أصبح خطاب الجمهور في كرة القدم، خطابا ذا معنى، لا يقلّ أهميَّة عن باقي الخطابات الأخرى، المشهورة والمعروفة، التي حُدِّدت لها أسسها المعرفيَّة، وضوابطها الإجرائيَّة، وهذا الـمُـتَحقّقُ التأسيسي التأصيلي، حاضر في خطاب بلاغة الجمهور، وقد أَشَرتُ في مقال كتبته عن أغنية “النور فالظلمة”، بأنَّ الباحث المصري عماد عبد الطيف، شَرعَ في وضع مآسيس هذا الخطاب، مُحدِّدا مفاهيمه وقواعده، وأسسه وقضاياه المتعدِّدة، ونقول بحذر معرفي إنَّ خطاب الجمهور في الملاعب أصبح له أثر كبير وظاهر في عامَّة الناس، لقد تَجلَّت خباياه، وبدت مضامينه، وتعيَّنت مظاهره بعد أن كانت مستغلقة. وتجلَّى من خلال مواكبة مختلف أغاني الإلتراس المغربيَّة، أنها تضمّ الواقع إلى جنبها، وتُعَبّرُ عنه بما يبدو لها مؤثِّرا ومستميلا. أمست الكلمة الموسيقيَّة في أغاني فصائل كرة القدم عالما مُصَوّرا بألحان موسيقيَّة، وكلمات متناسقة، تتواشج مع صورة الواقع المعيش، إنَّ الأغاني التي تنشدها الجماهير في المدرجات لا تُسمع أصداءها في الملاعب فحسب، ولا تزلزل الملعب الذي تُنْشَدُ فيه فقط، بل يتطابق هذا الصدى والتزلزل، أو الصدى المزلزل مع الواقع، لأنَّ صداها يصل إلى القلوب ويزلزلها أيضا، ويجعل المشاعر فيَّاضة وجيَّاشة، ويُظْهِرُ الأنساق المضمرة في المجتمع، ويعبِّر عن أفراحه وأتراحه، ومحاسنه ومساوئه، وفظاعته وفظاظته.
أَشرتُ إلى أنَّ خطاب الجمهور خطاب مضبوط الأسس والمفاهيم، ومتشعِّب القضايا والتوجّهات، يتناول موضوعات تستهوي العامَّة، وتخاطب الفئة الهامشيَّة، وتتسلَّل إلى عقولها، وتجذب قلوبها تأثيرا واستمالة، وهذا التحَقّقُ النظري سنبيّنه تطبيقيا في أغنية “دموع لميمات”، التي أنشدها فصيل الوينرز، لإبانة مشاعر الأمّهات تجاه الأبناء الذين يذهبون إلى الملاعب لتشجيع فريقهم، تاركين قلب الأم في حيرة مشتعلة، ونبضات مضطربة، وبالٍ مهزوز، وضمير مشوش، وهَمٍّ دائمٍ لا حد له إلا بعد رؤيَّة ابنها، ولذلك فإنني أتغيا في المقالة الاقتراب من المضمر وتجلياته في “أغنية دموع لميمات”، وسأبدي هذا الأمر بدراسة مقاطع الأغنية وتأويلها، وجَعْلِ معانيها متعينة للقارئ.
أودّ أن أشير قبل إظهار المضمر في الأغنية، إلى إظهار المضمر الذاتي، الذي كان سببا في كتابة المقالة، ومتجلٍّ أساسا في الشوق الذي شدَّني تجاه أمي، شوق يصطلي بنار الحنين، بعد فترة الحجر الصحي الممتدَّة، بفعل انتشار فيروس كورونا، الذي منعنا من رؤيتها، وأظن أن وصف الإحساس ههنا يقتضي كتابة مستقلَّة، وحتى لا أدع القارئ العزيز يتشوَّق أكثر، أقوده معي في رحلة كشف المضمر، وأحسبك عزيزي قارئا صبورا لن يملّ ولن يكلَّ في تتبُّع هذه السطور وقراءتها؛ لأنَّ القراءة الصبورة _كما قال أحمد المديني_ “أساسيَّة لتمثِّل كل تجربة فنيَّة”، ستتمثَّل لنا التجربة الفنيَّة المضمرة في أغنية “دموع لميمات”، وسنبيِّنها في أمرين اثنين، الأول بادٍ في الشغف في حبِّ النادي، والثاني ظاهر في تقديس مشاعر الأمهات.
إنَّ الأغاني التي تنشدها الجماهير في المدرجات لا تُسمع أصداءها في الملاعب فحسب، ولا تزلزل الملعب الذي تُنْشَدُ فيه فقط، بل يتطابق هذا الصدى والتزلزل، أو الصدى المزلزل مع الواقع، لأنَّ صداها يصل إلى القلوب ويزلزلها أيضا، ويجعل المشاعر فيَّاضة وجيَّاشة، ويُظْهِرُ الأنساق المضمرة في المجتمع، ويعبِّر عن أفراحه وأتراحه، ومحاسنه ومساوئه، وفظاعته وفظاظته.
الشغف في حبِّ النادي أو الحبّ الأبدي المتساوي مع الأمومة:
تبدأ المقاطع الأولى من الأغنية بإبراز الشغف الذي يكنّه الجمهور الودادي في حبِّ النادي، باعتباره شغفا يتحدَّى حبّ الأمومة وشوقها في أحايين كثيرة. شغفٌ لا يقف أمامه أي شيء، ولن يحدّ من تزايده شخص معين، شغف يتمدَّد ويتوارد كل يوم، والدليل المؤكِّد لهذا، استحضار لفظة الأم في الأغنية بوصفها أقرب الناس إلى ابنها، فرغم أن قلبها يحسّ بأي شيء يرتبط بالابن، فهي غير قادرة على إيقاف شغف ذهابه إلى الملاعب لتشجيع فريقه، معناه أن المضمر بصيغة الجمع ينطق بأَنْ لا أحد يستطيع منع جمهور الوداد من الذهاب إلى الملعب وتشجيع النادي، فحتى الأمّ التي تتعلَّق بنا أشدّ التعلق، ونحبّها أسمى حب، لن تستطيع منعنا، إنها تحترم الشغف المقدَّس وتُقدّره، وعليه لن يتجرّأ أحد على الوقوف في وجه الجمهور لمنعه من متابعة الفريق، لأنّ الأمّ التي حملتهم في بطنها شهورا، وربّتهم بعد الولادة سنوات، لم تستطع أن تَحُدّ من حبّهم الأبدي تجاه النادي، والذي يقودهم أيضا إلى السفر معه أينما حلَّ وارتحل، جاء في الأغنية بدارجة المغربيَّة ما يلي:
“بدموع لميمات نكتب هاذ السطور، حياتنا سبيطارات، يا كفن يا جيور، باسيون نعيشوها، كيف ندير باش نحبس”.
تحويلا هذه الكلمات إلى العربيَّة نقول: “بدموع الأمهات، أكتب هذه السطور، حياتنا في المستشفيات، إمّا كفن أو سجن، نعيش الشغف، ماذا سأفعل حتى أقف؟”.
ننصت إلى المقطع بعد تحويله إلى العربيَّة الفصحى، فنقول: إنَّ السبب الذي يجعل الأمّهات يمنعن أبناءهن من الذهاب إلى الملاعب هو الخوف من موتهم أو سجنهم، أو تعرّضهم لمكروه معين، ولكن هذه الأشياء لا تساوي شيئا أمام الشغف، لن تمنعهم أبدا، ولن تنقص من شغفهم، والسؤال المطروح في الأغنية: “كيف ندير باش نحبس؟” أو “ماذا سأفعل حتى أقف”؟، منطوقه أنه بالرغم من هذه الشدائد الأليمة والمصائب الفظيعة، والمتاعب المهولة، فهم غير قادرين على الوقوف، ولم يجدوا حلا غير مواصلة التشجيع، لأن الشغف عندهم مقدَّس، يصل إلى حدّ التساوي مع شغف الأمومة، لا يجعلون من الوداد ناديا فقط، بل هو بمثابة الأم التي تحضنهم وتربِّت على أكتافهم، وتضمّهم أوقات جراحهم، وتهتمّ بأفراحهم وأحزانهم، هي الشافية لمأساتهم، والكافية لتضميدهم والتخفيف من معاناتهم.
إنَّ ما يكون وراء الشغف المقدَّس أو الحبّ الأبدي من الشدائد محمود أمره، ولن يمنع جمهور القلعة الحمراء من التشجيع، وحتى الأمّ لم تَقْدِر أو بالأحرى غير قادرة على هذا المنع، ولذلك يبقى الجواب عن سؤال: ماذا سأفعل حتى أقف؟ مفتوحا لا إجابة له؛ لأن الدرجة الأسمى في الحبّ، يكنّها الأبناء إلى أمّهم، إلا أن هذا لم يمنعهم من المغامرة في متابعة الفريق وتشجيعه، وبما أن الأمّ عجزت عن المنع، فالشغف متزايد ومتواصل ومتجدِّد، سيبقى حبّا أبديّا، وشغفا مقدّسا لا نهاية له.
هذا هو المضمر الأوَّل الذي أبديته مع عزيزي القارئ في هذه الرحلة، وعليه فمهما اشتدَّت المعاناة، فإنَّ جماهير الوداد لن تكفّ عن التشجيع، ولن يمنعها أحد، شغفها مقدَّس لا مانع له، ولا حاجز، وحبّها أبدي متساوٍ مع حبّ الأمومة، فالوداد والأم وجهان متساويان متكاملان ومتشاكلان، يتقاسم معهما محبّ وعاشق الوداد المشاعر نفسها. حضنان مداويان للجراح، ومسكنان لها.
تبدى أن الأغنية تضمر الشغف المقدّس أو الحب الأبدي، المتجلّي أساسا في جمهور القلعة الحمراء، والذي ينسيهم ما يعشونه من المرارة والمكائد والمصائب، وما يتشابه مع هذا من المعاناة، إنَّ ما يأتي من المشاكل بسبب الشغف المقدَّس يتمّ تجاوزه بالشغف نفسه.
تقديس دموع الأمومة:
نصل إلى المضمر الثاني الذي تبديه الأغنية، وأَستمر مع القارئ الكريم لإظهاره وبيانه، وأرى أنَّه قد تساكنت في قلبه معاني المضمر الأول، وتماثلت له في قلبه كما وعدته، وسنتسلَّل إلى مضمرٍ ثان يظهر جليا في تقديس دموع ومشاعر الأمومة، والاعتذار منها، لكون أنَّ الجمهور الأحمر بفعل الشغف المقدَّس، لم يُقَدّر مشاعر أمه ولم يحترم أحاسيسها، ولم يهتمّ بما تحمله من الخوف والألم، خشية أن يحصل له مكروه ما، بسبب الذهاب إلى الملعب، تاركا إيّاها في حيرة وقلق. حيرة في القلب، وقلق في العقل، هما عنفان اثنان، لا يجلعان الأم مرتاحة ومطمئنَّة حتى ترى ابنها أمام أعينها كما هو، فهي تظلّ باكية ومتألّمة ما لم تسمع خبر العودة، دائما ما تحاول إقناعه بعدم الذهاب إلى الملعب، ولكن الشغف بالأحمر يسطو على مشاعر الابن، وبه قد قلنا: إنَّ سؤال الوقوف أو الحدّ من الشغف يظلّ مفتوحا، والموت هو القادر على الحدّ منه، نُطّعم هذا الفَسْرُ المضمر في الأغنية بتأويل المقطع الآتي:
“مقاصدش نبكيك، حاس بيك كتبكي بلا حس، يا حسن عوانها، يا ديك لميمة، يا ديما فبالها يا ديك لحنينة، الله اسمح لينا من ولادينا، حبك يا لحمرا بليا لي فينا، كيف اصوني التيلفون، ولدي أش خبارك، تسقسي وبالها مشطون، نتمنى نبوس راسك،…معندي ما نخبي جمرة شعلا فقلبي”،
تحويلا للمقطع نقول: “لم أقصد أن أبكيك، أحس بك أن تبكين بلا إحساس، تلك الأم دائما حاضر في بالها، تلك الـمُــحِنة، سمح الله لنا من والدينا. حبك يا حمراء بلاء فينا، إذا رن الهاتف، ابني ما أحوالك؟ تسأل وبالها حيران، أتمنى أن أقبل رأسك، لا شيء عندي لأخفيه، جمرة تشتعل في قلبي”.
دموع الأمّهات التي تُذرف بسبب حزنهن على أولادهن أثناء الذهاب إلى تشجيع الفريق، أو الشغف بحبّه، يُخَلّفُ فيهن هلعا وخوفا، ويحدث لهن قلقا وتشويشا في الدماغ، وتألّما في القلب، وتفيض من أعينهن دموعٌ غالية، وهذه مسائل كانت سببا رئيسا في كتابة الإلتراس الوداديَّة لسطور الأغنية، وإنشادها في المدرجات، تقديسا لدموعهن الطاهرة، واحتراما لهن، والاعتذار منهن، لعدم اشعارهن بالراحة والطمأنينة، بجعلهن حائرات البال، وقت الذهاب إلى الملعب، وهذا أمر لا مشكلة فيه أن يقع؛ لأنَّ حبّهم الأبدي وشغفهم المقدَّس لا يوقفه أحد مهما كان، وعلى هذا الاعتبار تغنَّت جماهير الوينرز بالأم وقدَّمت لها كلمات مليئة بالحبّ والتقدير، تعظيما لدموعها تجاه الابن الشغوف بشقّ جميع الطرق التي ينحوها النادي.
يبدأ المقطع بعبارة استهوائيَّة وتأثيريَّة، فحواها أنَّ الجماهير لا قصد لهم في جعل الأمهات يذرفن دموعا، ولا أن يتألمن كثيرا، ولا أن يعشن ساعات ألم مليئة بالضجر تشوّقا لرؤية أبنائهن، الذين يستمتعون بالشغف، دون الاكتراث إلى كبد الأمّ المحترق. إنهم يحسّون بأحاسيسها وأشواقها وفضائلها، ومدى مبالغتها في حُبّ ابنها الشغوف حبًّا يبلغ مبلغ الجنون. الابن يظل ساكنا في قلبها وبالها ساكنا، هي التي تحنّ عليه وتحضنه، وتُعَظّم قدره، وتسأل عنه في غيابه، لا تهدأ حالتها النفسيَّة حتى تنظر إليه، ويتناص هذا التقديس مع آيات أوصى فيها الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين، فهي آيات جاء فيها الفعل بصيغة الأمر، أمرا بعبادة الله تعالى وعدم إشراك أحد في عبادته، وبعدها مباشرة الأمر بالإحسان إلى الوالدين، قال تعالى في سورة النساء الآيَّة 36: “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا”، وفي الإسراء الآيَّة 23: “وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا”، وفي الأنعام الآيَّة 151: ” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا”.
تجلَّى أنها آيات مُقَدِّرَةٌ لعظامة الأبوة والأمومة، ومعترفة بحظوتهما المائزة بالشرف الرباني والذكر القرآني، وعليه إن أغنية دموع الأمّهات، جعلت الأم حظوة ومحفلا محتفى به، تقديسا لمشاعرها ودموعها ومكانتها في المجتمع، الاحتفاء بدموع الأمهات في الأغنية مُحَدّد لشعريتها وقيمتها، ومؤكَّد لمسألة أن أغاني فصائل الوينرز خطابات مؤثرة، ذات رسائل واقعيَّة.
فما تنطق به الأغنية أمر مترابط مع ما تعيشه الأمهات من ألم وحيرة بفعل إصرار الجماهير على السفر مع النادي والرحيل معه أينما حلَّ وارتحل، وجمرة الشغف المقدَّس المشتعلة في قلوبهم كانت السبب الرئيس وراء معاناتهن، وبناء على هذا المبكى والـــمَحزن، تُقدِّس الجماهير مشاعر الأمومة، وتعتذر منها، قائلة بأن ما يحدث كله مرتبط بشدَّة الحبّ الأبدي، الذي يكنّه جمهور الوداد للفريق، لا قدرة لهم على إيقاف الشغف، إنه جمرة تزداد اشتعالا متى تمّ إقرار مباراة، أو سماع تتويج أو حلول انتكاسة. حبّ الحمراء وشغفها بلاء يتساوى مع حبّ الأمومة المقدَّس في الأغنية.
أغنية دموع الأمّهات، جعلت الأم حظوة ومحفلا محتفى به، تقديسا لمشاعرها ودموعها ومكانتها في المجتمع، الاحتفاء بدموع الأمهات في الأغنية مُحَدّد لشعريتها وقيمتها، ومؤكَّد لمسألة أن أغاني فصائل الوينرز خطابات مؤثرة، ذات رسائل واقعيَّة.
ومتمِّم القولِ قولنا: بدموع الأمّهات كُتبت هذه السطور، ولا قصد للجماهير في إبكائهن وإحزانهن، إلا أنّ الحبّ الأبدي للنادي أراد شيئا آخر، هو جمرة مشتعلة في قلوبهم، أزالت شكّ الإجابة عن سؤال ماذا سأفعل حتى أقف؟، فيبقى مجهولا وراء الشغف. مضمران اثنان في الأغنية، واحد متجلٍّ في إظهار شغف عشق النادي، وآخر متحقّق في تقديس دموع الأمومة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.