كتب الأستاذ العميد ج. كروبونييه:يقول “إن القانون يشكل حدّا أدنى للأخلاق لمن لا خلق له “[1] هذا خلاصة ما جادت به علينا أدبيات الفكر القانوني في بلورة لعلاقة القانون بالأخلاق. أما المدرسة الألمانية فلم تخفي التأكيد على صرامة القاعدة القانونية التي تعتبر الأداة النظرية والمجردة لتأطير المجتمع، وهو ماعبَّر عنه الفقيه الألماني إهرينق بقوله ” القاعدة القانونية بغير جزاء نار لا تحرق ونور لا يضيء”[2]فالجزاء يبقى من أهم مميزات القانون إذ في غيابه لا يتسنى الحديث عن نظام بالمفهوم الصحيح للكلمة.
أما في مورثنا العربي الإسلامي وثقافتنا المتجذرة في التاريخ، فيمكن أن نقرأ على لسان رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ” إنما بعثت لأتمم مكارم الخلاق “.[3]
إن جدلية القانون والأخلاق لا يمكن أن تفهم إلا بناء على إنزال جملة من المفاهيم من عالمها المجرد اللامتناهي إلى الواقع الذي تتشكل فيه جملة من الروابط داخل مجتمع ذو تركيبة معقدة.
الإطار المعرفي والمنهجي للدراسة:
عادة ما يقاس تقدّم الأمم وارتقائها بمدى استجابتها لأربعة أركان أساسية متَّفق عليها عبر كل الحضارات وحتى في مجال القانون المقارن. إن هذه الأركان ونظرا لأهميتها وثباتها صمدت في وجه مساوئ العولمة.
فالحديث عن أمم متقدمة في غياب الأمن والصحة والعدل والتعليم[4] قد يعتبر من قبيل التزيد الذي يؤدي حتما إلى حوار غير مجد إن لم نقل عديم الأهمية.
ولما كان العدل أساس العمران حسب العبارة المأثورة للعلامة ابن خلدون[5] بل لما ارتبط مفهوم العدل في المنهاج المعرفي والأكاديمي بالقانون وبالسلطة، فإنه لا إصلاح للمناهج التربوية دون الأخذ بعين الاعتبار للجانب القانوني كثقافة وكممارسة داخل البرامج التعليمية.
لذلك نروم من خلال مداخلتنا المتواضعة ربط هذه المفاهيم ببعضها بهدف التأكيد على أهمية إدراج القانون ضمن البرامج التربوية خاصة وأنه يشكل حدا للأخلاق لمن لا خلق له حسب مقولة الأستاذ العميد جون كربونييه.
قد يبدو فضوليا ومثيرا للجدل الحديث عن الجانب القانوني في إطار ندوة فكرية متميزة تتناول موضوع التعليم واقعه وآفاقه ودوره في بناء الدولة المدنية ولكن أليس من دواعي الفضول أيضا أن نتناول موضوع الدولة المدنية دون أن يدلي رجل القانون بدلوه حتى من باب إيضاح بعض المفاهيم ورفع اللبس عن تداخلها والخلط الذي يشوبها.
إن مضمون البناء ينطوي على تبني منهجية ومخطط يرتكز على الشمولية والتحليل والاستنتاج:
أما عن الشمولية فتقتضي ربط المفاهيم بسياق معرفي يكون القانون أحد عناصره ومكوناته.
وفيما يتعلق بالتحليل فإنه لا مناص من تشخيص الوضع الذي يمر به التعليم في بلدنا وأهم المعوقات المعرفية التي تقف أمامه مما أدى إلى نتائج غير مرجوة وفي أحسن الحالات غير متوقعة.
وأخيرا يقوم الاستنتاج على القيام بتجربة وتقيميها في ظل دراسة مقارنة تسير في اتجاهين: مقارنة مع واقع التعليم في الماضي ومقارنته بما يحدث في التجارب المجاورة دون إغفال ربطه بالدولة المدنية.[6]
وإذا ما اعتمدنا البراغماتية في دراستنا فإننا سنقف على معوقات أخلاقية في ميدان التعليم تجعل من إقحام تدريس القانون ضمن البرامج التعليمية ضرورة لا محيد عنها إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المدنية كأسلوب حضاري للدولة وليست مجرد شعار تزدان به القوانين والدساتير.
عندما نتحدث ونتمعن في دراسة القانون عادة ما نتعرض للتعليم ضمن المفاهيم المجاورة والمفاهيم المجاورة لا يمكن فهمها إلا بالاستنجاد بمفاهيم أخرى تقطن نفس المجال الفكري ولعل أهمها مفهوم الأخلاق.[7]
إن جدلية القانون والأخلاق ستظل مطروحة مثل سؤال مفهوم الحضارة[8] والتعليم هو القاطرة المؤسساتية التي تربط بينها باعتبار إجبارية التعليم وباعتبار دور المدرسة في نشر المعارف. فتدريس القانون ولو من وجهة المبادئ العامة والقواعد الأساسية قد يرتقي بمستوى التلاميذ مع توفير الإحاطة اللازمة لتجنب السقوط في ممارسات لا أخلاقية.
ولما كان القانون في جوهره جملة من القواعد التي تهدف إلى تنظيم المجتمع وحماية الأفراد من بعضهم البعض فإنه لا جدال في أهمية إدراجه ضمن المناهج التربوية حتى نبني شخصية لا تقتصر على المطالبة بالحقوق بل منسجمة مع فكرة الواجب.
إن كل دراسة يراد لها النجاح لا بد أن تنطلق من الواقع لتعود إليه، تنطلق من الواقع عند التشخيص وتحديد الأولويات لتعود إليه بحلول ناجعة تقطع مع ما فسد لتبني ما يصلح.
إن نظرية القانون الطبيعي[9] التي ظهرت قبل فكرة القانون الوضعي أسست معظم مفاهيمها على نظرية الحق والواجب في سياق فلسفة العقد الاجتماعي الذي يعد أساس الدولة المدنية، فلا مدنية للدولة دون التركيز على فكرة الحق والواجب والتعايش السلمي بين الأفراد الذي ينطلق من المدرسة ليعم سائر مكونات المجتمع.
قد يبدو هذا الطرح مثيرا للجدل منذ الوهلة الأولى، فالقانون بطبعه معقد ويتميز بالتجرّد إذ تعتبر الظاهرة القانونية ظاهرة ذات طابع مختلط تتكون من عناصر مختلفة بعضها واقعي والبعض الآخر مجرّد. وقد انعكس هذا الاختلاف على طبيعة الظاهرة القانونية في علاقتها بالمجتمع وبالدولة، فظهرت فكرة تعطي للقانون خاصيتين ” الأخلاقية “و”الإلزامية ومن هنا يصبح القانون قاعدة للسلوك، سلوك الفرد داخل المجموعة فهو وسيلة الضبط الاجتماعي وهذه الوسيلة تقتضي المرور بمراحل:
أولا: الاعتراف بالقواعد القانونية والالتزام بها:
تجد هذه الفكرة جذورها في نظرية العقد الاجتماعي التي بلورها الفيلسوف ج .ج . روسو في كتابه ” العقد الاجتماعي”[10] إذ يرى أن الفرد يعيش داخل المجموعة وفي نفس الوقت يستمد قوّته من تلك المجموعة. فالعقد الاجتماعي يعني ارتباط الفرد بحقوق وواجبات مردّها الشعور بالمسؤولية ومأتاه الحرية المقيدة بضوابط ولما كان الإنسان كثيرا ما يحيد عن الضوابط الاجتماعية بحكم غياب وسائل الضغط (العقوبة) كان لزما على المشرع تقييد الإرادة الإنسانية بقوانين والذي من أجله وقع التفكير في تأطير المجتمع بناء على رغبة الفرد نفسه.
ثانيا: بحكم تشعّب العلاقات الاجتماعيّة القائمة على معادلة القوى والضعيف، المؤجر والأجير، الحاكم والمحكوم كان لزاما على المشرع تنظيم هذه العلاقات من منطلق حماية الضعيف من سيطرة القوي وحماية الحاكم من تمرد المحكوم في ظل ما اصطلح على تسميته بدولة القانون والمؤسسات.
دولة القانونوالمؤسسات بين التعليم وتدخل القانون[11] :
لم يكن من الهيِّن التسليم بحقيقة جدلية القانون والمجتمع إلا بعد أن أحسَّ الإنسان بحاجته لتدخُّل جهاز يلعب دور المؤطر والمعدل للعلاقات الاجتماعية. فالإنسان قد لا ينشأ على هذه المبادئ التي قوامها الأساسي نظرية الحق والواجب وهدفها تكريس الثقافة القانونية.
نظرية الحق والواجب في المناهج التعليمية: المدرسة انموذجا:
في الحقيقة قد يجد القانون ضالته في رحاب الفضاء المدرسي، فهدف القانون هو الانتشار في الوعي الجماعي والتموقع ضمن العلوم الإنسانية. فمفهوم دولة القانون والمؤسسات يعني خضوع الكل لقواعد القانون باعتبار سلطان القانون أهم معيار لخضوع إرادة الجماعة وإرادة الفرد على حدِّ السواء. وبناء على هذه الفرضية لا يمكن الحديث عن دولة القانون والمؤسسات دون التطرق إلى مؤسسة التعليم باعتبارها المكان الطبيعي لتلقي المعارف وبناء شخصية ” الإنسان التلميذ “.
إدراج تدريس القانون ضمن المناهج التعليمية:
نظرا لأهمية المرحلة العمرية للإنسان أثناء فترة الدراسة فإن ما يحصل عليه من معارف في تلك الفترة قد يصاحبه طوال حياته على الرغم من صعوبة تلك المرحلة في حياة الإنسان ونزعته نحو رفض بعض القوالب الجاهزة، فالهدف هو تربية التلميذ على جملة من القيم التي تسير به نحو الشعور بالمسؤولية باعتباره مواطنا فعالا في المجتمع.
وفي هذا الإطار تعود فكرة الحق والواجب بامتياز في ذهن الشباب أي من منطلق اعتباره أولا وقبل كل شيء إنسان فإنه كثيرا ما يسارع إلى المطالبة بالحقوق قبل القيام بالواجب. ويكفي العودة إلى التطور الحديث لمنظومة حقوق الإنسان لنجد كل المواثيق الدولية والإعلانات العالمية تتصل بفكرة الحقوق والحريات العامة مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المؤرخ في 10 ديسمبر 1948 إذ لا نجد فكرة الواجب حاضرة إلا بين جدران المحاكم وقصور العدالة عندما يقع التعدّي على هذه الحقوق. بيد أن ضمان احترام الواجب قد يمرّ عبر المناهج التعليمية من خلال إقحام تدريس المبادئ العامة للقانون صلب البرامج التربوية.
المبادئ العامَّة للقانون:
يمكن تعريف المبادئ العامة للقانون على أنها جملة الركائز والأسس التي لا يستقيم العيش بدونها وبعبارة أدق هي تلك القواعد التي تجذرت داخل المجموعة بناء على معطيات تاريخية، حضارية، دينية…[12]
والهدف من وراء هذه المبادئ العامة هو بناء مجتمع متماسك يلتزم بجملة من القيم الأخلاقية مثل مبدأ حسن النية في المعاملات ومبدأ الأصل في الإنسان البراءة ومبدأ البينة على من ادَّعى وتقتضي هذه المبادئ من جملة ما تقتضيه عدم التعسُّف في استعمال الحق فالتقاضي مثلا من أهمّ الحقوق التي كرَّستها الشرائع.[13] ولكن يبقى اللجوء إليه مقيدا بجملة من الضوابط لا محيد عنها إذ لا قيام بدون مصلحة يحميها القانون، وهو ما يحيلنا على التفكير في مفهوم المصلحة التي يحميها القانون داخل المجتمع.
المصلحة بين القانون والمجتمع:
قد يبدو تعريف المصلحة العامة من أصعب المهام التي تعرض على الفكر القانوني.فالمصلحة مثل الحرية قد تكون فرية أو جماعية والمصلحة مثل الأخلاق قد تكون متغيرة في الزمان وفي المكان وهي مثل السلطة إلى قد تكون محمية بالقانون أو معاقب عليها بنفس القانون إذا لم تأخذ بعين الاعتبار نواميس العيش المشترك.
إن تدريس مفهوم المصلحة العامة في علاقتها بمفهوم العيش المشترك يغذي لدى التلميذ الشعور بالمسؤولية ولما كانت المدرسة فضاء للعيش المشترك، فلا بد أن تنسجم فكرة المصلحة العامة مع قانون المجموعة داخل الفضاءات التعليمية. مما يبعث فيه ثقافة بذل الجهد ونكران الذات.
إن مفهوم بذل الجهد ونكران الذات يجد جذوره في عدة حضارات. فالحضارة الصينية رفعت شعار التضحية من أجل المجموعة بداية بالمدرسة كفضاء تعليمي وصولا إلى الجامعة كفضاء فكري وأكاديمي. وهو ما نجد له صدى أوسع عند الشعب الياباني حين أكَّدت الحكومة اليابانية على ضرورة تدريس السلوك الحضاري داخل المؤسسة التربوية مؤكدة على أن ” نجاح دولة اليابان يبقى رهين نجاح التلاميذ.”
وانطلاقا من” طفل اليوم هو كهل الغد ” فإن التكوين البيداغوجي والأخلاقي ينطلق من حداثة سن الإنسان وبالتالي تتحول المدرسة إلى مخبر للعلوم الإنسانية في تكوين شخصية التلميذ وليست مجرد مؤسَّسة لمحو الأمية.
احترام القانون ضمان لنجاح الدولة المدنية:
ينطلق القانون من دراسة الواقع والمعطيات ثم يقع التشخيص بناء على تحليل البعد الأنثروبولوجي والنفسي للمجتمع. فالمتمعِّن في واقع المجتمعات العربية بصفة عامَّة، وما يسمى بدول الربيع العربي بصفة خاصَّة يقف على حقيقة أفرزت نمطا جديدا للعيش. والقول إنَّ هذا النمط جديد لا يعني أنه وليد الفترة التي تلت الثورات الحديثة في بلدنا، بل إنَّه نتاج لعقلية لا يمكن فهمها إلا بالاستنجاد بكل العلوم الإنسانية بما فيها تركيبة مجتمعاتنا المعقَّدة.
وفي الحقيقة إنَّ تحليل هذه الظاهرة لا يستقيم بمعزل عن تحديد المفاهيم والمصطلحات ذات الصلة بالبنية الاجتماعية، ولعل أهمّ مفهوم تحوم حوله كل المجتمعات والحضارات هو مفهوم الحرّيَّة ومفهوم حقوق الإنسان ومفهوم المواطنة.
احترام القانون في علاقته بالحرّية:
“السلم يبني والفوضى تدمِّر” كيف السبيل لبناء السلم انطلاقا من جدلية القانون والحرية؟ كيف السبيل لتحقيق المعادلة بين احترام مدينة الدولة وسعي الإنسان المستمرّ نحو التحرُّر؟ قد تبدو الإجابة على هذه التساؤلات مهمَّة صعبة في الواقع الراهن فقد يفهم تطبيق القانون على أنَّه عودة للاستبداد ورجوع للقمع وقد يذهب في ذهن البعض أنَّ الإقرار بالحرّية فيه عودة لحالة ” اللاقانون ” وبالتالي الدخول في حالة من الفوضى لا يمكن ضبط حدودها إلا اللجوء إلى القوة.
إن الهدف من وراء سن القوانين هو تفادي اللجوء للقوة، رغم أن سياسة الردع تبقى ضرورة لفرض احترام القانون كلما حاد الإنسان عن جملة من النواميس التي سنَّها المجتمع انطلاقا من السلطة التشريعية. وبالعودة إلى دستور الجمهورية التونسية نلاحظ أنه تضمَّن قواعد عامَّة أعطت للحرية بعدا شموليا مأتاه الاستجابة لمطالب شعبية تعكس إرادة المجموعة لذلك كان لزاما على السلطة تنزيل هذه المبادئ على أرض الواقع وضمانه.
وتجدر الإشارة إلى أن ضمان تطبيق هذه المبادئ يمرُّ حتما عبر فرض احترام القانون باعتباره أنه وحسب العبارة المأثورة لمنتسكيو : ” فإن كل مالك للسلطة لا بد أن يحيد بها في حين من الدهر لذلك لا بد للسلطة أن تحدَّ من تعسُّف السلطة “.[14] و باعتبار الإنسان الذي قد تدفعه الغريزة إلى خرق القانون والخروج عن منطق المجموعة، فإن تدريس هذه المبادئ ضمن المناهج التعليمية أصبح ضرورة لا محيد عنها.
احترام القانون في علاقته بحقوق الإنسان:
أسالت مسألة حقوق الإنسان الكثير من الحبر في جميع الفضاءات الفكرية وعلى الرغم من ذلك فإن الحديث عنها لم ينتهِ ولا زال السؤال حول الكونية مثلا مطروحا بشدة، خاصَّة عند تناوله في علاقته بالمعتقدات الدينية أو العادات والتقاليد.
وفي الحقيقة فقد انعكس هذا النقاش داخل الفضاء المدرسي وأثَّر على عقلية التلميذ الذي وجد نفسه في مفترق من المفاهيم دفعت به في متاهة الخلط، لذلك فإنَّ إيضاح هذه المفاهيم وبيان مدلولاتها المعرفية ضمن المناهج التعليمية يجعل التلاميذ يقفون على ما يساعدهم على التفكير عوضا عن الأخذ بالمسلمات.
إنَّ المتمعِّن في مجمل البرامج التعليمية يقف على حقيقة مفادها قيام جل المناهج على سياسة التلقين في حين أن الحث على التفكير هو الكفيل بخلق جيل يكون قادرا على اختيار مصيره متى ما تمكَّن من فهم أدوات العمل المعرفية والسلوكية. أليس من الأجدر اتباع سياسة تحثُّ على النقد البناء والتساؤل الخلاق ؟ أليست مسألة حقوق الإنسان مجالا رحبا لإعمال العقل إذ أنها تساهم في تحقيق الانفتاح الفكري ممَّا يجعل الناشئة تقتل الاختلاف، وما يجعل من تدريسها ضرورة تمليها طبيعة التكوين الأكاديمي.
المواطنة،التعليم والدولة المدنية:
تعتبر التربية على المواطنة من أهمّ مكوّنات الدولة المدنية فلا مدنية للدولة في غياب مواطنة مسؤولة. وفي موسوعة المفاهيم القانونية تعني المواطنة الالتزام بكل سلوك حضاري واجتناب كل فعل يعاقب عليه القانون. وفي الحقيقة تحيلنا هذه الفكرة على فلسفة القانون والالتزام الأخلاقي هما وجهان لعملة واحدة. فالتربية على المواطنة تنمو مع شخصية الإنسان منذ حداثة سنه مع اندماجه تدريجيا ضمن قانون المجموعة وهو ما يؤسِّس لنظرية الحقّ والواجب. إذ لم يكن من الهين على فلاسفة القانون إيجاد الحلول الكفيلة لترجمة هذه المبادئ والقيم على أرض الواقع لذلك ظلَّت جملة هذه المفاهيم تحوم في فلك فلسفي مأتاه نظريات اتَّسعت في فضاءات فكرية وثقافية لكنها لم تجد مجالا رحبا لقبولها داخل المجتمع. وبناءً على هذا المعطى المهمّ سادت أفكار كادت تلامس الطوباوية وظلت رهينة جدران قاعات التدريس أو بعض المنابر العلمية.
بيد أن المتمعِّن في مضامين الدساتير الحديثة يجد لا محالة صدى لهذه الأفكار الكونية،إذ تتربَّع فكرة المدنية على عرش الدول التي اختارت الحداثة شعارا والانفتاح هدفا وغاية.
إنَّ تربية الناشئة على هذه المفاهيم فيه إعمال للعقل وتدريب على المقارنة وقدرة على حسن الاختيار والتميز فالمواطنة عقلية تنطلق من الإيمان بفكرة المشاركة في بناء الدولة المدنية انطلاقا من تكريس فكرة التشاركية.[15]
التشاركية كركيزة للدولة المدنية:
تعني التشاركية في المفهوم الفلسفي والنظري، أن يحس المواطن بأنه شريك في عملية بناء الدولة المدنية. إنَّ العهد الذي كان يرى في المواطن مجرد محكوم بنواميس السلطة التي تملي قرارتها بصفة عمودية قد ولى وانتهى، على الأقل انطلاقا من قراءة متفائلة وإيجابية لدستور الجمهورية التونسية المؤرخ في 27 جانفي 2014.
فعقلية مثل تلك القائمة على الإملاءات المسلطة لا يمكن أن تبني مجتمعا متماسكا ومسؤولا.ويكفي التذكير بما ورد ضمن أحكام الباب السابع من الدستور الذي أسَّس للحكم المحلي، فالحكم المحلي مبني على السلطة الممنوحة للجماعات المحلية المنتخبة والتي تتولَّى تسير شؤونها بناء على خصوصية كل جهة.
فمفهوم الحكم المحلي من المفاهيم الجديدة التي تعطي تصورا مختلفا للدولة المدنية، إذا علمنا أن التنظيم الإداري للجمهورية التونسية ما قبل دستور 2014 كان قائما على المركزية على مستوى القرار والتسيير. في حين أن الديمقراطية المحلية والتشاركية تقوم أساسا على الأخذ بعين الاعتبار بخصوصية الجهات وتقوم على تشريك المواطن في الفعل التنموي والسياسي.
إنَّ ربط مؤسسة التعليم كركيزة للدولة المدنية بجملة هذه المفاهيم له مبرراته فالحكم المحلي عقلية ووعي ومسؤولية. وفي هذا الإطار لا بد من التذكير بأن المدرسة جزء من مؤسسات الدولة وبحكم انتشارها وقربها من المواطن فهي مخبر للتربية على نمط جديد يجعل من التلميذ شريكا فعليا في عملية بناء الدولة المدنية.
إنَّ الهدف من وراء هذه الدراسة هو بيان أهمّية المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي تبنّاها المجلس التأسيسي عند سنه للدستور الجديد، فبمجرد تحليل هذه المفاهيم نقف على حقيقة مفادها تجدر مفهوم الحرية في المخيلة الشعبية للمواطن التونسي. هذا بالإضافة إلى تكريس فكرة الحقوق على الأقل على مستوى النصوص في حين أنه أولى وأحرى التركيز على فكرة الواجب الوطني.
إن البعد البراغماتي لهذه الدراسة يسير في اتجاه تدعيم وتكريس الثقافة القانونية في المناهج التربوية وبناء وعي جماعي يقوم على فرضية المواطن الشريك وليس المواطن المستقل من المجموعة.إذ ما يحدث داخل المؤسّسات التربوية من تجاوزات أخلاقية يجعل من المناخ داخل المدارس أقرب للتوتَّر وعدم الاستقرار في حين أن الهدف هو بناء فضاء من التعايش المبني على ثقافة تبادل الأفكار وتحسين السلوك.
وللتذكير فإن هذه المهمَّة قد تبدو صعبة ويكفي لتجسيدها التفكير عمليا في عقد شراكات وتعاون ميداني بين الجماعات المحلية والمدارس في اتجاه دفع التنمية الثقافية والفكرية داخل المجتمع. فالقواعد القانونية لا طائل من ورائها إذا لم تترجم على أرض الواقع والعكس يجعل منها جثث على مشارف المقابر فهي لا تنبض بالحياة حتى تجد صداها داخل مجتمع متحرك وهي ليست في عداد الأموات حتى تدفن ويلقى عليها التراب.
إنَّ المتمعِّن في أحكام الدستور الجديد[16] بالتوازي مع دراسة مجلة الجماعات المحلية يقف على تبني المشرع التونسي لثقافة جديدة تدفع نحو إدماج الشباب في الفعل التنموي والاجتماعي والسياسي من ذلك مثلا الفصل الثامن من دستور 27 جانفي 2014 الذي نصَّ صراحة على ” الشباب قوة فاعلة في بناء الوطن: تحرص الدولة على توفير الظروف الكفيلة لتنمية قدرات الشباب وتفعيل طاقاته وتعمل على تحمله المسؤولية وعلى توسيع إسهامه في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية”.
لقد تضمَّن في الفصل جملة من المعاني والدالات التي تستدعي من الباحث الوقوف عندها وتفصيلها.
لقد أكَّد المشرِّع الفصل المذكور على اعتبار الشباب قوة فاعلة داخل المجتمع وهو ما يترجم وعي السلطة السياسية بأهمية الشباب داخل حلقة اجتماعية ومجتمعية متكاملة تبني لمشروع مجتمع فعلي. وبعبارة أخرى فإن الدارس لأحكام الفصل المذكور يقف على إيلاء الشباب مكانة مهمّة على الأقل على مستوى النصوص وهو ما يقطع مع سياسة التهميش لهذه الشريحة العمرية المهمة. وقد أكد المشرع على ضرورة تحمُّل الدولة لمسؤوليتها واقعيا ومنطقيا.والمدرسة هي الفضاء الأكثر استقطابا للشباب، فإن التفكير في إصلاح منهجي للتعليم يجعل الدولة تفي بتعهداتها الأخلاقية والقانونية تجاه الشباب، خاصَّة وأن نفس الفصل يتحدَّث عن توفير الظروف الملائمة لتنمية قدرات الشباب وتفعيل طاقاته.
والسؤال الذي يطرح بشدة على ضوء قراءة هذا الفصل هو كيف السبيل لتنمية القدرات لدى شباب أثبتت جل الدراسات الاجتماعية والنفسية بل وحتى الإحصائيات أن أغلبهم مصاب بنوع من الإحباط أدَّى إلى الاستقالة الكلية من الحياة الاجتماعية والتعامل مع الدولة على أساس أنها مصدر للإزعاج من خلال الاكتفاء بفرض احترام القانون دون التركيز على إعطاء الشباب للحقوق والإحاطة المزعومة في الخطابات السياسية.
وتجدر الإشارة إلى أن الشباب انخرط في عديد مكوّنات المجتمع المدني سواء من خلال المنظّمات التقليدية أو من خلال الجمعيات. ولكن هذا الانخراط لم يتَّخذ تشكل الشراكة مع الدولة التي أرادتها السلطة السياسية في الدستور بل اتَّخذ شكل السلطة المضادَّةبمعنى عدم التفاعل الإيجابي مع السلطة سواء على المستوى المحلي أو الجهوي وصولا إلى المركزي.
وفي الحقيقة فإن هذا النفور مردّه عدة أسباب لعل أهمها عدم فهم الشباب للمهمَّة والمسؤولية المنوطة بعهدته في بناء الدولة المدنية. ومن ناحية أخرى عجز الحكومات المتتالية على رسم إستراتيجية واضحة للإحاطة والتوجيه حسب القدرات المعرفية للشباب.
ولما كان ذلك كذلك لم نرَ ترجمة للفصل الثامن من الدستور على أرض الواقع وظلَّ رهين الجدران التي أسَّست له تأسيسا نصيا وتشريعيا دون النزول به إلى المجتمع.
ويكفي للبرهنة على هذا الطرح الرجوع إلى الأشكال التي يتبعها الشباب حتى داخل المعاهد للاحتياج الي غلب عليها طابع القوة والتعنُّت الذي واجهته السلطة أحيانا بنفس الأسلوب.
وما زاد الأمر تعقيدا هو استقالة النخب المثقفة أحيانا من الفعل السياسي والاجتماعي فلم نجد خطابا موحدّا يتجه إلى الشباب لتحديد الأهداف التي تسعى الدولة المدنية لتحقيقها طغت على الساحة السياسية والإعلامية خطابات اتسمت في بعض الحالات بالطوباوية والغموض وعدم الدقة في رسم ملامح دولة تكون جامعة رغم الاختلافات.
فالمنابر الإعلامية تعتبر فسيفساء لآراء مختلفة تصل أحيانا درجة الخلاف والتناحر. في حين أن المدرسة تبقى الفضاء الذي تتخذ فيه البرامج باعتبار أن الدولة هي التي تضعها وترسمها.
إن الهدف من وراء هذه الدراسة هو بيان دور التربية القانونية وإعطاء الناشئة الأدوات المعرفية التي تمكنهم من القدرة على التمييز فلا قانون بدون أخلاق تؤسس لدولة ولا أخلاق بدون قانون يفرض الجزاء كل من يعتدي عليها ويمسّ من نواميس المجموعة.
وبالنتيجة لذلك فإنه قد يقع التفكير جديا في إدراج مادة مكملة تسمى بالمبادئ العامة للقانون.فهذه المبادئ التي تجد أساسها في مفاهيم إيجابية مثل نظرية الحق والواجب، نظرية العقد الاجتماعي، الوطنية…. قد ترسم للشباب طريقا واضحا يفهم من خلاله دوره الحقيقي في مجال التشاركية وبناء الدولة المدنية.
[1]Jean Carbonnier, Droit et passion de droit sous la cinquième république, Flammarion, octobre 2008, p 276
[2]Rvdolf Von Jhering, Der kampfumsRechtعنوان من مؤسسي المدرسة القانونية الحديثة عرف بمؤلفه الصادر سنة 1872 تحت
وقد أسس نظرياته على خصائص القاعدة القانونية ومدى قدرتها على إحاطة المجتمع بالتنظيم.
[3] حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وهو حديث حسن رواه أحمد ومالك والبخاري في الأدب المفرد والحاكم والبيهقي في الشعب وعند بعضهم ” لأتمم صالح الأخلاق ”
[4] MARK k. Smith (2015), what is education ? A defintion and discussion infedorganisation; Retrieved 27/11/2016 Edited
لا يقتصر التعليم على مجرد ما يتلقاه الإنسان في المدارس و الجامعات , بل هو العملية المستمرة لاكتشاف الحقائق و الإمكانات وكيفية التعامل
مع الأمور لا مجرد التخطيط للمستقبل والعمل مع المجموعة ومشاركتها مختلف المجالات لتطوير قدرات الأفراد والمجتمعات وجعلهم أكثر احتراما وحكمة وتطوير فهمه و تمكينه من العمل وجعلهم أكثر قدرة على التعامل مع المواضيع المختلفة و أكثر تعاونا على مساعدة أنفسهم والآخرين حتى يعيشوا حياة كريمة.
[5]عبد الرحمان بن خلدون ” الظلم مؤذن بخراب العمران… و العدل أساس العمران ” المقدمة الفصل الثالث
[6]للمزيد أنظر كتاب مفهوم الدولة للكاتب عبد الله العروي : مفهوم الدولة : الدولة سابقة على فكرة الدولة و أي تساؤل عنها يعني بالضرورة تساؤلا عن الأصل والهدف . إن الدولة دائما مجسدة في شخص أو في أسخاص فهي عرضة للأفات الحياة البشرية , و أي تساؤل عن مستقبلها و تطورها إن الدولة مزامنة للفرد والمجتمع , الدولة , الفرد , المجتمع مفاهيم متداخلة…
[7] وسيلة يعيش وفضيلة قرين : الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون : ” و إذا كان من الصعوبة بمكان ما أثاره ابن خلدون في كتاباته الغريزة إلا أن نظريته حول الدولة والأسس التى تقوم عليها وعوامل نهوضها وانهيارها لا تزال تحتل موقعا أساسيا يضيء الكثير من مجربات مجتمعاتنا العربية المعاصرة , و يؤشر إلى عبر و دروس مهمة علينا أن نسترشد بها في رسم معالم مستقبلنا ”
[8]عبد الله شريط, الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون, الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالجزائر 1975
[9]إن نظرية القانون الطبيعي كان لها تأثيرا كبيرا على تطور القانون العرفي في بريطانيا أما المدرسة القانونية الأمريكية فترى أن تأسيس الولايات المتحدة كان أما المدرسة القانونية الأمريكية فترى أن الولايات المتحدة كان مرتكزا على القانون الطبيعي ونظرا للإلتقاء بين القانون الطبيعي والحقوق مرتكزا على القانون الطبيعي ونظرا للالتقاء بين القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية, فإن القانون الطبيعي يقع استخدامه كعنصر في إعلان استقلال الشعوب
[10] نشأت فكرة العقد الاجتماعي في عصر التنوير من خلال أفكار جون لوك و ج.ج. روسو لكن هذه النظرية تجد أسسها في القانون الروماني والفلسفة اليونانية والبوذية القديمة ومن أبراز أعلام فكرة القانون الطبيعي نجد الفيلسوف توما الأكوينيوريتشادهوكر وتوماس هوبز وجون لوك…
[11] دولة القانون بالألمانية…… هو مفهوم يجد جذوره في الفكر القانوني الأوروبي وتحديدا في المدرسة الرومانوجرمانية والكلمة مشتقة من الأصل الألماني والى اصطلح على ترجمتها ب” الدولة القانونية “,” دولة القانون ” ,” دولة العدل ” أو” دولة الحقوق”.
[12] فيصل بوصيدة محاضرات في المبادئ العامة للقانون جامعة سكيكدة 1955 :” تعرف المبادئ العامة بكونها مجموعة عن الوقائع التى تتغير ببطء في مجموعها ويكون لها جمود نسبي عند تطورها مع بقية الوقائع وتقوم هذه المبادئ بإرشاد القاضي رغم أنها غير مشرعة يستنبطها القضاء من المقومات الأساسية للمجتمع .
[13] أندري دي لو بادار : القانون الإداري : ” إن اصطلاح المبادئ العامة يطلق على عدد من المبادئ التي لا تظهر مصاغة في نصوص مكتوبة ولكن يعترف بها القضاء باعتبارها واجبة الاحترام من الإدارة وأن مخالفتها يشكل انتهاك للمشسروعية…”
André Delaubadère, Jean-Claude Venezia ; Yves Gaudmet, Traité de droit administratif T1 Droit administratif général : organisation et action de l’administration, la juridiction administrative, 15ème édition LGDJ 1999
[14]Montesquieu, De l’esprit des lois, Anthologie, choix de textes et présentation par Denis de Casabianca.
[15]نبيل الفرجاني ، السياسي والمواطن تجربة والي ما بعد الثورة، دار أربيسك لطباعة والنشر والتوزيع 2015 ص 30 وما بعدها.
[16] في 3 مارس 2011 تم الإعلان عن انتخابات مجلس تأسيسي قصد كتابة دستور جديد للجمهورية التونسية وفي 26 جانفي 2014 تمت المصادقة على دستور تونسي جديد بعد 3 سنوات من سقوط النظام السابق .