر الأدب معناه أن ينتهي خلوده ويضيع مجده، والخلود في الأدب مرتبط بسمة لا يتَّسم بها إلا الأدب الجيِّد، والقلَّة القليلة التي ينتسب أدبها إلى الخلود، أو إلى المجد القرائي؛ لأن أدبهم يمتاز بصفة القبس القرائي والكتابي، تغدو كتاباتهم مثيرة وشائقة، تستهوي القارئ دائما، تبدو كما لو أنها قادمة من المستقبل وساكنة فيه. ووظف الكاتب فعل ينتحر دون فعل انتحر، كون أن مسألة انتحار الأدب دائمة ومتجدِّدة، بفعل استمرار تكاثر الأدب.

بدا أن انتحار الأدب، راجع أولا إلى دور النشر التي تقبل الكتب دون النظر فيها، وثانيا إلى الكاتب المشهور الذي يعمي بصر العامَّة بشهرته، وثالثا إلى تكاثره المجنون، وهو موضوع ورقتنا، وربما قد وفِّقنا في تبليغ المقصد منها، بإفهام القارئ كيفيَّة انتحار الأدب وسببه. ويجب عليَّ وعلى كُتّابنا أن نقرأ كثيرا، وأن نكتب قليلا تظهر فيه الجودة، بدل التكثير الكتابي الرديء، وأن ننحو  في كتاباتنا منحى يستميل القارئ ويستهويه، ونؤكِّد هذا القول بما جاء في حوار عقده طه حسين مع توفيق الحكيم وشهرزاد المتخيَّلة أنَّ طه حسين قال: “وأقرأ كثيرا لأكتب قليلا”، وهذه هي القاعدة التي ينبغي الأخذ بها والاعتزاز بها، لنسمح لأدبنا الاتِّسام بصفة القبس الكتابي المأخوذ من نهر الكتابة اللامتناهي، وأن يتَّسم أدبنا أيضا بالخلود والمجد، صفتان ملازمتان لأدب غير نزاع أما غواية الكثرة، وقلق الشهرة، وبها يكون أدبنا مفتوحا على آفاق تأويليَّة امتداديَّة، وقابلا ليكون ذا تشعبات تنفتح على خلفيَّات معرفيَّة وثقافيَّة متباينة، يجد فيها كل قارئ منزعه ومطلبه التأويلي.

ونصل إلى مخلص نهائي مفتوح، أساسه أنَّ عبارة ميلان كونديرا، جعلتنا نقف وقفة تأمليَّة لمعرفة واقع الأدب العربي المعاصر، والحقيقة أنه أدب له ما له وعليه ما عليه، وأصدق ما يمكن قوله: إن أدبنا يتناسب مع قول طه حسين، في كتابه ّ”الأدب والنقد”: “ينتج الأدباء وهم نيام، فكأنهم يحلمون بالإنتاج، ويقرأ القراء وهم نيام، فكأنهم يحلمون بالقراءة”.

الكثير من الأدباء يصدق عليهم هذا القول صدقا لا محيد عنه، يكتبون لمجرد أنهم يريدون الكتابة فقط، يظنُّون أن الكتابة ترتبط بحلم متحقّق، والأمر ليس كذلك، بل إن الكتابة تتناقض مع شيء يسمَّى الحلم، لترتبط بشيء يسمّى الشدَّة والفاجعة والحرب والألم والمواجهة، ولتسلم من هذه المسائل التي لا تنفصل عن الكتابة، يجب ألا ترتبط الكتابة عندنا بحلم نريده أن يتحقَّق. والقراء الذين يقرأون وكأنهم يحلمون بالقراءة فلا أزيد عن قولهم سوى إعادة ما قلته عن الحلم بالكتابة، وعليه، إن الأدب ينبغي أن يبقى حيّا، ليتجاوز الخطر، ويتعدَّى عتبة الانتحار، ولا نبخس في مقالتنا هاته كل الآداب، بل هناك أدب نعتزّ به أثناء قراءته، ونقول فيه ما قاله لويس خورخي بورخيس: “فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا، أما أنا فأفخر بتلك التي قرأت”.

  *كاتب مغربي


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة