في الأوساط الدينية التقليدية، الإسلامية منها والمسيحية، وأيضًا الخاصة بالأديان الأخرى في العالم، لا يُنظر إلى النِّسْوية بطريقة إيجابية. وهذا الأمر مفهوم، إنْ أخذنا تلك النِّسوية على اعتبار أنها النِّسوية الغربية العلمانية فقط، التي كانت -ولا تزال- مناهضة للأديان في أكثر الأحوال. إلَّا أنه مع بدايات الثمانينيَّات في القرن الماضي، ظهرت نِسْويات دينية (مسيحية وإسلامية وغيرهما)، وهي مدارس فكرية أنشأتها نسوة مؤمنات بأديانهن، يُطالبن بالمساواة ضمن الدين ومن داخله، وليس ضده أو من خارجه.
مَطالب النِّسوية الدينية واضحة، مثل: اعتبار النساء مساويات للرجال في الجوهر وفي القيمة، والعمل من داخل الدين على إعادة دور المرأة وحضورها وصوتها وحقوقها، إلى الساحة الاجتماعية والدينية. فتتأسس النِّسوية الإسلامية مثلًا على الإيمان بأن الله عادل، وبأن الإسلام قلَب الموازين وأعطى النساء حقوقًا وحضورًا، وفتح لهن أبوابًا كانت مُؤْصَدة في وجههن، والإيمان بأن النبي (ص) عامَل المرأة بوَصْفها مُساويةً للرجل، وباعتبار أنَّ القرآن أكّد هذه المساواة في الخُلق والمسؤوليّة، وفي مخاطبة النساء كما الرجال. ومن هذه المنطلَقات، ترى النِّسويةُ الإسلاميةُ أن معظم الفقه والتفسير القرآني، هو فِعلُ رجال من قرون غابرة، طغت عليهم ثقافة زمانهم، وأننا في حاجة اليوم إلى سماع صوت النساء في التفسير والفقه، من أجل تخليص الذهنيات والقوانين من رواسب التفكير الأَبَوِيّ “القَرْوَسَطِيّ”.
أنا اليوم أنتمي بكل فخر إلى مدرسة النِّسوية الإسلامية، إلَّا أنني أذكُر أنني قبْل عشرين عامًا كنتُ أقول: “لا، لا، أنا لست نِسْويَّة”؛ لأنني كنتُ في نظرتي التقليدية آنذاك أظنُّ أن النسويات مارقات على الدين. صحيح أن النِّسويات الدينيات منتفضات وثائرات على الواقع، ولكنهنَّ لسن منتفضات ضدَّ الدين، ولا ضد الله. هنَّ منتفضات ضد ذُكورية في التفسير، وضد سلطة متمسكة بهذه الذكورية. فمنذ عشرين سنة، كنتُ أظن أن الروحانية تعني التسليم الدائم للأمر الواقع، والتزام ما يُملَى عليّ، وكنتُ أخاف أن يَسلُبَني روحانيتي انتقادِي لِلسُّلطة الدينية أو للتفسير السائد.
كانت السيدة “مريم” مِثالي الأعلى -ولا تزال-؛ إلّا أنني اكتشفتُ مع الوقت أن الصورة المكوَّنة عنها، بوصْفِها مِثالًا للفتاة التي تلتزم الأوامر دون سؤال ودون أي ردِّ فِعل، ليست صورة قرآنية. فمريم في القرآن لا تَقبل الأمور دون مجادلة أو اعتراض. وعندما يبشِّرها جبريل بالحمل تقول: {رَبِّ أنَّى يكونُ لِي ولدٌ ولمْ يمسسْنِي بشَرٌ} [آل عمران: 47]. إذًا، هي تُحاجج اللهَ أو مَلاكه (انظر: مريم، الآية 20). وعندما جاءها المَخاض، ثارَت على واقعها وقالت: {يا ليتنِي متُّ قبلَ هذَا وكنتُ نسيًا مَنسِيًّا} [مريم: 23]. ثم بعد هذه الانتفاضة، لم يقتصر تطمين الله لها على أنْ “تأكل وتَشرب وتَقرَّ عَينًا” فقط، بل أمدَّها أيضًا بِقُوّة منه إذ قال لها: {وهُزّي إليكِ بجذعِ النّخلةِ تُساقط عليكِ رُطبًا جنِيًّا} [مريم: 25]. فكانت هذه القوّة كرامة منه؛ إذ إنَّ النخلة تحتاج إلى قدرة كبيرة لهزّ جذعها. وتتوقف المفسِّرات النِّسويات المسلمات عند هذه الآية، إذ يَرَيْن فيها دعوة من الله للنساء إلى الأخذ بزمام الأمور، كما فعلت السيدة مريم. فبَعْد أن هزّت بجذع النخلة، وقفت وحدها في وجه قومها، الذين كانوا ينهالون عليها توبيخًا وشتمًا.
مريم ليست مثالًا لِمَن يَخضع للسلطة الأَبَوية المتمثلة بقومها، بل لِمَن يواجه تلك السُّلطة بالحقّ. إنَّ مريم مِثالُ الفتاة التي -من ناحية- تُسلّم أمرها إلى الله، فتنشأ بين يديه كالزهرة: {فتقبَّلها ربُّها بقبولٍ حسنٍ وأنبتهَا نباتًا حسنًا} [آل عمران: 37]. ومن ناحية أخرى، هي مِثالُ التي تُفعّل العقل الذي وضعه الله في وتُحاجِج أو تعترض. فهي لا تُسلّم للأمر الواقع، بل تُسلّم نفسها لله، وتعترض على الأمر الواقع. هي القدوة للنِّسويات المؤمنات، إذ تُبرهن أن الروحانية لا تتناقض مع الفكر النقدي، ولا تعني الخنوع.
الموقف النسوي إذًا لا يتناقض مع الروحانية، بل على العكس، هو يحرّر الروحانية من القيود التي وضعها البشر على الدين، مثلما عاشت مريم محرَّرَةً لربّها (انظُر آل عمران، الآية 35)، إذ لا تُقيّدها ذهنيّة مجتمعها، بعد أن نذرَتها أمّها للمَعبد مع أنها أنثى، قالِبةً بذلك موازين زمانها. وأخيرًا، إن الموقف النِّسْوي ليس مَوقفًا للنساء فقط، بل هو نضال يحمله الرجال والنساء معًا بِاسْم مسؤوليتهم المشتركة.
*المصدر: تعدّديَّة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.