أدبسلايدر

رواية البطء.. نحو علاقات وجدانيَّة معقولة

 

أولا: أحداث رواية البطء

حين الحديث عن العلاقات العاطفيَّة في الواقع المعاصر الذي نعيشه، تحذوك رغبة جامحة في كتابة شيء عنها؛ نظرا لتكاثرها ولسرعتها الكبيرة في الاندثار والتشظِّي، وللسخرية التي تطبع أغلب هذه الصلات بين الرجل والمرأة، والتي تُغلَّف باسم الحبّ السائل والسريع الذي تجرفه سيول العجلة والتفاهة. واستجابة لهذه الرغبة الدفينة اتَّخذنا من رواية البطء ” la lenteur” للكاتب والروائي الفرنسي (ميلان كونديرا milan kendera ) وسيلة أساس لمعرفة طبيعة العلاقات العاطفيَّة في عصرنا الراهن.  وكونديرا كاتب من أصول تشيكيَّة، يعد من أشهر الروائيِّين الذين تبنُّوا أفكار اليسار الشيوعي، ومن الذين  الذي ذاع صيتهم في المشهد الأدبي العالمي، حاز جوائز عالميَّة عديدة، كان آخرها جائزة هردر عام 2000، فعملنا على كتابة مقال حولها؛ نظرا للأفكار القيِّمة التي بلورها الكاتب في الرواية، والتي تناولها بنظر عميق يطرح من خلالها أسئلة حضاريَّة تسلِّط الضوء على ماهيَّة الكائن البشري في عصرنا الحالي الذي شهد تغيُّرا قيميّا سلبيّا وخطيرا، فهو زمن أفرغت فيه القيم الأخلاقيَّة من جوهرها، واكتست دلالات السخافة والبرودة والعجلة، والرواية في مجمل أحداثها توثِّق الوشيجة الموجودة بين الفلسفة والأدب.

فأحداث الرواية تدور حول قصتي حبّ مختلفتين من حيث الوسائل والغايات، فالقصَّة الأولى كانت في زمن القرن الثامن عشر، حبّ اتَّسم بالبطء وذي معنى وقيمة، أمَّا العلاقة الثانية فقد كانت في زمننا الحاضر القرن العشرين نموذجا، قصَّة تتميَّز بالبرودة والعجلة والسرعة التي أدمنها الإنسان المعاصر أكثر من اللازم، وهذا ما جعل العلاقة تتَّسم بالانفصال وسرعة الافتراق.

إنَّ هذه الدراسة في مقاربتها لموضوع الحبّ المرتبط بالبطء قديما، وبالسرعة حديثا، ستركِّز على قضايا وأسئلة تبدو جوهريَّة عندما تنتهي من قراءة الرواية، والتي تتمثَّل في:

ـ تأثير سرعة التقنية على الإنسان.

ـ العلاقات الوجدانيَّة القديمة والحبّ الحقيقي.

ـ الحبّ السريع في عصرنا الراهن.

 

ثانيا: تأثير سرعة التقنية على الإنسان

تطالعنا رواية البطء لميلان كونديرا (milan kendera) منذ البداية بموضوع السرعة التي انتشرت في كل أمور الحياة في عصرنا الراهن، والسرعة في هذا المقام مرتبطة أساسا بالتقنية التي أفرزتها الثورة الصناعيَّة التي عرفت تطوّرا كبيرا جدا في القرن الثامن عشر في أوروبا، المتمثِّلة في وسائل الاتِّصال الإعلاميَّة المتطوّرة كالمواقع الإلكترونيَّة المتعدِّدة، إضافة إلى وسائل النقل من سيارات وحافلات فطائرات ثم دراجات هوائيَّة وناريَّة، ففي قديم الزمن كان الإنسان يكتفي في تنقّلاته وأسفاره إمَّا بالمشي على الأقدام أو الركوب على الخيول والجمال، فتكون الرحلة بطيئة وهادئة وممتعة خالية من التسرّع، ويطبعها جو التأني والتأمل، في حين إنَّ الزمن الذي اخترع فيه الإنسان الآلات وصارت وجهته ووسيلته المثلى في التنقُّل، خلت فيها الرحلات من المتعة واللذة، وأضحت سريعة أكثر من اللازم، وقد نتج عن هذا ارتفاع في نسبة حوادث السير بسبب السرعة المفرطة التي صارت ملاذ المسرعين المستهترين في الطرقات، وهذا ما نستنتجه من قول كونديرا:

” فيرا، زوجتي، تقول لي: ” كل خمسين دقيقة، يلقى شخص حتفه على طرقات فرنسا، انظر إلى جميع هؤلاء المجانين المسرعين من حولنا، هم أنفسهم من يصبحون حذرين إلى أبعد حد عندما تتعرض عجوز أمام أعينهم للسرقة في الشارع العام، فكيف يمتلكون هذه الجرأة في السياقة؟ “، (البطء ص: 5).

يدخلنا كونديرا منذ الصفحة الأولى في الرواية إلى عوالم التسرّع والعجلة الناتجة عن التهور، حينما كان يجوب طرقات فرنسا رفقة زوجته فيرا، فيلاحظ عبر المرآة سيارة خلفه يتربَّص سائقها هفوة أو فرصة للالتحاق بالسيارات التي تسبقه، أو تجاوزها للمضي قدما نحو الأمام، وهذا ما يوضحه قائلا:

” أقود السيارة في الطريق إليه، وعبر المرآة أتابع سيارة خلفي، يتردَّد وميض مصباحها الصغير الأيسر فترسل كل مصابيحها ضوء ينم عن فقدان الصبر. يترقَّب السائق الفرصة لتجاوزي، مترصّدا تلك اللحظة كما يترصّد طائر كاسر عصفور الدوري”، (البطء ص:5).

فسرعة الآلات لم تترك أدنى فرصة للسائق في أن يفكِّر في همومه وآلامه، ولم يعر أي اهتمام يذكر إلى المرأة التي توجد رفقته في السيارة، فلا تهمّه مأساتهم وأتراحهم التي سيكابدونها حينما يتعرَّضون لحادثة سير، بل إنَّ السائق لا يكترث للمرأة الجالسة إلى جانبه في مقصورة السيارة، بمعنى آخر أن الآلة وسرعتها دمَّرت العلاقات الإنسانيَّة بشكل نهائي، وأوصلتها نحو الهاوية، ويبدو ذلك واضحا في الصفحة السابعة.

” عبر المرآة، أتابع السيارة ذاتها وهي لا تزال عاجزة عن تجاوزي بسبب سيارات الخطّ المعاكس. إلى جوار السائق تجلس امرأة. أتساءل في سرِّي لم لا يحكي لها أشياء مسليَّة، لم لا يضع يده على ركبتها؟ عوض ذلك، يعلن سائق السيارة التي أمامه، لأنه لا يقود بسرعة. المرأة هي الأخرى لا تفكِّر في مدّ يدها لملامسة السائق، بل تنخرط معه ذهنيا في القيادة، وتشاركه في الشتم”. (البطء، ص: 7).

ثالثا: العلاقات الوجدانيَّة القديمة والحبّ الحقيقي.

إنَّ الملاحظ لعتبة عنوان رواية البطء باعتباره أول شيء يصادفه المتلقِّي في كل الأعمال الأدبيَّة، سيكتشف أنه يوحي إلى سمة بارزة طالما طبعت ورسخت أسس العلاقات العاطفيَّة منذ أزمنة غابرة ساحقة، فالبطء والتأنِّي صفتان لحقيقة واحدة تجعل الحبّ الموجود بين ذاتين يدوم لفترات زمنيَّة مديدة، ولنا في التاريخ أمثلة لعلاقات الحب الخالدة، فيكفي أن نستحضر في هذا المقام بعض نماذج الحبّ الدائم من روائع الأدب العربي كحبّ قيس المجنون لليلى، وفي الأدب الإنجليزي نتذكَّر قصَّة روميو وجوليت، فهذان نموذجان ما يزال المرء يتذكّرهما إلى حدود الساعة في سياق الحديث عن الحبِّ الحقيقي.

 

البطء والتأنِّي صفتان لحقيقة واحدة تجعل الحبّ الموجود بين ذاتين يدوم لفترات زمنيَّة مديدة، ولنا في التاريخ أمثلة لعلاقات الحب الخالدة، فيكفي أن نستحضر في هذا المقام بعض نماذج الحبّ الدائم من روائع الأدب العربي كحبّ قيس المجنون لليلى، وفي الأدب الإنجليزي نتذكَّر قصَّة روميو وجوليت، فهذان نموذجان ما يزال المرء يتذكّرهما إلى حدود الساعة في سياق الحديث عن الحبِّ الحقيقي.

وقد سبق لعالم الاجتماع البولندي (زيغمونت باومان zygmunt Bauman) في كتابه الشهير بـ”الحب السائل عن هشاشة الروابط الإنسانيَّة ” Liquid love“، وأن تحدث عن ماهيَّة الحبّ الجوهريَّة، ولذلك فهو يعتبر الحبّ علاقة أبديَّة خالدة، بعيدة عن الانفصال والتذبذب، والحبّ الدائم هو الذي يطمح إلى ضمان راحة طرفيه وعيشهما لزمن طويل. وعموما فالحب عنده هو ما يسعى دوما إلى خدمة الآخر وبقائه، عكس الرغبة التي تسعى إلى استهلاك موضوعها، وبعد ذلك التفكير في خطة للتخلّص منه، وهذا ما يتنافى مع مفهوم الحبّ الحقيقي الذي يرتبط طرفاه من أجل إدامة المحبَّة والمودّة بينهما، وهذا ما عبَّر عنه الشاعر أبو تمام ببيتين شعريين مشهورين له:

نقِّل فؤادك ما شئت من الهوى                ما الحبّ إلا للحبيب الأول

وكم منزل يعشقه الفتى                       وحنينه دوما لأوّل منزل

ويزيد زيغمونت باومان ويؤكِّد ويقول في ماهيَّة الحبّ:

” إنّ الحب يعني أن يكون المرء في خدمة الآخر، وتحت طلبه، ورهن إشارته “.

إنَّ الحبّ يبتغي التملّك … فإنّ الحبّ ينمو ببقاء موضوعه ودوامه… فإنّ الحبّ يديم نفسه بنفسه “. 44.

إنَّ رواية البطء شكَّلت الجسر المتين بين الفلسفة والأدب اللذين تجمعهما وشائج وثيقة، ولا شكّ في ذلك، فقد تسلّلت فلسفة علم الاجتماع لـ “زيغمونت باومان ” إلى رواية البطء، لأنَّ كونديرا أيضا يدمج بين الكتابة الروائيَّة والتأمُّل والعمق الفلسفيين؛ ولأنّ البطء تطرح أسئلة عميقة وتغوص في إشكالات العلاقات الوجدانيَّة في القدم وفي عصرنا الحالي، فقصَّة فيفان دونون المنشورة للمرَّة الأولى بعنوان ليليَّة بلا غد عام 1777، والتي وقعت في القرن الثامن عشر، تشكِّل النموذج الأمثل للعلاقات العاطفيَّة التي تزكي الحب الحقيقي الذي يهدف إلى بلوغه ذاتان لهما نوايا أخلاقيَّة وحسنة، ويطمحان في أن يكون لحبّهما غاية نبيلة، لا مجرَّد تجمع ذاتين بلا روابط وبلا صلات، رغم اقترابهما ووجودهما في مكان وزمان موحّدين، ولذا فكونديرا يرى بأنَّ هذه القصَّة التي كان أطرافها كل من (السيِّدة ت، وعشيقها الماكيز، والفارس) خير نموذج للحبّ الدائم، يوضح ذلك بقوله:

” من غير أن يفهم الفارس مغزى هذا القرار، يجد نفسه بجوار السيدة الجميلة على العربة. بعد رحلة هادئة وممتعة “. (نفسه، ص: 8).

فالقصَّة في عمومها تتَّسم بالهدوء والتأني والتأمّل، بل إنها شكَّلت فن القرن الثامن عشر، مثَّلت فكره خير تمثيل، وهكذا ما جعلها تنشر لمرات عديدة، فبعد أن نشرت للمرَّة الأولى، أعيد لها الاعتبار ثانية عام 1802 و1866. (عن رواية البطء، ص: 8،9).

 

 

 

ثالثا: الحبّ السريع في عصرنا الراهن.

نتذكَّر زيغمونت باومان ثانية، وسنبقى مدينين له مهما كان الحال؛ نظرا لعظامته فكره، ولخلوده الأبدي الذي لا يعرف للتوقّف سبيلا، فحينما تحدَّث عن الحبّ في القدم، أو ما أسماه بالحبّ في الحداثة الصلبة، أي الزمن الذهبي النادر الماضي الذي قد لا يعود، وقد لا نجد  أثره في الواقع المعيش إلا إذا عملت البشريَّة على إقامة العلاقات على أساس جوهرها، لم يغفل زيغمونت باومان الحديث عن الحبّ السائل أي المتغيّر والمتحوّل والهشّ الذي يتَّصل بزمن وسمه بالحداثة السائلة، وفي حديثه عن هشاشة الحبّ في الحضارة الحديثة التي أنتجت عقل المصلحة الشخصيَّة، والبحث عن السعادة الزائلة والزائفة حسب الطبيب النفسي سيغموند فرويد في كتابه الحضارة وأوجاعها، (عن كتاب: الحبّ السائل، عن هشاشة الروابط الإنسانيَّة، ص: 173). وهذا دليل على تغيّر القيم نحو السلبي والميوعة الأخلاقيَّة والانهيار والتدمير، ويشكِّل الحبّ أعتى هذه القيم التي عرفت تحوّلا خطيرا في زمننا الحالي، فقد اكتسى معاني الاستهلاك والاشتهاء والالتهام والابتلاع والهضم، وكل هذا يفضي به نحو الدمار والكارثة، فالحبّ بهذا المعنى فإنّه يتَّجه نحو تجريد الإنسان من إنسانيّته، ويصير بمثابة مادَّة قابلة للاستهلاك، وبعدها يطرح إلى عالم النفايات، ليفقده قيمته ومكانته التي تعلو عن تفاهات الحداثة السائلة وسخافتها. (نفسه، ص: 43،44).

 

رواية البطء طرحت أسئلة عميقة حول كيفيَّة إعادة الأمور إلى حقيقتها الأصليَّة، أي كيف نعيد للحبّ وللعلاقات الوجدانيَّة في عصرنا كينونتها التي افتقدتها في أكثر اللحظات، كونديرا يدعونا إلى البطء والتأنِّي ويمجِّدهما ويعتبرهما جوهرين ينبغي أن تتأسَّس بهما الروابط الإنسانيَّة، لأنَّ البطء يجعلنا نحسّ بالمتعة ونتذكّرها دوما، والبطء له صلة بالذاكرة أي الاحتفاظ بتلك اللحظات السعيدة الهادئة التي تتذكرها ذاتان هادئتان طوال حياتيهما.      

وتستحضر الرواية مقاطع من الحبّ السائل العابر الذي لا يدوم إلا لفترة زمنيَّة قصيرة، ويتمثَّل ذلك في قصَّة بيرك والعجوز إيماكولاطا اللذين لم يطول أمد علاقتهما بسبب قذارتها وحصرها في المضاجعة والممارسة الجنسيَّة، فكانت نهايتها مدهشة ومحزنة بالنسبة إلى إيماكولاطا المصدومة بكلام بيرك الذي جاء على لسانه:

“لتذهبي إلى الجحيم أيتها العاهرة العجوز أنت وجاراتك المريضات، تعتقد أنَّ كلماته ليست إلا حيلة لم تتبيَّن مغزاها، لذلك تسأله بهدوء وبراءة: ” لم تقول لي هذا الكلام، لم؟ كيف علي أن أفهمه؟

ـ عليك أن تفهميه كما هو، بالمعنى الحرفي، تماما بالمعنى الحرفي، أن تفهمي عاهرة بالمعنى الحرفي لعاهرة “. (البطء، ص: 68)، وتستمرّ مشاهد القذارة والميوعة في حبٍّ زائف لا قيمة لها في حوار المصور الرومانسي مع إيماكولاطا التي قاله له:

” حضورك هنا، أمامي لا قيمة له، حضور لا يختلف عن حضور كلب أو فأر. نظراتك لا تحرِّك أدنى شعرة في جسدي” (البطء ص: 88).

في الختام، تبيّن أن رواية البطء طرحت أسئلة عميقة حول كيفيَّة إعادة الأمور إلى حقيقتها الأصليَّة، أي كيف نعيد للحبّ وللعلاقات الوجدانيَّة في عصرنا كينونتها التي افتقدتها في أكثر اللحظات، كونديرا يدعونا إلى البطء والتأنِّي ويمجِّدهما ويعتبرهما جوهرين ينبغي أن تتأسَّس بهما الروابط الإنسانيَّة، لأنَّ البطء يجعلنا نحسّ بالمتعة ونتذكّرها دوما، والبطء له صلة بالذاكرة أي الاحتفاظ بتلك اللحظات السعيدة الهادئة التي تتذكرها ذاتان هادئتان طوال حياتيهما.

 

 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

إدريس جبور

خريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، يعمل أستاذا للغة العربية بالتعليم الثانوي الإعدادي، شارك في كتب جماعية في مجلات محكمة، وله مقالات علمية ونقدية في المجال الأدبي منشورة في منابر إعلامية، ونصوص إبداعية سردية.

مقالات ذات صلة