التنويريتربية وتعليمسلايدر

المنظومة التربويَّة التونسيَّة في عصر الرقمنة.. التحدِّيات والانتظارات

           عرف العالم منذ تسعينات القرن الماضي ثورة رقميَّة فرضت على الجميع الشروع في إعادة تأهيل معارفهم وتقنياتهم وأنظمة حياتهم بالشكل الذي يستجيب لمقتضيات العصر التكنولوجي الرقمي المبهر.

ولمّا كانت قنوات التعليم بمختلف مراحله هي من سينقل للأجيال هذا الكم المعرفي ويحفظ استمراره ويعمل على تطويره، توجب على سلطات الإشراف البدء في عمليَّات تأهيل شامل للمنظومة التربويَّة.

انخرطت المنظومة التعليميَّة التونسيَّة بدورها في الموجة الرقميَّة، فعملت على ربط المدارس بشبكات الإنترنت وطوّرت طرق التدريس بإدماج تكنولوجيا المعلومات وأهّلت إطارات التدريس والإداريين من خلال تدريبهم على استعمال الحواسيب والبرمجيَّات بشكل ناجع. لكن ضعف البنية التحتيَّة واللوجستيَّة وعدم انخراط قسم كبير من المدرّسين في برامج التأهيل المعلوماتي، وانحصار هذا التأهيل على مركز القرار ومحيطه دون الأطراف، أفرز عديد المشكلات والمفارقات ولعلَّ أبرزها التفاوت الرقمي بين المعلِّمين والمتعلِّمين بحسب الجهات والطبقات، واستثمار هذه الفجوة الرقميَّة من أجل تحقيق أرباح ماديَّة ضخمة من قبل شركات التزويد العالميَّة، فضلا عن الدعاية السياسيَّة التي رافقت استقدام شبكة المعلوماتيَّة إلى البلاد التونسيَّة في فترة الاستبداد.

ورغم ما كانت تروجه وسائل الاعلام من تعميم الإعلاميَّة على العائلات التونسيَّة برمتها وعلى شبكة المدارس الريفيَّة، إلا إنّ إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2014 كشفت أن ارتباط العائلات التونسيَّة بشبكة الإنترنت لم تتجاوز 30.4% وهو ما يعكس ضعف مواكبة العائلات للتقدُّم التكنولوجي. فضلا عن الاعتمادات الهزيلة ( 2 مليون دينار أي ما يعادل 4 بالمئة من ميزانيَّة الوزارة) والتي توفّرها وزارة التربية لبرنامج تعميم الإنترنت على المدارس الابتدائيَّة. وتبقى التحدّيات اللوجستيَّة والهندرة (الهندسة الإداريَّة) شرطا أساسيّا من شروط الانتماء إلى مجتمع المعرفة، لا سيما عندما يتعلَّق الأمر بوجود أكثر من 400 مدرسة في تونس غير مؤهّلة للتدريس بالمرَّة لافتقارها للحدّ الأدنى.

مقالات ذات صلة

لهذا فالسؤال الذي سنشتغل عليه في هذه الورقة هو التالي:

  • هل تهيأت الشروط اللوجستيَّة والثقافيَّة والمجتمعيَّة لاحتضان مجتمع المعرفة ومشروع الرقمنة في البلاد التونسيَّة؟
  • ما مدى نجاح سلطة الإشراف في إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتِّصال في المؤسَّسات التربويَّة بمختلف مراحلها؟
  • وبعد تجربة عقدين من التكيُّف مع الثورة الرقميَّة ومجتمع المعرفة العالمي، يحقّ لنا أن نتساءل عن المنجزات التي تحقَّقت في المشهد الاقتصادي والاجتماعي وأيضا في مستوى ما أحدثته هذه الثورة في بنية العقل الفردي والجماعي؟

 

ضعف البنية التحتيَّة واللوجستيَّة وعدم انخراط قسم كبير من المدرّسين في برامج التأهيل المعلوماتي، وانحصار هذا التأهيل على مركز القرار ومحيطه دون الأطراف، أفرز عديد المشكلات والمفارقات ولعلَّ أبرزها التفاوت الرقمي بين المعلِّمين والمتعلِّمين بحسب الجهات والطبقات، واستثمار هذه الفجوة الرقميَّة من أجل تحقيق أرباح ماديَّة ضخمة من قبل شركات التزويد العالميَّة، فضلا عن الدعاية السياسيَّة التي رافقت استقدام شبكة المعلوماتيَّة إلى البلاد التونسيَّة في فترة الاستبداد.

 – من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة

 

أصبحت المعرفة هي المحرِّك الرئيسي للتنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. وبذلك دخل اقتصاد المعرفة في صلب السياسات الاقتصاديَّة في كثير من البلدان النامية والمتقدِّمة. ووفقا لمنهجيَّة البنك الدولي لتقييم المعارف، فإنَّ ازدهار اقتصاد المعرفة في أي بلد يحتاج إلى أربع ركائز تتمثَّل في: نظام اقتصادي ومؤسَّساتي قوي، ونظام تعليمي سليم، وبنية تحتيَّة معلوماتيَّة، ونظام للابتكار.

لكن يبدو أن تونس قد تأخَّرت بنقطتين مقارنة بالسنة الماضية في مؤشِّر المعرفة لسنة 2018 الذي تمّ الإعلان عنه مؤخّرا في قمّة المعرفة بدبي لتحتلّ المرتبة 82عالميا من جملة 134دولة والمرتبة التاسعة عربيا. ولعل هذا التراجع يعود للاضطرابات التي تعرفها المدرسة العموميَّة في السنوات الأخيرة وارتفاع نسق الإضرابات والمطلبيَّة ونقص المربين وارتفاع نسق الشغورات وهو ما من شأنه أن ينعكس سلبا على مستقبل اقتصاد المعرفة الذي تعدّ جودة التعليم من أهمّ ركائزه. وهو ما يدعو إلى التسريع في القيام بالإصلاحات المعطّلة وتوفير مناخ أكثر استقرارا في المؤسَّسات التربويَّة وتحييدها عن التجاذبات والمطلبيَّة حتى لا تخسر تونس أحد أهمّ مكاسبها بعد الاستقلال وهي التعليم العمومي الذي بدأ يتهاوى.

وعموما مكّنت تكنولوجيا المعلومات من بناء الاقتصاد القائم على المعرفة وبذلك تحوّل المجتمع من مجتمع يرتكز على اقتصاد صناعي ويعتمد على ثروات الأرض الباطنيَّة والمعادن إلى مجتمع ذي اقتصاد معلوماتي أو معرفي تشكّل المعلومات فيه المورد الأساسي والاستراتيجي وراس المال الحقيقي. ويتميّز هذا الاقتصاد بأن رأس ماله الحقيقي يتمثَّل في الثروة البشريَّة المؤهّلة والقادرة على خلق قيمة مضافة بفضل ما تنتجه من معارف. وتبعا لذلك يرى بعض المحلَّلين الاقتصاديِّين أنَّ الحضارة الحاليَّة تحوّلت من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد المعلوماتي. وفي ظلّ اقتصاد المعرفة تحوّلت المعلومات إلى أهمّ سلعة في المجتمع. وفي ظلّ هذه الظروف الجديدة لم يعد الاقتصاد معنيّاً فقط بالبضائع أي بالتبادل التجاري للمنتجات الماديَّة، بل ازداد اعتماده على تقديم الخدمات، وبالتالي اكتسب الاقتصاد سمة جديدة وهي إنتاج وتسويق وبيع الخدمات والمعلومات.

يفترض اقتصاد المعرفة ملاءمة مخرجات التعليم مع المتغيّرات العالميَّة بما يمثِّل ركيزة أساسيَّة لاستمراريَّة اقتصاد المعرفة وفي هذا الإطار أكد أكاديميون ومشاركون خلال فعاليّات “قمّة المعرفة 2018” المنعقدة مؤخّرا بدبي أنه يجب ملاءمة مخرجات المنظومة التعليميَّة مع المتغيّرات العالميَّة المتسارعة التي يشهدها العالم، وخصوصاً مع متطلّبات سوق الشغل وضرورة تضمين المهارات الشخصيَّة والمتقدِّمة في المنظومة التعليميَّة، والتي تشكِّل صمام أمان الكفاءات لتجاوز تحدّيات المستقبل واستثمار فرصه بالشكل الأمثل. وأوضح جلّ الخبراء بأنه يجب على المجتمعات أن تستثمر في إدخال المهارات الشخصيَّة “والناعمة” إلى المنظومات التعليميَّة، كتعريف الكفاءات الشابة بمهارات التحدّث والتواصل على كافة المستويات والتي أصبحت ضرورة حتميَّة باعتبار أنّ العالم بات قرية صغيرة، كما أكَّد على ضرورة تنمية مهارات تشخيص الإشكاليّات بالإضافة إلى التدريب على حلّها، معتبرا أن تشخيص المشكلة في العالم الحديث هو أمر صعب ويستغرق فترة أطول من حلّها.

من المفارقات أن الدول السائرة في طريق النمو على غرار تونس لا تستفيد من الثروات البشريَّة المؤهّلة في تنمية الاقتصاد وهو ما يجعل دولا كثيرة متطوّرة تستقطب هذه الكفاءات  التي غالبا ما تكلِّف الدولة مليارات لتكوينها على غرار عدَّة اختصاصات منها الهندسة والطب والصيدلة فهذه الدول تثمِّن هذه الكفاءات وتمنحها التسهيلات الضروريَّة والإمكانات اللازمة للبحث في حين كثيرا ما تهمّش هذه الكفاءات في بلدان المنشأ دون الاستفادة من القيمة المضافة التي تتيحها في اقتصاد المعرفة الذي يمثِّل الجيل الرابع للاقتصاد أو اقتصاد الحاضر والمستقبل.

يمكن القول إنَّ الانتقال من مجتمع المعلومات العالمي بسماته التي سبق أن أشرنا إليها إلى مجتمع المعرفة يعد نقلة كيفيَّة في مجال التطوّر الحضاري الإنساني. وليس معنى ذلك أنّ المجتمعات الإنسانيَّة السابقة أو الحديثة أو المعاصرة لم تكن مجتمعات معرفة، ولكن الفرق يبدو في نوع المعرفة التي تسود المجتمع، وخصوصاً في ظلّ انتشار تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتِّصال الجديدة، وبروز الإنترنت كشبكة عامَّة فتحت فرصاً جديدة لتوسعة الفضاء العامّ للمعرفة.

وهكذا فالسمة الرئيسيَّة لاقتصاد المعرفة هو اعتماده الكبير على الإمكانيَّات الفكريَّة أكثر من اعتماده على المدخلات الفيزيقيَّة أو الموارد الطبيعيَّة.

أوضح جلّ الخبراء بأنه يجب على المجتمعات أن تستثمر في إدخال المهارات الشخصيَّة “والناعمة” إلى المنظومات التعليميَّة، كتعريف الكفاءات الشابة بمهارات التحدّث والتواصل على كافة المستويات والتي أصبحت ضرورة حتميَّة باعتبار أنّ العالم بات قرية صغيرة.
 

IIتاريخ الرّقمنة في تونس وتحدّياتها

  • تعريف “الرقمنة

تنتمي الرقمنة إلى الموجة الثانيَّة للحداثة بعد الموجة الأولى التي اتّسمت بالتدفّق المهول للمعلومات وأنظمة المعرفة. ومن سماتها سيادة العقل الحسابي الذي يعمل على بلورة الأفكار استناداً على تكميمها، وربطها بالمعارف لهيكلة وبناء المجتمعات على المستوى السياسي والاقتصادي حيث لا فصل بينهما. تخضع المعلومة للمعالجة من لدن الرُّبُوهات التي تعطيها هويَّة جديدة بفعل إدماجها ضمن منظومة وثائقيَّة معينة، حيث يتمّ إعادة توثيق الأشياء ورقمنتها من جديد، وخلق واقع آخر مغاير للذي اعتاده الناس: إنّه الواقع الرقمي (La réalité numérique) الذي تحوّله الشاشة إلى حقيقة يمتلكها المُسْتَعْمِل ولا يمتلكها في الآن نفسه، لأنّ الآخرين يستعملونها بالتزامن معه، ويمكن ألا يعثروا عليها بعد ذلك[1].

يعرّف القاموس الموسوعي للمعلومات والتوثيق مصطلح الرقمنة على أنها عمليَّة الكترونيَّة لإنتاج رموز الكترونيَّة او رقميَّة سواء من خلال وثيقة أو أي شيء مادّي أو من خلال إشارات إلكترونيَّة تناظريَّة[2].

وتعرّفها الجمعيَّة الدوليَّة للمترجمين واللغويين العرب بالنسبة للأشياء غير المحسوسة كالمعلومات بأنها ” عمليَّة تحويلها من شكلها التماثلي غالبا إلى شكل رقم مكافئ”[3] وبالتالي فالرّقمنة أو التحويل الرقمي Digitalisation هو عمليَّة تحويل البيانات إلى شكل رقمي وذلك لأجل معالجتها بواسطة الحاسب الالكتروني وفي سياق نظم المعلومات ويتمّ القيام بهذه العمليَّة  باستخدام مجموعة من التقنيات والأجهزة المتخصِّصة.

إنّ عمليَّة الرّقمنة من أهمّ انجازات التقنيَّة الرقميَّة لأنّها ساعدت في تحقيق الاندماج بين الكمبيوتر وشبكات الاتّصالات والبرمجيات جاعلة من هذه التقنيات الوسيلة الفعّالة في تحقيق التكامل بين العلوم والفنون وامتزاج المعارف والخبرات إذ تعمل على تحويل جميع المعلومات إلى شكل رقمي عبر إسقاط الحواجز الفاصلة بين الأنساق الرمزيَّة المختلفة من نصوص وأصوات وأشكال وصور ثابتة ومتحرِّكة[4].

 

الرّقمنة هي إذن عمليَّة تحويل مصادر المعلومات على اختلاف أشكالها (كتب، دوريّات، صور، تسجيلات صوتيَّة…) إلى شكل مقروء آليا بواسطة استخدام الحاسب الآلي.

ويمكن استخلاص أنَّ المفاهيم السابقة تتشارك في أن عمليَّة الرقمنة لا تعني فقط الحصول على مجموعات من النصوص الإلكترونيَّة وإدارتها، ولكن تتعلَّق في الأساس بتحويل مصدر المعلومات المتاح في شكل ورقي أو على وسيط تخزين تقليدي إلى شكلٍ إلكتروني، وبالتالي يصبح النصّ التقليدي نصًّا مرقمنًا يمكن الاطلاع عليه من خلال تقنيات الحاسبات الآليَّة.

 

الرّقمنة هي  عمليَّة تحويل مصادر المعلومات على اختلاف أشكالها (كتب، دوريّات، صور، تسجيلات صوتيَّة…) إلى شكل مقروء آليا بواسطة استخدام الحاسب الآلي.

– تجربة الدول السبّاقة في رقمنة التعليم

شهدت العشريَّة الأخيرة من القرن العشرين تجارب رقميَّة عديدة استهدفت جلّها مجال التعليم. وتعتبر كندا سبَّاقة في هذا المجال فمنذ سنة 1993 شرعت في رقمنة بعض المصادر التعليميَّة ليتطور الأمر فيما بعد ويشمل جملة من الخدمات التعليميَّة الأساسيَّة. ومن جهتها حقَّقت بلدان جنوب وشرق آسيا – ونخصّ بالذكر سنغافورة وكوريا الجنوبيَّة- ثورة في مجال رقمنة التعليم وذلك من خلال إعطاءهما أهميَّة قصوى في المناهج الدراسيَّة والعمل على تطبيقها لتشمل كل المستويات بداية من الابتدائي وصولا للكليّات، دون تجاهل الجانب التكويني للمدرّسين، وذلك من خلال تخصيص استثمارات جد هامَّة للتطوير وإبرام الاتّفاقيات مع المنظّمات العالميَّة المختصَّة في هذا المجال مثل شبكة الشباب العالميَّة من أجل السلام بالنسبة للتجربة الكوريَّة. وقد كان الغرض من ذلك هو استثمار الخبرات السابقة لبعض الدول.

أمَّا الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة فقد كانت رائدة في هذا المجال، إذ قامت بعقد شراكات مع مؤسّسات مختصّة ليصبح التعليم الرقمي متاحا حتى للأشخاص المنتمين للجهاز العسكري.

وفي العموم انخرطت بعض الدول السباقة في رقمنة أنظمتها التعليميَّة في استعمال الأجهزة اللوحيَّة ليس فقط لخفّة وزنها، بل لأنها تحتوي على العديد من التطبيقات التعليميَّة، فضلا عن كونها تمثّل منصَّة إلكترونيَّة قادرة على استيعاب كل المقرّرات التعليميَّة، كما تمكّن أيضا من تنميَّة مهارات القراءة والتفكير والاستماع والابتكار الفردي وحلّ المشكلات العويصة.

وقد شرعت عدّة دول على غرار الكندا والولايات المتّحدة الأمريكيَّة وفرنسا واليابان وسنغافورة وأستراليا  في ادماج الأجهزة اللوحيَّة في العمليَّة التعليميَّة في خطوة جريئة لتثوير طريقة التعليم الكلاسيكي القائم على التلقين العمودي وإرساء منوال ” القسم المقلوب”ِ Classe renversée  وهو نموذج تربوي  يقوم على مقاربة التعليم عن بعد باستخدام التقنيات الحديثة وشبكة الإنترنت بطريقة تسمح للمعلّم بإعداد الدرس عن طريق مقاطع فيديو أو ملفَّات صوتيَّة أو غيرها من الوسائط، ليطّلع عليها الطلاب في منازلهم أو في أي مكان آخر باستعمال حواسيبهم أو هواتفهم الذكيَّة أو أجهزتهم اللوحيَّة قبل حضور الدرس. في حين يُخصص وقت المحاضرة للمناقشات والمشاريع والتدريبات. ويعتبر الفيديو عنصرا أساسيّا في هذا النمط من التعليم حيث يقوم المعلِّم بإعداد مقطع فيديو مدّته ما بين 5 إلى 10 دقائق ويشاركه مع الطلاب في أحد مواقع الـواب أو شبكات التواصل الاجتماعي.

وهكذا فإنّ مفهوم “الفصل المقلوب” يضمن إلى حدٍّ كبير الاسـتغلال الأمثل لوقت المعلم أثناء الحصَّة، حيث يقيّم المعلِّم مستوى التلاميذ والطلاب في بداية الحصَّة ثم يُصمّم الأنشطة داخل القسم من خلال التركيز على توضيح المفاهيم وتثبيت المعارف والمهارات. ومن ثمّ يشرف على أنشطتهم ويقدِّمُ الدعم المناسب للمتعثِّرين منهم وبالتالي تكون مستويات الفهم والتحصيل العـلمي عالية جداً، لأن المعلّم راعى الفروقات الفرديَّة بين المتعلِّمين.

  • رقمنة المدرسة التونسيَّة: السياقات والتحدّيات

بدأ الحديث عن رقمنة المدارس بصفة فعليَّة مع إصلاح ناجي جلول في 2016.  وتجدر الإشارة أن مصطلح الرّقمنة اقترن منذ البداية في تونس بالمكتبات والأرشيف. بيد أنَّ الإصلاحات السابقة كانت قد أشارت إلى هذا المشروع بألفاظ مغايرة. ففي إصلاح 1991 تمَّت الإشارة إلى أهميَّة الإعلاميَّة وإدماج تكنولوجيا المعلومات ومسايرة متغيّرات الواقع التكنولوجي للمدرسة التونسيَّة. هذا وقد ذكر قانون 1991 بعض الإجراءات المهمَّة لنجاح هذا المشروع من أهمّها تكوين مدرّسي مرحلة التعليم الثانوي في مجال اشتغال الحواسيب كذلك العمل على إدراج الإعلاميَّة مادة للتدريس في سنوات الرابعة من التعليم الثانوي[5].

ثمّ أتى إصلاح 2002 مع منصر الرويسي ليكمل ما بدأه محمد الشرفي في إصلاح 1991، إذ عمل هو الآخر على فتح مجال أكثر لاستعمال تقنيات التواصل الحديثة في التدريس ومحاولة القطع مع كل ما هو تقليدي. إضافة إلى مواصلة تكوين المدرّسين في مجال الإعلاميَّة والسعي إلى تجهيز جلّ المدارس الابتدائيَّة بقاعات إعلاميَّة وربطها بالشبكة العنكبوتيَّة.

ولم يقتصر دور الدولة على تجهيز المدارس فقط بل سعت إلى ربط العائلات بشبكة الإنترنت من خلال إطلاق مشروع “الحاسوب العائلي” وهو مشروع يسمح للعائلات محدودة الدخل بامتلاك حاسوب منزلي.  ولقد لقي هذا المشروع صدى حيث قدر عدد مبيعات الحواسيب ب 42 ألف كمبيوتر سنة 2004 وبلغت نسبة ارتباط المدارس والمعاهد الثانويَّة بشبكة الانترنت 100% سنة 2006 [6].

ومع إصلاح 2016 ناجي جلول بدأ الحديث عن المدرسة الرقميَّة والأهداف المرصودة لتحقيق هذا المشروع، وقد كان أبرزها رسم السياسات وإرساء منظومة قيادة وحوكمة ومساندة وتقييم مشروع المدرسة الرقميَّة على كافة المستويات ضمن خطَّة عمل تمتدّ من 2016 إلى 2018، وفيها تقرّر إحداث هيئة تسهر على حسن سير المشروع وإدراج التعليم الرقمي ضمن أولويّات مشروع المؤسّسة[7].

 

لم يقتصر دور الدولة على تجهيز المدارس فقط بل سعت إلى ربط العائلات بشبكة الإنترنت من خلال إطلاق مشروع “الحاسوب العائلي” وهو مشروع يسمح للعائلات محدودة الدخل بامتلاك حاسوب منزلي.

  • التحدّيات الماديَّة

قدّرت الميزانيَّة المخصَّصة لوزارة التربية سنة 2019 ب 5.5 مليار دينار بنسبة تقدّر ب 13.65 بالمائة من إجمالي الميزانيَّة العامَّة للجمهوريَّة التونسيَّة، وبالرجوع بالنظر إلى الباب الخامس من قانون الميزانيَّة المتعلِّق بوزارة التربية، تبلغ الاعتمادات المرصودة للمرحلة الابتدائيَّة حوالي 1،8 مليار دينار أي ما يعادل 32 % من ميزانيَّة وزارة التربية، خصَّص منها 50 مليون دينار كنفقات موجهة نحو التنمية 4٪ منها (2 مليون دينار) فقط لبرنامج تعميم الإعلاميَّة بالمدارس الابتدائيَّة[8].

 

وعيا منّها بهذه النواقص، وقعت وزارة التربية في شهر سبتمبر 2019، الاثنين، اتفاقيَّة شراكة مع الشركة الصينيَّة لتصنيع معدّات الاتصالات السلكيَّة واللاسلكيَّة والإلكترونيات الاستهلاكيَّة « هواوي »، على اتفاقيَّة شراكة تتولى بمقتضاها هذه الشركة المساعدة على رقمنة التعليم الابتدائي والاعدادي والثانوي في تونس ودراسة خطواتها.
وتنصّ الاتفاقيَّة، التي تمّ توقيعها على هامش الدورة الثالثة لمنتدى هواوي للابتكار التكنولوجي في شمال افريقيا، على إرساء البنية الأساسيَّة اللازمة لعمليَّة الرقمة من خلال تركيز شبكة تحتوي على تكنولوجيات المعلومات والاتصال. وتنصّ الاتفاقيَّة في المرحلة الثانية من المشروع على إحداث خدمات التعلّم الذكي الخاصّ بالتلاميذ من خلال استعمال التكنولوجيات الحديثة ومدّهم بالمعلومة حسب حاجياتهم وسدّ ثغرات نقصه والعمل على تلافيها ومعالجتها وذلك باستعمال الذكاء الاصطناعي.
وفي مرحلة ثالثة سيقع تبادل الخبرات في مجال التعلم وإدماج التكنولوجيات الحديثة للمعلومات والاتّصال في المجال ومسايرة أحدث التكنولوجيات الرقميَّة في العالم.
وبخصوص المرحلة الرابعة، سيتمّ إحداث ملتقيات مشتركة مع « هواوي » لتبادل الخبرات حتى يكون التلميذ التونسي مواكبا للتحوّلات والتطوّرات الحديثة للتكنولوجيا.
وبعد استكمال المراحل الأربع، سيتمّ وضع استراتيجيَّة تشاركيَّة وتطبيقها على أرض الواقع بالحصول على آخر المعدّات التكنولوجيَّة الحديثة وتركيزها حسب حاجيّات التلاميذ وحسب الدراسات التي ستطلقها الوزارة. من جهته، عبّر وزير التربية، حاتم بن سالم، عن أمله في أن تدخل الاتّفاقيَّة الممضاة في شراكة فاعلة بين الوزارة والطرف الصيني باعتبار أنّ المسار الإصلاحي لقطاع التربية يمرّ حتما عبر إدماج التكنولوجيّات الحديثة، مبيّنا، في ذات السياق، إنّ الاتفاقيَّة هي نتيجة مجهود الوزارة الإصلاحي الذي كانت تعمل عليه لرقمنة المؤسَّسات التربويَّة منذ سنتين.

وذكر بأن الثورة الرقميَّة التي يعيشها العالم يجب على تونس أن تنصهر فيها، مؤكّدا عمل الوزارة على تنفيذ استراتيجيَّة الرقمنة بكل ملامحها، وعلى متابعة إنجاز الاتفاقيَّة[9].

  • التحدِّيات البشريَّة
  • تكوين المدرِّسين

لقد أكَّدت كل الإصلاحات التربويَّة التي تبنَّت فكرة إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتّصال على ضرورة تكوين العنصر البشري في هذا المجال ممّا يضمن أساتذة أكفّاء في مجال الإعلاميَّة.  وبالفعل انكبّ المعهد القومي للمكتبيَّة والإعلاميَّة منذ سنة1995 على تكوين مدرسي المرحلة الثانويَّة في مجال اشتغال الحواسيب، إلا أن هذا التكوين لم يبلغ أهدافه بالشكل المأمول وظلَّت نتائجه محدودة وذلك لعدَّة أسباب أهمّها:

  • الوقت المخصَّص للتكوين لم يكن كافيا.
  • التكوين نظري ولا صلة له بالتطبيق على أرض الواقع.
  • لم يكن التكوين مستمرّا بل متقطّعا.
  • تأهيل التلميذ التونسي

شرعت مصالح وزارة التربية في رقمنة أنظمة إدارة معلومات التلاميذ عن طريق استخدام برامج التسجيل عن بعد، وهو ما سيسمح للمؤسَّسة التربويَّة بوضع خطَّة مستقبليَّة لعملها، ومعرفة كيفيَّة تحقيق ذلك، وأيضاً رصد ومُتابعة النتائج. وسوف يُسهّل ذلك “الإدارة الذكيَّة” لشؤون التلاميذ وفق نزعة تؤكِّد قيمة التلميذ الإنسان وتحترم قدراته واختلافاته وحدوده.

كما سيمكّن من تجميع كافة المعلومات في مكان واحد: فعندما يتّصل التلميذ بالمؤسَّسة ويجد أنّ كافة المعلومات الخاصَّة به مُجمّعة في مكان واحد ومحينة وقابلة للاستخدام الفوري، حينها ستتغيَّر طريقة تعامله مع هذه الإدارة نحو مزيد من الثقة والاحترام وسيسمح بإمكانيَّة اتِّصال الأولياء بالمدرّسين والحصول على كافة المعطيات الخاصَّة بمنظوريهم رقميا وعن بعد.

أكَّدت كل الإصلاحات التربويَّة التي تبنَّت فكرة إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتّصال على ضرورة تكوين العنصر البشري في هذا المجال ممّا يضمن أساتذة أكفّاء في مجال الإعلاميَّة.


التحدّيات اللوجيستيَّة

تحدٍّ آخر ينضاف لجملة التحدّيات التي تعيق تحقيق مشروع الرّقمنة على أرض الواقع، وهو التحدّي اللوجيستي. يتعلَّق الأمر هنا بالحديث عن مدارس تفتقر لأدنى المعدّات الحياتيَّة: أقسام بدون نوافذ تسمح بمرور الأمطار في فصل الشتاء وحيطان متداعية وغياب شروط إمكان الحياة الدنيا( الماء والكهرباء والمطعم المدرسي ودورات المياه). أضف إلى ذلك مشكل الطرقات، فالمدارس الابتدائيَّة في المناطق الداخليَّة الريفيَّة تبعد كيلومترات عن مقر سكن التلاميذ مما يدفعهم للسير على الأقدام لمسافات طويلة يوميا للوصول إلى المدرسة في ظل غياب تام لتوفير وسائل المواصلات من طرف الدولة. والأغرب من كل هذا أنك تجد قاعة إعلاميَّة مجهَّزة بحواسيب لم تستعمل البتة نظرا لعدم وصل المدرسة بالكهرباء. وفي صورة ما توفر ذلك، يعترضك مشكل ربط الأجهزة بشبكة الانترنت، وفي صورة ما تحقّق ذلك، ستحتاج إلى مدرّسين متكونين بطريقة علميَّة في كيفيَّة استعمال الحواسيب وخاصَّة إصلاح أعطابها وإعادة تشغيلها حينيا حتى لا تتعطَّل الدروس وينعدم الربط بالعالم الخارجي.

وفي ظلّ وجود أكثر من 400 مدرسة في تونس غير مؤهَّلة للتدريس التقليدي بالمرَّة للأسباب التي عددناها، نتساءل كيف ستكون قادرة على احتضان مشروع الرقمنة؟  وكيف لبطون خاوية وأجسام أنهكها تعب الطريق وانعدام الماء والكهرباء ودورات المياه أن تستوعب مشروع الرّقمنة[10]؟

 

  • المخرجات
  • تهيئة البنية التحتيَّة الضروريَّة في المدارس والمعاهد الريفيَّة والجامعات الداخليَّة (في إطار سياسة التمييز الإيجابي) لاحتضان الأنظمة الرقميَّة التعليميَّة.
  • تخصيص اعتمادات كافيَّة لتعميم ومتابعة تنفيذ مشروع رقمنة الأنظمة التعليميَّة الثلاث: الأساسي والمتوسط والعالي.
  • وضع خطط تكوين دائمة لتكوين المدرسين بمختلف مراحلهم بخصوص الاستحداثات المستمرة للتكنولوجيات الإعلاميَّة الموظفة لمجالات التعلم بمختلف تخصصاته.
  • إبرام اتفاقيات مع شركات الاتصال لتحسين جودة خدمات الإنترنت المقدمة وتقديم امتيازات جبائيَّة كحافز لخلق تنافسيَّة بينها.

 

الخاتمة 

لا يزال مشروع رقمنة المنظومة التعليميَّة التونسيَّة متعثِّرا إلى حدّ اليوم نظرا لضعف التجهيزات داخل المدارس (الحواسيب والربط بالشبكة وسيولة التواصل والربط السريع، الخ) إضافة إلى عدم مواكبة غالبيَّة المدرّسين في المراحل الثلاث للأجيال الجديدة من تكنولوجيات الاتّصال. وهو ما بات يتطلَّب إرساء سياسة “التعلُّم مدى الحياة” كما يقتضيها “مجتمع المعرفة” من أجل المواكبة المستمرَّة للتطوّر المعلوماتي في الدول المنتجة للبرمجيَّات والمصنّعة للحواسيب. لكن وبالتوازي مع هذا يتعيَّن الانتباه إلى ما نطلق عليه: “الإنصاف الرقمي” بين الجهات وإنهاء وضعيَّات التفاوت بين المدن والأرياف والشمال والجنوب من خلال تركيز المنظومات الرقميَّة والخبراء والأجهزة في الأوساط الحضريَّة ومراكز القرار ومواصلة حرمان مناطق الأطراف من حقّها في النفاذ إلى مجتمع المعرفة.

__________

[1]Stéphane Vial; L’être et l’écran; Presses Universitaires de France ـ PUF; 2013.

[2] محمد محمد الهادي , توجهات توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتقدمة في مرافق المعلومات والمكتبات , القاهرة , المكتبة الأكاديميَّة , 2004 , ص 31

[3] الجمعيَّة الدوليَّة للمترجمين واللغويين العرب  http://www.wata.cc

[4] علي نبيل , الثقافة العربيَّة وعصر المعلومات , رؤيَّة لمستقبل الخطاب الثقافي العربي , سلسلة عالم المعرفة , المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب , الكويت , 2001 , ص 77 – 78

[5]_ القانون عدد 65 لسنة 1991 مؤرخ في 29 جويليَّة 1991 المتعلق بالنظام التربوي

[6]https://nawaat.org/portail/2006/12/13/rapport-tunisie-libertes-internet-monde-arabe/

[7]الكتاب الأبيض مشروع إصلاح المنظومة التربويَّة في تونس، ماي 2016 الصفحة 147

[8]قانون ميزانيَّة وزارة التربيَّة  2019 الصفحات 13 و15 و22

http://www.finances.gov.tn/index.php?option=com_jdownloads&view=view.download&catid=28&cid=1468&lang=ar-AA

[9] http://www.radiotunisienne.tn/2019/09/23/

[10]بسمة بركات،كوارث في مدارس تونس،27 فيفري 2018 ,https://www.alaraby.co.uk/society/2018/2/27/


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة